مقالات

جناية المحدثين في صناعة الثقافة الشيعية لدى الأمة السنية

د. طه حامد الدليمي

كان أخطر مصدر لغرس الثقافة الشعوبية التي مهدت لنشر التشيع الثقافي في أوساط الأمة، هو التاريخ. ثم تبين لي في الأوان الأخير أن الحديث – بسبب بعض جوانب الخلل التي يعاني منها المنهج الموضوع طوال الحقبة الماضية، أو الخلل في تطبيق المنهج – كان دوره أخطر من التاريخ في هذا المجال؛ لمنزلة الحديث وقدسيته في الإسلام باعتباره الأصل الثاني الذي يقوم عليه الدين. وينسحب هذا التقديس على الأحاديث التي يتوهم أنها صحيحة، والتي كان لها دور خطير في تشكيل ثقافة شيعية شعوبية تسللت إلى عامة الأمة السنية: نخباً وجماهير.

السند وسيلة والغاية المتن

وضع المحدثون قاعدة نصها: “من أسند فقد برئت ذمته”. والقاعدة في أصلها مقبولة، لكنهم توسعوا في تطبيقها حتى تجاوزوا حدود الشرع والعقل، بحيث أمسى كثير من دواوين الحديث كمستدرك الحاكم ومصنف الصنعاني ومعجم الطبراني مرتعاً لمتون تنز بالتشيع ما دام أن الراوي يقيد متونه بسلسلة السند. وإذ بلغ الأمر هذا المدى فقد وقع في دائرة محظور قوله فيما يرويه الإمام مسلم عن أبي هريرة : (كفى بالمرء كذباً – أو إثماً – أن يحدث بكل ما سمع). ولقد حدث كثير من المحدثين بكل ما سمعوا دون تمحيص اعتماداً على قاعدة “من أسند فقد برئت ذمته”!

لا شك أن السند هو الوسيلة التي بها يتوصل إلى المتن لضمان صحته من ضعفه. لكن الذي حصل هو أن المراتب انعكست بحيث تحول السند لا إلى غاية فقط، وإنما إلى صنم لا يمكن المساس به مهما كان المتن الذي يستند إليه متهاوياً! فما الذي حصل؟

1. لم يجعل العلماء الأقدمون – خصوصاً الفقهاء – من السند الأساس الوحيد لتحقيق صحة الحديث. إنما هو أحد الشروط الأساسية لذلك؛ فهناك أسس أُخرى منها مقبولية المتن من حيث موافقته للكتاب والسنة والأصول والوقائع والعقول.

روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: وقف النبي على قليب بدر فقال: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً)؟ ثم قال: (إنهم الآن يسمعون ما أقول). فذكر لعائشة، فقالت: إنما قال النبي : (إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق). ثم قرأت: (إنك لا تسمع الموتى) (النمل:80) حتى قرأت الآية. فردت الحديث بلفظ (يسمعون) وأثبتته بلفظ (يعلمون). مع أن السند من الصحابي إلى النبي مباشر دون واسطة من راو آخر، والراوي ابن عمر لا غيره! فالوهم ممكن أن يطرأ على الصحابي الذي سمع القول من النبي نفسه. فكيف بسواه لاسيما إذا طالت سلسلة السند! كما ورد في رواية ثانية في (الصحيحين) عن السيدة عائشة رضي الله عنها ردت بها متناً آخر مخالفاً للقرآن الكريم عن عمر بن الخطاب ، وقالت: حسبكم القرآن: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (الأنعام:164). وأضافت: “إنكم لتحدثوني عن غير كاذبين، ولا مكذبين، ولكن السمع يخطئ”.

وقد ذكر العلماء الأقدمون، وأشهرهم المالكية والأحناف شروطاً لقبول الحديث الصحيح السند منها: أن لا يخالف الحديث نص القرآن ظاهراً. وأن لا يكون الخبر مخالفاً للأصول الشرعية والقياس إذا كان الراوي غير فقيه. وأن لا يخالف الخبر عمل كبار الصحابة. وأن لا يخالف الصحابي روايته بعمله. وأضاف المالكية أن لا يكون الخبر مخالفاً لعمل أهل المدينة. وذلك مقتضى تعريف الحديث الصحيح؛ إذ ورد فيه بعد صحة السند “أن لا يكون شاذاً ولا معللاً”.

لكن كثيراً من المحدثين لاسيما المتأخرين يصححون المتن بمجرد صحة السند، وقلما ينظر أحدهم في المتن ومدى موافقته أو مخالفته للقرآن وبقية المحددات. ويقل النظر حتى ليكاد ينعدم إذا كان المروي من صنف المدسوسات الشيعية نتيجة رسوخ الثقافة الشعوبية.

2. تم الانسلال من شرط صحة السند شيئاً فشيئاً. فالسند الضعيف كثيراً ما يُحسَّن بمجرد حيازة الراوي على وصف “الثقة”، وإن كان من بعض علماء الرجال دون بعضهم. مع أن ذلك لا يكفي دون حيازته على وصف “الثبت” المتعلق بالحفظ.

3. والسند الضعيف كثيراً ما يُحسَّن بإضافته إلى سند ضعيف آخر (شواهد ومتابعات) ليرقى إلى درجة (الحسن لغيره).

4. والحسن لغيره من أصناف الحديث (الحسن)؛ فصار الضعيف حسناً.

5. والحديث الحسن من أصناف الحديث (الصحيح). فانتقل الحديث الضعيف إلى درجة الصحيح! وصار دليلاً يحتج به.

6. ولو اقتصر به على الأمور الفروعية والمسائل البسيطة لكان الأمر محتملاً. إنما صار هذا الحديث الضعيف حجة في كثير من الأمور الخطيرة ومنها ما نحن بصدده من أحاديث شعوبية، اختلت لها ثقافة المجتمعات الإسلامية، دون الالتفات إلى خطورة الموضوع. وذلك مخالف لمنهجية الدين في التعامل مع الأحكام والتثبت من الأخبار. فرمضان يثبت برؤية شاهد عدل واحد، بينما السرقة تحتاج لثبوتها إلى شاهدين اثنين. أما الزنا فلا يثبت حكمه إلا بأربعة شهود وبشروط أُخرى تكاد تكون مستحيلة. فكلما كان الأمر خطيراً وكبيراً شدد الشرع في شروط ثبوتيته. لكن هذه المنهجية لا تكاد تحس لوجودها من أثر! فقد تساوت عند السند الأمور البسيطة والخطيرة، والأصول والفروع!

والأمثلة على ما قلت آنفاً لا تحصى كثرة! أكتفي منها بشاهدين للاختصار:

1. حديث ( قاتل عمار وسالبه في النار )

صحح هذا الحديث الشيخ ناصر الدين الألباني بمجموع طرقه. واستند إليه في الحكم على صحابي، وهو أبو الغادية يسار بن سبع الجهني شهد بيعة العقبة، بالنار مستثنياً إياه بذلك من عموم الصحابة الذين دل الدليل على أنهم جميعاً في الجنة([1]). مع أن الحديث لا يصح سنداً إلا على قاعدة تحسين الضعيف بالضعيف، ومنكر متناً([2]). ومن علامات نكارته – إضافة إلى ما سبق – ركاكة لفظه. واستثناء سيدنا عمار من بقية الصحابة بحيث جعل قتله موجباً للنار. وقد قتل في المعركة غير عمار ممن هو مثله أو أفضل منه. والحكم بالنار على مجرد السلب لم يرد في الشرع، سوى أنها تدخل في عموم المعاصي. ولا شيء يخصص عماراً ليرفع حكم سلبه دون غيره إلى درجة دخول النار، وفي قتال بين طائفتين مؤمنتين.

ومن تنبه إلى المؤامرة الفارسية الشعوبية أدرك أن هذه الرواية من وضع أصابع مدسوسة تريد الإساءة إلى سيدنا معاوية وإلى تاريخ خيرة القرون المفضلة.

2. حديث ( أول من يغير سنتي رجل من بني أمية )

حسنه الشيخ الألباني معتمداً على حكم بعض العلماء بتوثيق أحد رواته (مهاجر بن مخلد) بألفاظ لا ترقى إلى الجزم: “صالح”، “صدوق”، “لين الحديث ليس بذاك وليس بالمتقن، يكتب حديثه”. وعقب على هذا بقوله: فمثله لا ينزل حديثه عن مرتبة الحسن[3]. هذا مع أن العقيلي تلميذ البخاري ذكر مهاجر في (الضعفاء)، وعابه بأنه “لا يحفظ”[4].

إن وقفة خاطفة حيال المتن تجعلك تجزم بأن هذا التركيب لا يخرج من فم عربي من عرب ذلك الزمان، فضلاً عن أفصح العرب ! ثم إن نبي الإسلام لا يترك وراءه تراثاً يغرس بذور التفرقة بين أمته، ويجعل بعضها يطعن ببعض. ولا يمكن أن يصدر عنه طعن في أقوى قبائل قريش، وفيها من عظماء الصحابة والرجال والنساء من فيها، والطعن جاء بصيغة الإبهام بحيث يمكن أن يحمل على أي شخص من بني أمية عثمان فمن دونه!

وما الذي سيفعله هذا الرجل؟ يغير سنة النبي ، أي سنة الإسلام! وقد شعر الألباني بحراجة المتن فحاول ترقيعه بقوله: “ولعل المراد بالحديث تغيير نظام اختيار الخليفة، وجعله وراثة. والله أعلم”! أي حمل الذم الموجود في النص على سيدنا معاوية. وهكذا وبمثل هذا السند المهلهل يقبل الطعن بسيد عظيم من سادات الصحابة وعظماء رجالات الأمة؟!

وبمثله تقلب الأمور فيجرح صحابي برواية رجل بتلك الصفات المشكوك فيها. مع أن المنطق السليم يقضي بأن يتوجه الطعن إلى الراوي، وأن يلقن من قبل من سمعه يروي مثل هذا السفه درساً في التأدب مع الصحابة، لا أن يأخذ الرواية عنه وينقلها إلى من بعده! وكان المفترض بدل البحث عن مخارج لقبول رواية مثل هذا المشكوك في أمره، أن يجعل من هذه الرواية دليلاً على الطعن فيه وسبباً كافياً لرد رواياته. لهذا قال الإمام ابن قيم الجوزية: “كل حديث في ذم معاوية فهو كذب. وكل حديث في ذم بني أمية فهو كذب”([5]).

إن هذا المتن صاغه رجل فارسي لا يجيد العربية، وحاقد على الأمويين الذين هم أبرز من وقف ضد المؤامرة الفارسية. ولسنا في حاجة إلى كثير ذكاء أو تأمل لنعرف ذلك. ومهاجر بن مخلد مولى. وكثير من الطعن بسيدنا معاوية مصدره الموالي.

1/2/2017

___________________________________________________________________________________________

  1. – سلسلة الأحاديث الصحيحة، 5/18-19، رقم 2008، الألباني.
  2. – موقع الألوكة، 3/9/2013، الرابط: http://www.alukah.net/sharia/0/59488/ د. بلال فيصل البحر في مبحث طويل بعنوان (النظر والاعتبار في التقصي عن حديث قاتل عمار).
  3. – السلسلة الصحيحة، 4/329-330، الألباني.
  4. – الضعفاء الكبير، 4/208-209، محمد بن عمرو بن موسى العقيلي.
  5. – المنار المنيف في الصحيح والضعيف، ص117، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية.
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى