مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

لغز مقتدى

د. طه حامد الدليمي

صدر خلال الخمس عشرة السنة الماضية تكررت مفارقة غريبة كل الغرابة.. رجل مجرم بكل معنى الإجرام، ومعظم زعامات من أجرم بحقهم يصفقون له ويثنون عليه!

أما لهذا اللغز من تفسير؟ أو لهذا الطلسم من تعويذة؟ ولهذه العقدة من تفكيك؟

مقتدى الصدر ارتكب – من خلال ذراعه الإجرامي (جيش المهدي) وما لا يعلم من أجهزته وشبكاته الأمنية – من الجرائم ما ضجت لها أعنة السماء وامتلأت بها مناكب الأرض وكهوف الجبال وأغوار المحيطات. وجرائمه يعلمها جميع أهل العراق، ومن كان في الخارج فدونه شبكةَ المعلومات تنبئه بكل عجيب غريب.

حتى سنة 2008 كتبت في جرائمه أربعة مؤلفات أولها (إلى متى نُخدع؟ إلى متى نخادع؟) في 2004. ثم (البادئون بالعدوان) في 2007. ثم (غربان الخراب في وادي الرافدين) في 2008. ثم (جرائم الإبادة الجماعية المنظمة لأهل السنة في العراق – قضاء المحمودية نموذجاً) في 2010. ثم ألقيت القلم؛ لقد تعبت، هذا يكفي. واقتصرت على المقالات فكتبت في إجرامه وفي تحليل هذه الظاهرة العشرات، عدا ما كتبت في مواقع التواصل الاجتماعي، وذكرته مراراً وتكراراً على قناة (صفا ووصال)، وطرحته في اللقاءات الاجتماعية، وألقيته في كلمة لي في (مؤتمر نصرة العراق) بإسطنبول في 2006.

رغم كل هذا ينعت زعماء السياسة في العراق والإخوان المسلمون وهيئة علماء المسلمين وغيرهم، هذا المجرم الخطير بأنه وطني وعروبي ومقاوم، وتستقبله دول عربية وإسلامية بهذه العناوين التي لا يصلح لها، بل هو في الضد منها!

جدير بالذكر أن كلمتي في مؤتمر إسطنبول لم تعرضها قناة (الجزيرة- مباشر) بينما عرضت بقية الكلمات. كما لم تعرض قناة (الرافدين) التابعة لهيئة علماء المسلمين حواراً سجلته لي في لقاء عن مقابر المحمودية الجماعية في 2008؛ إذ رفض د. مثنى حارث الضاري عرضه بسبب العلاقة الوثيقة بينهم وبين مقتدى! (لدي نسخة من اللقاء).

أذكر أن الرئيس المصري حسني مبارك قال في نيسان 2006: “معظم الشيعة ولاؤهم لإيران وليس لأوطانهم”، فكان أول من ضج في وجهه معترضاً هؤلاء (الوطنيون)!

 

أين اللغز ؟

لا شك لدي في أن مقتدى ليس هو اللغز.

مقتدى ليس لغزاً البتة؛

رجل شيعي يرتكب جرائمه في وضح النهار! هو ينكرها.. مؤكد، إنما تبعاً لمبدأ (التقية) والواقع يكذبه. ثم إنه اعترف بها صراحة يوم انشق عليه المجرم قيس الخزعلي قائد مليشيا (العصائب) – أو المصائب كما يسميها سنة العراق – التي وضعها الأمريكان أخيراً في قائمة (الإرهاب) فقال مقتدى، وكرر ذلك في مناسبات متعددة: إن الجرائم التي ألصقت بجيش المهدي إنما ارتكبها قيس وجماعته.

وأما جيش المهدي فإنه فرع عن الحرس الثوري الإيراني أسسه بأمر المرشد عند زيارة مقتدى لإيران في حزيران 2003 بعد الاحتلال بشهرين (انظر مثلاً: “الشرق الأوسط”، العدد 9264 في 9/4/2004، 18 صفر 1425، بعنوان “مصدر إيراني: الحرس الثوري درب 1000 من أنصار مقتدى الصدر على حرب العصابات والتفجيرات).

أين اللغز إذن؟

نحن اللغز.. نحن السنة بمعظم أطيافنا، ولا غير!

وأختصر لكم المشهد بكلمات أجتهد أن تكون قليلة لكنها كافية وافية:

يأتي على رأس المتخادعين بمقتدى وأمثاله من الشيعة: القوميون، الإسلاميون، الليبراليون، العشائريون، هيئة علماء المسلمين، السياسيون. ما الذي يجمع هؤلاء ويجعلهم يجمعون على أمر واضح البطلان؟

 

عقدة فكرية ومصداق مفقود

دائماً أذكر هنا قول نزار القباني:

الحبُّ في الأرضِ بعضٌ مِن تخيلِنا لو لم نجدْهُ عليها لاخترعْناهُ

ينطلق هؤلاء جميعاً من عقدة فكرية أو (آيدلوجيا) مسبقة، يبحثون ليثبتوها عن مصداق في الواقع فلا يجدون. وإذ لا بد من مثال يعودون به، فكان مقتدى الصدر هو ذلك المثال. وإن خالفوا بذلك حقيقة الحدث وحق الإسلام. وكل جهة لها ليلى تغني عليها:

القوميون: ينطلقون من العروبة. والعروبة عندهم مبنية على كل من هو عربي. ومعظم الشيعة في العراق والدول العربية من العرب. فكانت العقدة الفكرية (الشيعة العرب) هي المحور الذي يلفون حوله. هؤلاء كلهم عندهم عروبيون ووطنيون. أما ما يصدر عنهم من جرائم فهذا – بزعمهم – إنما يرتكبه الشيعة الفرس، ومن اشترتهم إيران من العرب. ويسمون تشيع هؤلاء (التشيع الصفوي).

الإسلاميون (وعلى رأسهم الإخوان المسلمون): علاقتهم بالمشروع الشيعي الإيراني منذ بداية التأسيس قبل تسعين سنة. والشيعة – بزعمهم – كلهم وطنيون، وإيران دولة إسلامية. فزادوا على طين القوميين بلة أكبر من الطين.

الليبراليون: لا يعترفون من الأصل بالفروقات بين القوميات والمذاهب والأديان. وإذا كان الشيعة عند الإسلاميين في الوطنية سواء، فالأمر عند الليبراليين محسوم دون أدنى تفكير.

العشائريون: العشائر مهووسة بالنسب، والنسب هو القيمة الجمعية العليا لدى العشيرة. فالشيعي العربي – طبقاً لتقاليد العشيرة – ليس مساوياً لابن العشيرة فحسب، بل مقدم عليه.

هيئة علماء المسلمين: يجتمع فيها الأمران: الجذر الإسلامي والعرق العشائري. وللعرق قصة طويلة تبدأ بلجوء الشيخ ضاري المحمود الجد المباشر للدكتور حارث الضاري الأمين العام للهيئة إلى عشائر الجنوب الشيعي بعد قتله القائد الانجليزي لجمن سنة 1920.

السياسيون: لا يخرج السياسي في توجهه الفكري عن هؤلاء، فكيف إذا أضيف إلى ذلك مقتضيات المصلحة!

 

ولماذا مقتدى ؟

هؤلاء جميعاً محشورون في قالب تلك العقدة الفكرية على اختلاف منطلقاتها. وهؤلاء جميعاً كل واحد منهم يبحث عن مثال في الواقع يصدق عقدته، فكان مقتدى هو المثال الأبرز الذي تبناه هؤلاء. ويسأل سائل: ولماذا مقتدى دون سواه كان هو ذلك المثال؟

عام كامل مر على احتلال العراق والمنطقة السنية تقارع المحتل دون أن تثور طلقة واحدة ولو صوتية من جانب الشيعة، فكان الشيعة ينكسون رؤوسهم أمام كل حديث عن المقاومة. وفي الذكرى الأولى للاحتلال كانت معركة الفلوجة الأولى تدوي هلاهلها في أرجاء العالم؛ فاستغل مقتدى الفرصة ليصفي حساباته مع المؤسسة الحوزوية التي كانت الحوزة الصدرية على خلاف قديم معها، وليثأر منها ومن الحكومة التي اتفقت معها على حرمانه من نصيبه في ثروات المراقد وكراسي السياسة. واحتل جيش المهدي النجف وسيطر على المرقد العلوي. وهذا خروج على القانون فلا بد أن تتدخل قوات الحكومة. ولا بد أيضاً كإجراء طبيعي أن يسند جيش الاحتلال جيش الحكومة الضعيف خشية سقوطها.

كانت فرصة لا تعوض تلقفها الشيعة ليرفعوا رؤوسهم فيصوروا قتال جيش المهدي العرَضي للأمريكان على أنه مقاومة ضد المحتل. كما كان فرصة لا تعوض لتلك الجهات السنية المؤدلجة أن تبرز مقتدى على أنه المثال الوطني والعروبي لـ(الشيعة العرب). وتبنى إشاعة هذه الأسطورة إعلام هيئة علماء المسلمين والإسلاميين والقومييين والليبراليين في داخل العراق وخارجه. وانطلت الخدعة على الجماهير. هذه هي القصة باختصار شديد.

 

الغراب يؤوب إلى عشه

يجوز في السياسة عموماً كل شيء. ولكن السياسة الشرعية مقيدة بأمرين: الحقيقة الدينية والحقيقية الواقعية. وهذا قلته في زيارة مقتدى للسعودية في تموز 2017. وبينت أن اعتراضي ليس على السياق السياسي لذلك، وإنما من حيث مخالفة الحقيقة الشرعية في الثناء على ما أسماه بعض السياسيين منهم بـ(التشيع العربي)، ومخالفة الحقيقة الواقعية في الثناء على المجرم. إضافة إلى قناعتي بأن التعويل على شيعي إنما هو كما قال الشاعر:

ومكلّفُ الأيامِ ضدَّ طباعِها متطلبٌ في الماءِ جذوةَ نارِ

وقلت يومها: “في السياسة أنظر للمسارات لا إلى تفاصيل الحركات. لا يوجد اليوم غير المسار السعودي يمكن بمجمله أن يخدم السنة. وزيارة مقتدى (طسة) في هذا المسار”.

لهذا لم أتفاجأ حين كشف مقتدى عن جلده قبل يومين بالتحالف مع المجرم هادي العامري الذي وصف مقتدى نفسُه تحالفه مع حيدر العبادي في يناير 2018 والذي لم يدم أكثر من يوم بأنه اتفاق سياسي طائفي بغيض.

كل طائر يهوي فؤاده إلى عشه.

ولقد آب مقتدى إلى عشه الآمن وحضنه الدافئ، ووصف علاقته بإيران بأنها وثيقة، وقال بكل وقاحة: إن إيران لا تتدخل بشؤون العراق! مع أن الاتفاق كان بوجود مجتبى بن خامنئي وقاسم سليماني قائد فيلق القدس الإرهابي أحد أخطر أذرع الحرس الثوري!

وأبشركم.. قريباً ستلتحق غربان أَخرى لتأوي إلى ذلك العش الدافئ.

لقد انتهت اللعبة، وحققت (الوطنية) أغراضها، وعاد كل شيء إلى مكانه. وسيحشو مقتدى هتافات جماعته (إيران برة برة ، بغداد تبقى حرة) في مؤخرة الوطنية. وللوطنيين الحجر!

وعيدكم مبارك. تقبل الله تعالى منا ومنكم وكل عام وأنتم بألف ألف خير.

آخر رمضان 1439

14 حزيران 2018

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى