مقالات

اعرف عدوك – 2

عقدة النقص في الشخصية الفارسية - من أين نشأت ؟

وأنا أقرأ مقدمة كتاب (الصراع العراقي الفارسي)(1) قبل قرابة عشرين سنة، وقعت يدي لأول مرة على علة العلل في النسيج الداخلي للشخصية الفارسية، وكأنني صرخت يومها: “وجدتها وجدتها” إنها (عقدة النقص)!
وكان ذلك هو الأساس الذي انطلقت منه لأضع كتابين من أهم ما كتبت. الأول: (لا بد من لعن الظلام). بعد سنوات قليلة جعلت من الفصل الأخير من هذا الكتاب أساساً لكتابي الثاني (التشيع عقدة نفسية لا عقيدة دينية).
أثار كاتب المقدمة سؤالاً مفصلياً ذكياً: ما هي الأسباب الثابتة لهذا الصراع الطويل بين إيران والعراق عبر المراحل التاريخية المتعاقبة؟ ثم قال: إن الإجابة على هذا السؤال تكمن في وضع إيران الجغرافي – السياسي نفسه. وواصلت البحث لأعرف كيف نشأت هذه العلة، أو العقدة، التي جلبت الكوارث على المنطقة ألفين وخمسمئة سنة متواصلة، ووضعت بصمتها الأبدية على تلك الشخصية الكارثية وربيبتها الشيعية.

ثلاثة عوامل جيوسياسية متشابكة أفرزت تلك العقدة:
1. الشعور بالغربة الجغرافية (الدخالة).
2. الأقلية العددية والحضارية.
3. الطموح السياسي الذي يتجاوز القدرة الذاتية.

أصل الفرس
الفرس من حيث الأصل أقوام نزحوا من بلاد القوقاز (الأرض المشتركة بين آسيا وأوربا) واستوطنوا الهضبة الإيرانية، قبل قرابة (300-400) سنة من تأسيس دولتها الأولى في التاريخ (الدولة الإخمينية)، أي في حوالي سنة (1000 ق. م). ليجدوا أنفسهم في محيط من شعوب المنطقة الأصليين تميزوا عنهم عموماً بميزتين:

الأولى: أن مجموع تلك الشعوب يتفوق عليها من حيث العدد، ومن حيث الحضارة. أي أن الفرس في وسط هذا المحيط لا يشكلون سوى أقليةٍ كميةٍ ونوعيةٍ نسبة إلى مجموع الأقليات القومية الأخرى التي تستوطن الهضبة الإيرانية من الأصل (عامل جغرافي).
الثانية: أن لهذه القوميات جميعاً، باستثناء الفرس، امتدادات واسعة خارج حدود الهضبة الإيرانية (عامل جغرافي).
وبقي الفرس كذلك حتى اليوم أقلية غريبة منبوذة من محيطها.
من هنا نشأ الشعور الجمعي لدى الفرس بالغربة الجغرافية عن المحيط الذي يساكنونه. نفسياً ينقلب هذا الشعور فيتحول إلى شعور عكسي شاذ بأنهم هم أهل الأرض وغيرهم هم الدخلاء. يترافق مع شعور عميق بالشك تجاه هؤلاء جميعاً على أنهم ينوون بهم الشر. وينعكس سلوكياً على شكل موجات عنف شاذ لا تهدأ حتى تثور ضد تلك الشعوب.
يمتزج هذا الوضع الجيونفسي الجمعي المعقد بالرغبة في السيطرة على بقية القوميات المتباينة، وشدها باتجاه قوتها المركزية (عامل سياسي). لكن هذه الرغبة تصطدم بكون الفرس أقل عدداً وأدنى حضارة من أن يستطيعوا ممارسة دورهم في شد هذه القوميات وتجميعها تحت سيطرتهم. لذا كان الفعل السياسي والعسكري الفارسي على الدوام أكبر من حجمهم الحقيقي. وهذا يفسر – فيما يفسر – استراتيجية الحروب بالوكالة التي يعتمدها الفرس. والتحريش بين شعوب المنطقة لإشغال بعضهم ببعض وإضعافهم جميعاً.
إن الرغبة في السيطرة – من قبل الفرس في قلتهم العددية وتدنيهم الحضاري – على شعوب تفوقهم عددا وحضارة، ولها امتدادات خارجية، هو الذي أنتج عندهم ذلك الشعور العميق بالنقص، والذي ترسخ بمرور الزمن وتراكم المعاناة حتى صار عقدة لا تفارقهم.

عوامل الخير لا تكفي ؛؛ لا بد من استجاشة عوامل الشر
إن عناصر القوة الخيرة لدى أي أقلية تطمح للقيام بدور أكبر من حجمها أضعافاً لا تكفي ولا تؤهلها لأن تبلغ ذلك المستوى الذي يتوافق وطموحها. فما العمل؟ ما الحيلة؟
ليس أمامها سوى تحريك عوامل الشر الكامنة في داخلها وخارجها. من الكذب والغش والتزوير والمراوغة والشك والتوجس والغدر والعدوان والحقد والمظلومية واللؤم وبث الفرقة والعداوات والسطو على موروث الآخرين… وغير ذلك من عناصر الشر التي ترسخت بمرور الزمن في النسيج الباطني للشخصية حتى تحولت إلى شبكة من العقد المرضية، استبطنتها وصارت جزءاً لا يتجزأ منها.

الفارسي والمتفرسن
يلاحظ تاريخياً أن كل من صار على رأس السلطة في بلاد فارس، فإنه يتقمص تلك الشخصية ويصاب بتلك العقدة النفسية، وإن لم يكن فارسياً في أصله، وإلا فقد زمام السيطرة على دفة الحكم. وذلك شيء طبيعي في عملية الاستحالة أو سلسلة التحولات النفسية. كما لو أن رجلاً جاءت به الأقدار ليكون حاكماً أو شيخاً لقبيلة غير قبيلته لا يمكن له أن يقود القبيلة بتقاليد وأعراف غير تقاليدها وأعرافها، وإنما عليه – لكي يستمر في قيادتها – أن يتقمص روحها وشخصيتها، ويتمثل سلوكها، ويعبر عن آمالها وتطلعاتها وآلامها ومعوقاتها، وإلا رفضته وفقد السيطرة على قيادها.
بل إن هذا الحاكم أو الشيخ الدخيل عادة ما يكون متطرفاً في كل ذلك إلى الحد الذي يتفوق فيه على ابن البلد أو القبيلة الأصيل؛ لأن عقدة الشعور بالغربة أو الدخالة كثيراً ما تدفع الدخلاء إلى هذا التطرف أو التصرف ليغطوا به على هذا الشعور الذي لن يشفوا منه مهما تطرفوا، وكيف تصرفوا!
كذلك فعل كل حاكم إيراني من أصل غير فارسي كالافشاريين والزنديين والقاجاريين. إنه يحكم إيران بروحية الفرس ونفسيتهم وأعرافهم وتقاليدهم، وقد يتطرف في سلوكه وعدوانيته فيتفوق على مثيله الفارسي (ملكي أكثر من الملك). كما فعل الصفويون الأتراك حين تولوا الحكم في بلاد فارس. “إن سلالات غير فارسية حكمت إيران في بعض العهود لم يكونوا ليصبحوا (شاهات) لإيران لو لم يلتزموا بـ(العقدة الفارسية) فيحذوا حذو أسلافهم في معاداة الأمة العربية”(2) وبقية شعوب المنطقة. وعلى هذا الأساس فإن (الفارسية) قد تتمثل في شخص عربي في أصله؛ فيكـون أكثر شراً من الفارسي نفسه.
إن العجمي (أي الفارسي) والمستعجم (المتفرسن) طينة واحدة. بل عادة ما يكون المستعجم شراً من العجمي. فلا غرابة أن يرد في التراث العربي قولهم: (إذا استعجم العربي فاقتلوه)! وبناء على هذا قررت تلك المقدمة حقيقة مهمة هي أن (الفارسية ظاهرة اجتماعية لا عرقية).

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى