مقالات

حديث الخلافة وخيوط النسيج الفارسي

د. طه حامد الدليمي

الوعي – أو البصيرة – شيء فوق العلم وأعمق منه.

العلم – مثلاً – أن تسمع بأن وزير الخارجية السعودي زار العراق والتقى رئيس الوزراء. معلومة تداولتها وسائل الإعلام. أما الوعي فيقوم على تحليل هذه المعلومة من خلال طرح جملة أسئلة، أولها: ماذا دار خارج نطاق الإعلام؟ لماذا هذه الزيارة؟ وفي هذا الوقت؟ وفي ضوء المتغيرات الجديدة؟ وماذا سيترتب عليها؟ وما مآلاتها أو انعكاساتها على العراق والمنطقة في المدى القريب والبعيد؟ وغيرها من الأسئلة.

لهذا أمر الله تعالى بالتفكير، أي تحريك العلم والمعلومات المكتسبة. إلا أن التفكير أعدى أعداء الكهنوت الديني والسياسي؛ من هنا ندرك لماذا يشجع هذا الكهنوت المزدوج العلم ويحارب الفكر بشتى الأساليب.

العالِم الحق لا يكون عالماً بمجرد اختزان المعلومة – وهو واقع الأكثرية الكاسحة لعلماء كل عصر – إنما بامتلاكه الوعي أو البصيرة. وهذا سر عناء المجددين. يأتون إلى عالم اقتعد الكهنوت الديني منه المقعد المتقدم لجمهور مبرمج على سياقات تقليدية جامدة.

  • معظم علماء الفروع لا يهمهم من العلم سوى هيكله.
  • فإذا تعاملوا مع الحديث كان موضع نظرهم مركزاً على السند دون المتن. ولا يقلقون عقولهم في النظر إلى مدى مطابقة المتن:
  • للقرآن الكريم.. أو الأصول.. أو السنة الثابتة..
  • للعقل والقياس وطبيعة الأشياء والأحداث، إذا تعلق الحديث بأمور السياسة وغيرها من شؤون الحياة.
  • وإذا نظروا في المتن فإن أكثر ما يشغلهم منه موضوعه الديني معزولاً عن حيثياته، حتى لو كان متعلقاً بالسياسة كحديث الخلافة.
  • وإذا راعوا الملحظ السياسي فيندر أن يتبحروا في المؤامرة التي قامت بها الجهات أو الشعوب الطارئة على الإسلام ودولته الجديدة، خصوصاً الفرس، ويربطوها بالنص.
  • وإذا حصل أن فعل ذلك بعضهم فنادراً ما ينظر في دور الشيعة في المؤامرة وإعادة تصنيع العقل العربي والمسلم. علماً أن للشيعة – والفرس منهم خاصة – دوراً كبيراً في المؤامرة لاسيما في جانبها العلمي، وعلى رأسه الحديث والفقه والتاريخ. وهو أقدم الأدوار، سبق في ميلاده الدور الأمني والسياسي والعسكري؛ من حيث أن العلم بطبعه في متناول الجميع، فلا يحتاج إلى أكثر من قصد حلْقة من الحلقات مع إطالة اللحية والتظاهر بالتقوى، وهو ما يجيده الفارسي إجادة مذهلة، يعجز العقل العربي عن ملاحقتها بمراحل.
  • وقد يكون تركيز السياسي والقومي على دور الفرس، لكنه يغفل أو يتغافل كلياً عن دور الشيعة. فكيف والشيعة غزوا قبل ذلك الفقه وأسانيد الرواية التاريخية والحديثية!

حديث الخلافة والأصابع الفارسية

من شواهدنا على الكلام السابق حديث الخلافة. وكلامي عنه – بعد أن تناولتُه، في البحث المخصص، من جانب متنه وسنده – يقوم على أساس التحليل؛ إذ المؤامرة من طبعها الخفاء فيصعب أن تجد جميع عناصر الدعوى متوافرة، إنما تلتقط خيطاً من هنا وخيطاً من هناك لتنسج من تلك الخيوط النسيج الحقيقي للمؤامرة.

أول خيط نلتقطه: هو أن راوياً اسمه داود بن إبراهيم، مجهولاً تمام المجهولية لا توجد عنه كلمة تعريفية واحدة في كل كتب (الرجال) سوى اسمه وأنه من البصرة، يروي حديثاً مُشكلاً عن راوٍ مختلفٍ في توثيقه من الكوفة، لم يرو عنه هذا الحديث أحد من أهلها.

الخيط الثاني: أن هذا الراوي قال عنه جمع من العلماء المبرزين الذين هم جهابذة علم الحديث كالحافظ المزي، والحافظ أبي الشيخ الأصبهاني وغيرهم: إن داود بن إبراهيم هذا هو الكذاب الذي كان قاضياً بقزوين من قبل الرشيد ثم من قبل الأمين والمأمون… مات سنة أربع عشرة ومائتين بقزوين ودفن بها.

الخيط الثالث: تتبين من خلال السؤال عمن كان المتحكم بالأمر آنذاك، اليد الخفية في تعيين هذا الكذاب قاضياً على قزوين طوال فترة حكم ثلاثة خلفاء متتالين! وهم الفرس البرامكة، ثم وزير المأمون الفارسي الشيعي الفضل بن سهل، الذي كان يسيطر على أمور الدولة سيطرة شبه كلية، علماً أنه صنيعة البرامكة.

وهناك خيوط أُخرى أتركها لذكاء القارئ.

من ضمن خيوط المؤامرة الفارسية هو الدس الديني والفكري، ومنه الطعن في دولة الإسلام لإسقاطها. وأيسر وسيلة لذلك هي أن تسقط بيد أهلها، الذين تم تدجينهم فكرياً مسندين ذلك الفكر الهجين بتأطيره بإطار الدين (الأحاديث المختلقة). لهذا انصب تفكير الفرس على الطعن بنظام حكم دولة الإسلام من الأساس. فإذا اقتنع الجمهور ببطلان أساس النظام سهل عليهم تهييج الجمهور ضد النظام وصولاً إلى تدمير دولة الإسلام.

من هنا ركز الفرس على التفريق بين الخلافة والمُلك.

ومن هنا تجد رواية حذيفة في الخلافة، وسفينة في كونها ثلاثين سنة.. مسلسلة بالموالي الفرس.. داود بن إبراهيم، حبيب بن سالم، سعيد بن جمهان، سفينة المجهول الاسم الذي يدعي أنه صحابي ولم أجد أي دليل على صحبته، ثم ذريته من بعده.. وغيرهم.

ومن هنا نفهم السر في خاتمة حديث حذيفة. وهي: قال حبيب (بن سالم مولى النعمان بن بشير): “فلما قام عمر بن عبد العزيز، وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته، فكتبت إليه بهذا الحديث أذكره إياه، فقلت له: إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين، يعني عمر، بعد الملك العاض والجبرية، فأدخل كتابي على عمر بن عبد العزيز فسر به وأعجبه”.

انظر كيف يتدسسون بأفكارهم المنحرفة لدى الحكام والأمراء والخلفاء!

واسأل كل من عايش الشيعة والفرس ينبئك أن هذا هو أسلوبهم!

يبدو أن الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله متأثر بأفكارهم؛ فأطلق يد الشيعة والخوارج في الدولة دون رقيب ولا حسيب طوال فترة حكمه التي استغرقت ثلاثين شهراً. ولا أستبعد أن يكون ذلك سبباً خطيراً مهد لزوال الدولة الأموية على يد الفرس بعد ثلاثين سنة! والأمر في حاجة إلى بحث.

إن هذا يكشف لنا سراً من أسرار تعظيم سيدنا عمر بن عبد العزيز في الثقافة السائدة إلى حد تمييزه على جميع خلفاء الأمويين حتى سيدنا معاوية ! وصنعوا له سيرة أشبه بالخيال، منها القصة المكذوبة في كون جدته كانت تبيع اللبن وأبت أن تخلطه بالماء، وأن سيدنا عمر بن الخطاب كان يعس ليلاً فسمع محاورتها لأمها في ذلك؛ فكانت سبباً في تزويجها لولده عاصم. وغيرها من الأساطير، مثل رؤيا عمر بن الخطاب في “أشج بني أمية”. حتى قالوا: إن الذئب في عهده كان يسرح مع الغنم. مع أن هذا لم يحدث حتى على عهد النبي الذي أقسم – حسب رواية البخاري – أن الأمر سيتم (حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه) فاستثنى الذئب. ومن الطريف أن أحد الأصدقاء ابتسم وقال: صدقوا؛ فإن الذئب الفارسي على عهد عمر بن عبد العزيز كان يسرح مع القطيع العربي.

فهل عهد عمر بن عبد العزيز خير من عهد الصدّيق! فلم هذه الخصوصية؟ إنها تشبه الخصوصية التي وضعت لسيدنا عمار بن ياسر في رواية (قاتل عمار وسالبه في النار). وغيرها من الخصائص الباطلة التي خصوه بها. المقصود البعيد منها إجهاض دولة الإسلام بإجهاض المجتمع عن طريق اغتيال عقله بأحاديث تتناقض مع القرآن الكريم والسنة النبوية، وتتصادم مع قوانين الاجتماع وأصول السياسة.

إما أن نكون .. أو نستمر في صحراء التيه قروناً مضافة

نحن على أبواب مرحلة جديدة، إن واجهناها بالعلم القديم والفكر العقيم والثقافة التقليدية نفسها دارت على رؤوسنا فترة أخرى من التيه. وإن انتفضنا فنفضنا عنا ركام القرون توقفت عجلة الجمود المدمرة عن سحقنا من جديد.

انتفاضة هادئة تراعي الأصول، وتجمع بين نقد المأثور واحترام السابقين. تعتمد إعادة تقويم السائد المُشكل، وأقول: المُشكل، وليس غيره. لا سيما المُشكل الشيعي الشعوبي. في ضوء قواعد ورؤيا جديدة – كالتي عرضتها آنفاً – غفل عنها معظم الفروعيين من الفقهاء والمحدثين؛ فإن هؤلاء لم يخطر ببالهم دراسة الحديث على الأسس المذكورة.

لا نقول هذا أشراً ولا بطراً؛ إنما بسبب هذا الواقع الساحق الذي تسيد فيه الشيعة وإيران، وأعوانهم من المتطرفين السنة، شعروا أو لم يشعروا، مثل القاعدة وتنظيم الدولة والأحزاب الدينية التي ابتدعت فكرة تقديس مصطلح لم يأت الشرع به ولا حدد معالمه اسمه (الخلافة)، وشيطنت ما عداه. إن من جذور هذا الخراب الخطيرة هو هذه الأحاديث والروايات التاريخية المُشكلة، التي وضعتها أصابع مريبة، ليس من الصعب اكتشافها إذا أعدنا دراسة المأثور المُشكل في ضوء قواعد الوعي والبصيرة، وليس العلم فحسب.

28/2/2017

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى