مقالات الدكتور طه الدليمي

بين الشعوبية والسنية الفارسية

د. طه حامد الدليمي

معظم من رأيته من الإسلاميين يعانون من فقر مدقع بعلم الاجتماع وقوانين التغيير الجمعي، ودور العنصر القومي في التأثير على الشخصية.

يتصورون أن الدين وحده يصنع نسخاً من الشخصيات متشابهة، دون أن يدخلوا في المعادلة جميع الفواعل المؤثرة ومنها العنصر القومي ودوره في صنع خصائص الشعوب التي من العسير تطويعها للمتغير الجديد، أقصد الدين. جرّب أن تنتقد الفرس أمامهم ستجد من ينبري لك ويقول: كثير من الفرس مسلمون سنة، وإيران كانت سنية حتى مجيء الصفويين.

هذا دليل واضح على ذلك الفقر المدقع!

لا شك أن من الفرس من أسلم وحسن إسلامه، ومنهم علماء. لكن ثمت ملاحظة جوهرية تتعلق بالفرس حصراً هي أن هذا الجهد الإيجابي كان إلى جانبه جهد سلبي خطير لا يقل عنه أثراً – إن لم يزد عليه – يتمثل في المؤامرات السياسية والعسكرية والثقافية والدينية وغيرها من المناشط الحياتية والاجتماعية، وذلك في الفترة التي كانت فيها إيران ذات طابع سني ظاهر. ومن شواهد ما أقول العلماء والرواة والأدباء والشعراء الذين كتبوا وقعدوا ووضعوا أركان التشيع الفارسي، ومصادره الأصلية، قبل ظهور الصفويين بقرون، مثل الكليني والقمي والطوسي. إضافة إلى دور رجال السياسة والأمن والعسكرية والمال والجاه من الفرس.

مؤامرة من ثلاث شعب

حرص الفرس أن تكون مؤامرتهم على الدولة العربية الإسلامية ذات ثلاث شعب رئيسة: الاتجاه العلمي، والاتجاه السياسي، والاتجاه العسكري. وكان أقربها نيلاً، وأسرعها تأثيراً بالمجتمع خصوصاً عوامه، وأسلسها مروراً، وأخفاها مقصداً: العمل بثوب العلماء وطلبة العلم والزهاد والوعاظ والأدباء والمفكرين.

إن هذا يفسر كثرة طلبة العلم من الموالي الذين التفوا حول علماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم. ولمَ كثر هؤلاء في البيئة العربية. ولمَ اخترعوا الأكاذيب في تضخيم دور الفرس، ومن ذلك نسبة إمامة أي علم من العلوم إلى الفرس.

لقد كان لعلماء الموالي دور خطير في تشويه الدين واللغة والتاريخ وبقية العلوم، ووضع الأحاديث الخادمة لهذه الأهداف. وقد هالني أثناء تجربتي العلمية حجم الجهد الذي بذله هؤلاء في سبيل ذلك، وأثره في صناعة ثقافة شعوبية طبعت الجمهور السني: علماء وعامة، مهدت وما زالت تمهد للغزو الشيعي واحتلاله الأرض العربية السنية.

إن بعض أولئك العلماء الفرس الذين احتضنهم المجتمع العربي كانوا لا يفترون – عن وعي أو غير وعي – عن شحن المجتمع بالحقد على حكامه، وإثارتهم ضدهم رغم إحسان حكام العرب إليهم ومنحهم الحرية في أن يقولوا ما يريدون.

سنية الفارسي ليست شرطاً في نفي رواسب شعوبيته

كان لعلماء فرس آخرين دورهم في ترسيخ الثقافة الشعوبية لكن بحكم رواسب الشخصية الفارسية، وانعكاسها على فكرهم وسلوكهم داخل المجتمع العربي. وموالي الفرس دخلوا في الإسلام وفي نفوسهم جراحات وآلام ونُدب حصلت لهم من زوال دولتهم ومحو دينهم واحتلال ديارهم وقتل رجالهم وسبي نسائهم. هذا مع الطابَع العنجهي والكبريائي للشخصية الفارسية، والتعالي على الأمم لاسيما العرب. وهذه لا تزول آثارها، وإن كان صاحبها صادقاً في أصل تدينه، إلا بعد آماد ومُدد.

إن كون الطابع السني هو الغالب على أولئك المفكرين والعلماء وغيرهم من المشاركين في صنع الحضارة الإسلامية شيء طبيعي؛ بسبب أن الحضارة الغالبة هي حضارة سنية بامتياز. لكن السنية لا تنفي رواسب الشعوبية. انظر إلى مالك بن دينار والحسن البصري – إن صح ما يروى عنهم في كتب الرقائق والأدب وغيرها – من ذم لأمراء زمانهم وتذمرهم منهم ومن الوضع السياسي والاجتماعي العام، مع أن تلك الفترة كانت من أكثر عصور وفترات الأمة ازدهاراً ورخاء وعدلاً وعزاً وعزة وحرية وكرامة. وقد عاش ابن دينار والبصري في القرن الثاني من القرون المفضلة؛ فعلام هذا البكاء وهذا العويل وهذا التذمر من تلك الحياة الملأى بالعدل والرحمة ورغد العيش والانتصارات المتلاحقة؟

ليس شرطاً أن يكون هؤلاء متهمين في نيتهم ودينهم، وإنما أقول: إنهم أُتوا من تلك الثغرة بحكم الطبيعة البشرية، التي أغفلها كلياً – لَلأسف! – عامة العلماء الأقدمين. وكأن شخصية الإنسان يبنيها عامل واحد هو الدين، وليست هي حاصل جمع وتفاعل عناصر عديدة منها العرق والبيئة والتربية البيتية وغيرها. ومن عرف محركات الإنسان ودوافعه الذاتية والخارجية وتشابكها وتعقدها، يدرك أن صدق التدين عامل واحد من عوامل المعادلة، يبقى – على أهميته – قاصراً عن إحداث النتيجة الموضوعية المنشودة في كثير من الأحيان والأحوال والمواقف، إلا عند طراز خاص من البشر.

نحن لا نطعن في من دلت سيرته على صدق التدين، ولكن ينبغي أن لا نمنح ما يقوله صك العصمة من الاندفاع غير الواعي وراء دوافع نفسية خفية جمعية. ينبغي أن نضعها في معادلة التقويم عند مواطن الاشتباه.

17/4/2018

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى