مقالات

حديث ( الخلافة على منهاج النبوة )

يمدح الملكية الراشدة ويذم الخلافة الفاسدة

تعلُّق الوسط الإسلامي بهذا الحديث، بمن فيه من علماء في شتى التخصصات الشرعية، دليل على خلل منهجي خطير – على صعيد التطبيق إن لم يكن على صعيد التأصيل – أصاب العقل السائد في هذا الوسط.
من المتفق عليه في الأصول أن الحجة القرآنية تتقدم الحجة الحديثية؛ فالقرآن كلام الله جل وعلا، وهو قطعي الثبوت إليه سبحانه، بينما الحديث تعتريه عوائق قبل إثبات صحة سنده وبعدها؛ فحين يعم التواطؤ على ترك القرآن في التأصيل لمسألة خطيرة (مثل شكل الحكم) والقفز عليه إلى الحديث مباشرة، فهذا مؤشر كبير على خلل منهجي تطبيقي خطير.
روى الإمام أحمد في مسنده، (وحسنه الألباني في (السلسلة الصحيحة:1/35)، وذكر أن الحافظ العراقي صححه) عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة)، ثم سكت.
يعتبر هذا الحديث عمدة الطاعنين في (المُلك). ولعله المستند الوحيد للتفريق الحاد عندهم بين الخلافة والملك، وولادة بدعة حادثة في تاريخ الإسلام هي (ذم الملك وتقديس الخلافة). وأُسِّـس على هذا النص بناء نظرية سياسية خطيرة ودخيلة لم تعرفها الأمة من قبل، أضفيت عليها القدسية الدينية. وضرب عرض الحائط جميع النصوص المخالفة: القرآنية والحديثية الأُخرى، والتجارب التاريخية، وقواعد الاجتماع ودلائل العقل!
هذا مع أن الحديث لا دلالة في متنه على ما يزعمون، ولا يصح سنده. ولو صح ما جاز الاحتجاج به لأنه يتعلق بأمر أصولي خطير جداً تتوقف عليه العلاقة الرابطة بين الناس والحكومة. وأمر كهذا في حاجة إلى شروط صحة مشددة من حيث الثبوت والدلالة.
والتشدد في الأمور الخطيرة منهج رباني لا مراء فيه؛ فشروط شهادة الزنا أشد من شروط شهادة السرقة، وهذه أشد من شروط رؤية هلال رمضان. ولدور المال في تحقيق السلم المجتمعي فصل الله تعالى في كتابه أنصبة الإرث بالنسب الجزئية الدقيقة. وشكل الحكم حين يصل الأمر فيه إلى الدماء والتقاتل الداخلي أهم وأخطر من كل ما ذكرت.

أولاً : فقدان النص لدلالة المتن على ما يزعم الخلافتية
سنتناول النص من ناحيتيه: المتن والسند. ونبدأ بالمتن لنرجئ السند إلى مقال آخر. وهنا سنثبت لكم أن الحديث يمدح المُلك ولا يذمه. وإليكم التفصيل: 

1. افتقار الحديث إلى الدلالة على ذم المُلك
دلالة الحديث على ذم الملك وهم ناتج عن قصور في اللغة عند من توهمه؛ فقد اعتمد الخلافتية في ذلك على ورود لفظ (الملك العاض) في نص الحديث بعد ذكر (الخلافة على منهاج النبوة)، ما يفهم منه أن الملك العاض يعقب الخلافة الراشدة مباشرة بلا فصل. وهذا لا يستقيم وقواعد لغة العرب. وتسأل: كيف؟ ولي أن أجيب:

أ. العطف بحرف ( ثم )  
جاء ترتيب (الملك العاض) في سياق النص بعد (الخلافة على منهاج النبوة)، لكن برابط حرف العطف (ثم). أعد قراءة النص ثانية: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً).
إن هذا الحرف في لغة العرب يفيد التعقيب مع التراخي، أي مع وجود فاصل زمني بين السابق واللاحق. بمعنى أن الملك العاض سيأتي لكن ليس مباشرة بعد الخلافة المنهجية؛ فلا بد أن يكون بين الحكمين حكم آخر أقل ما يقال فيه أنه ليس ملكاً عاضاً. فما هو هذا الشكل من أشكال الحكم؟
هذا إذا سلمنا بالفكرة الشائعة أن (الخلافة الراشدة) اقتصرت على أربعة. وهو وهم آخر لا دليل عليه سوى روايات لا تصح عند التحقيق. ولو صحت سنداً فهي باطلة متناً، إضافة إلى ما فيها من طعن بنظام الحكم في الإسلام، من حيث أنه نظام مثالي لم يتمكن من المطاولة أكثر من تلك الفترة القليلة، بل اعتوره الاضطراب بعد أقل من عشرين سنة. وهذا ما يقوله الخلافتية أنفسهم، وأولهم (الإسلاميون)، لكنهم يسحبونها إلى ثلاثين سنة.
والخلفاء الراشدون في تاريخ الأمة على مدى يزيد على (1400) عام كثيرون جداً. وأمة ليس في تاريخها راشدون سوى أربعة هي أمة سوء، لا أمة خير، بين الأمم، فضلاً عن كونها (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران:110).
الحقيقة أن تعبير (الخلافة الراشدة) مصطلح استعمله المؤرخون، ثم بآلية الإشاعة والإعلام والتكرار ترسخ في الأذهان كحقيقة مسَلَّمة. ومصطلحات أي علم ليست حجة خارج دائرة العلم الذي أنتجها. والتاريخ لا يؤصل ولا يفرع في أي مسألة دينية.

ب. العضوض والجبرية وصف للخلافة
أعد من فضلك قراءة النص ثالثة وتفكر لترى كم أنت مخدوع بسبب السوابق الذهنية التي ترسبت عندك بالتكرار والإشاعة والإعلام: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً… ثم تكون ملكاً جبرية).
ركز معي: إن لفظ (تكون): مؤنث لا مذكر. و(المُلك) مذكر لا مؤنث؛ إذن الوصف المذكور يعود على الخلافة لا على الملك. وكذلك لفظ (جبرية) وصف للخلافة. فالخلافة هي التي انقلبت ملكاً عاضاً وملكاً جبرياً. وبهذا يكون الملك العضوض خلافة عضوضاً، والملك الجبري خلافة جبرية. والملك الراشد خلافة راشدة.

2. الحديث يمدح المُلك .. لا يذمه 
يبدو أننا في حاجة إلى إعادة القراءة لهذا النص ولمئات مثله مرات ومرات؛ بشرط تطهير الذهن من الترسبات والحشوات السابقة التي توطنت فيه.
لو ركزت معي قليلاً في النص خارج نطاق السوابق الذهنية لوجدت ما يثير عجبك!
أولاً: النص لا يذم الملك المجرد، وإنما الملك الموصوف بأنه عضوض أو جبري. ولا يمدح الخلافة المجردة، وإنما الخلافة الموصوفة بأنها (على منهاج النبوة). فليس في النص إذن ذم للملك.
ثانياً: متن الحديث يدل بوضوح على أن الملك داخل في مسمى الخلافة: مدحاً أو ذماً. ففي النص نوعان من الحكم: الأول: ممدوح (خلافة على منهاج النبوة)، والآخر: مذموم (ملك عاض وملك جبري). ويسكت عن نوع ثالث منه هو المُلك العادل. ملك داود عليه السلام مثلاً، أو طالوت أو بلقيس، أو النجاشي (“إن بالحبشة ملكاً لا يظلم عنده أحد” كما في السيرة). وروى الشيخان عن جابر  قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة). وقد ورد الثناء على الملك العادل في أحاديث أُخرى لا تقل صحة عن حديث حذيفة منها حديث ابن عباس الذي رواه الطبراني في (المعجم الكبير) عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول هذا الأمر نبوة ورحمة ثم يكون خلافة ورحمة ثم يكون ملكاً ورحمة ثم يتكادمون عليها تكادم الحمير). والحديث جوّد الألباني إسناده في (السلسلة الصحيحة، 7/803).
هل بقيت حاجة إلى قراءة أخرى النظر لمتن الحديث؟ أم إن هذا يكفي؟
أنا أقول: هذا يكفي وزيادة، لإثبات عنوان المقال أو البحث: (حديث الخلافة على منهاج النبوة، يمدح الملكية الراشدة ويذم الخلافة الفاسدة. لكن بقي لي وقفة أقرأ معكم فيها سنده وسترون بإذن الله جل في علاه كيف يخر عليهم السقف من فوقهم حين تأتي على قواعد الباطل وأهله من تحتهم!

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى