في الذكرى الثانية عشرة للهجرة إلى الشام
د. طه حامد الدليمي
إرهاصات الهجرة
يوم 5 حزيران تاريخ ينخس بمساميره ذاكرتي كلما قلبت أوراقه القديمة.
فهو اليوم الذي أُخرجت فيه – قبل ثماني سنين من الهجرة – من الجنوب عائداً إلى مدينتي المحمودية. كما أنه اليوم نفسه الذي وقعت فيه (نكسة حزيران) سنة 1967 كما سماها السياسيون. وهو يوم الهجرة الأليم.. يوم الرحيل.
ثلاث ذكريات مفصلية ينتظمها تاريخ واحد! فهل من رابط بينها؟ هل من إشارة بيد القدر خفية؟
عمل العرب بلا مشروع؛ فما زالوا في التيه.. وهذه هي الأربعون الثانية. فهل هذه هي الإشارة؟ اعمل أيها المهاجر طبقاً لمشروع لتعود إلى أرضك. واجعله ربانياً ليُبارك فيه، ويُختصر الزمان وتطوى المسافات.
لم يكن في بالي يوماً أن أترك البلد وأهجره إلى غيره.
التغيير ينبغي أن يكون في ومن الميدان الملتهب بالقضية لا من خارجه؛ بذلك تعطي المثل الملموس على مدى نجاح الفكرة، وتضخ دماء حارة في شرايين القضية، وتفتح شرايين جديدة لم تكن وجدت من قبل، وتغرس القناعة بها في أذهان الناس بعد أن أعطيت الدليل على أنك أهل للثقة. ثم ماذا أقول للقلب إن سألني؟ وسيسأل.. ما من شك، وسيطيل السؤال، ويطول وما من جواب!
نصحني الكثيرون.. لم يبق أحد إلا وأشار عليّ بالسفر خارج العراق.
ولم تكن هذه النصيحة وليدة الظرف الذي تكون بعد الاحتلال، بل كان الحريصون يؤدونها إلي من قبل. أذكر أن الأمور اشتدت في سنة 2002، وكثرت المشاكل وتعقدت. تهديدات، ومكائد، ومحاكم ووقوف بأبواب الحكام والمسؤولين. لا أذهب إلى المسجد عادة ولا أرجع منه إلا برفقة حرس! وفي الدار كان يبيت عندي واحد أو اثنان يحرسونني فقد أصر الأخ الكريم أحمد الجنابي رحمه الله على أن أتخذ حرساً في الدار.
في تلك الظروف الكبيسة قال لي الأخ (محسن): أرى أن تنتقل من المحمودية إلى منطقة أُخرى آمنة.. الرمادي مثلاً؛ فإن الخطر محدق بك، ولا بد من المناورة. لم يكن الأخ (محسن) الوحيد الذي أشار عليّ بذلك، بل حتى مدير أمن المحمودية نصحني بها – بعد أن اكتشف أمر خلية أعدت لاغتيالي مقرها بعقوبة وبإشراف إيراني وتنفيذ عناصر شيعية في المحمودية – وعرض عليّ أن أنتقل إلى قرية ذكرها لي في تكريت، فيها مسجد وبيت، قال: و”تخلص من الشيعة ومشاكلهم”. وكنت أرد تلك النصائح شاكراً ومبيناً رأيي فيها.
نحن أصحاب قضية في زمن اللاقضية
قلت للأخ (محسن): نحن أصحاب (قضية) في زمن لا يدرك ناسنا ما القضية؟ قضيتنا نحن.. ماذا سيكون رد فعل الناس؟ وماذا سيقول عنا أولئك الشيوخ الذين يناصبوننا الخصومة مدعين الحكمة؛ يسترون بها عجزهم، ويثيرون علينا العامة؟ سيقولون: أما قلنا لكم إن هذا الطريق صعب، وغير صائب، ولا طاقة لأحد به؟ ها هو (فلان) أثار المشاكل، وعمل ضجة لا داعي لها، ثم لم يصبر على ما فعل حتى ولى هارباً (وترك الجمل بما حمل)! ها! أما قلنا لكم…؟ وسيصاب جمهورنا بالإحباط.. ونخسر (قضيتنا). أنا أرى يا صاحبي، والله أعلم، أن عناية من الله تحوطني حتى أبلغ رسالة آمنت بها، وتقوم الحجة على أولئك المرجفين، ويثبت للمؤمنين صحة ما نحن عليه. لا أقول هذا متألياً، أو آمناً مكر الله، ولا مزكياً نفسي. ولكن هذا ما أراه والعلم عند الله.
ثم إني أخجل من ربي أن يراني تاركاً المنطقة التي انطلقتْ منها (قضيتنا) وعُرفتْ بها؛ طلباً للسلامة إلى منطقة أخرى، أو أهجرها إلى خارج البلد. ثم ما أدراك لعلني أموت هناك لأي سبب.. مرض أو حادث؟ فلا أنا سلمتُ، ولا (قضيتي) سلمتْ! وقد لا يكون الله تعالى راضياً بهذا الصنيع؛ فما هو موقفي منه يوم أقوم بين يديه! ولنا بما وقع لنبي الله يونس بن متى عليه السلام عبرة. أرى أن نثبت إلى آخر لحظة ممكنة. ثم إن أُلجئنا إلى ذلك يكون لنا عذر. أما الآن فما زال في القوس منزع. هذا ما يحدثني به قلبي نظراً إلى لطف الأقدار وتشوفاً لحكمة الجبار، وإن كان لما تراه وجه مقبول إذا نظرنا إلى الموضوع من زاوية الأسباب.
كان ذلك في سنة (2002). وما زلت أذكر المكان الذي جرى بيني وبين صاحبي فيه هذا الحديث الشفيف. كنا تلك اللحظات في سيارة (الميتسوبيشي) القديمة نجتاز الساحة الكبيرة قرب علوة الرشيد في منطقة (عويريج)، متوجهين إلى بغداد الحبيبة قبل أن يشوه الغزاة وجهها الجميل.
ثم وقعت كارثة الاحتلال
ثم وقعت كارثة الاحتلال، وألجئت إلى أن أخرج من ديرتي. وما زلت أُلجأ على الخروج من مدينة إلى غيرها!
وعاد إلى نصحي الكثيرون. بل لم يبق أحد إلا وأشار عليّ بالسفر خارج العراق.
وأصررت على البقاء سالكاً أكثر من سبيل للمناورة والمطاولة. غيرت سيارتي ثلاث مرات، آخرها كانت سيارة (بريجو) مخصصة لنقل الركاب زيادة في التمويه، وكنت أصطحب معي نظارة سوداء لأضعها على عينيّ متى ما دعت الحاجة رغم تضايقي منها. لكن الوضع الأمني يشتد حصاره وتضيق حلْقته مع الزمن. أما المحمودية مدينتي فكانت آخر مرة رأيتها فيها قبل نهاية السنة (2004) المنصرمة بشهرين. ولم تكن الحركة في بغداد أفضل؛ السيطرات الثابتة والمتحركة تزداد باستمرار، وتفاجئك أينما سرت، يغلب عليها المليشيات خصوصاً مليشيا (بدر). ما الذي أفعل إن رصدني واحد منهم يعرفني ولا أعرفه؟ كانت الحركة في بغداد، والمبيت في أي مكان في المدينة أو ضواحيها لا يخلو من خطر يتوقع حصوله دون قدرة على رده.
دهم الجنود الأمريكان داري في الرمادي عدة مرات. في البدء كانوا وحدهم ثم صاروا يصطحبون أفراداً من (الحرس الوطني) الشيعي بعد تخلي أبناء الرمادي عن وظائفهم في الشرطة والجيش نتيجة التهديد والقتل الذي استحر فيهم من قبل فصائل المقاومة خصوصاً (القاعدة)! ونتيجة الفتاوى التي كانت تحرم ذلك. دخل الشيعة مسلحين بيتي مع الأمريكان مرة أو مرتين. وكانت نقاط التفتيش التي عند جسر الورار وجسر الجزيرة القريب من بيتي وغيرها من النقاط في الرمادي شيعية، تعرفهم من خوذهم التي كتبوا عليها عبارات مثل (يا حسين، يا علي، يا شهيد، كربلاء، النجف). ماذا لو تعرفوا علي؟ من صورة وجهي أو كتبي أو ما موجود في حاسوبي إذا دهموا بيتي!
نصائح المحبين تتوالى عليّ للخروج من البلد. وطاولت حتى بلغت النفس الأخير.
كان آخر ما فكرت فيه تمسكاً بالبقاء هو الهجرة إلى الموصل. وقبل أن أعد العدة تبين لي أنها لم تعد مكاناً آمناً لي؛ فعصابات (بدر) الشيعية تصول وتجول هناك، منطلقة من غيرانها في تلعفر وغيرها و(الحرس الوطني) الحكومي ومعظمه من الشيعة له تواجد أيضاً.
وهكذا أزمعت على الرحيل، حين لم يبق لي من خيار سواه. كان ذلك يوم 5 حزيران من سنة 2005. ولم يكن القرار سهلاً!
أنتَ في سربِكَ تغدو لاهياً تتفلى بين سهلٍ وروابيوإلى عُشِّكَ تأوي آمناً كلما الشمسُ تدانتْ لغيابِ وأنا أُخرجتُ من عشي الذي وهجرتُ السربَ عن غيرِ قلىً يا حمامَ الأيكِ أنصفْ وأجبْ |
5/6/2017
9/9/1438