مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

حديث ( الخلافة ) .. لو صح سنداً ومتناً ما صح دليلاً وحجة

د. طه حامد الدليمي

منذ عدة سنوات وجهنا سؤالاً للخلافتية، وكررناه مرات، ولم يجيبوا عنه حتى الآن: هاتوا نصاً شرعياً يمنع تداول السلطة بالوراثة؟ ولن يجيبوا عنه حتى تقوم الساعة!

شيء غريب هذا الذي يجري من عبث بحجة (الخلافة) المقدسة و(الملكية) المدنسة على صعيد الفكر وصعيد الفعل؛ هذا ولا من نص شرعي يشهد لهذا العبث، بل النص على الضد؛ فأحكام السياسة نزلت في القرآن العظيم في ظل أنظمة حكم ملكية بعضها قادها أنبياء، وجاء التنصيص في بعضها على شرعية التوريث صراحةً، لا ضمنا فقط!

وحين أنظر لـ(أدلة) الخلافتية لا أجدها فاقدة للنص فحسب وإنما مضيعة للمنهج، ومقالي هذا يدور حول هذا الضياع.

في مقالين سابقين تناولت بالنقد حديث (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة). كان المقال الأول عن عدم دلالة المتن على معتقد الخلافتية في تحريم (المُلك)، وفي التفريق بينه وبين (الخلافة): مدحاً وذماً. وأما المقال الثاني فبينا فيه ضعف السند.

والآن أبين فساد الاحتجاج بهذا الحديث من حيثية ثالثة، وهي حيثية منهجية أصولية، أجدها غائبة عن بال المهتمين بالأمر، وهي “حجية النص نسبة إلى موضوعه”. فتعالوا نرى هل يصح الاحتجاج لتقديس الخلافة وتدنيس المُلك بمثل هذا الحديث، وإن توفرت فيه شروط الصحة طبقاً لمعايير الحديث: سنداً ومتناً، أم ذلك لا يصح؟

الشرع الحكيم فرّق بين حجية الخبر نسبة إلى موضوعه

لقد فرّق الشرع الحكيم في قبول شهادة الشهود حسب الموضوع المشهود فيه:

1. ففي موضوع السرقة – مثلاً – تقبل فيه شهادة اثنين من العدول.

2. لكن في موضوع الزنا شدد الشرع في شروط الشهادة فلا يقبل فيها دون الأربعة: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً (النور:4). ودون أن يكون الشاهد قد رأى الفعل وقع دون أدنى شبهة “كالميل في المكحلة”.

3. وفي موضوع كثبوت رؤية هلال رمضان يرى بعض الصحابة مثل عمر وعلي وابن عمر رضي الله عنهم كفاية شهادة الواحد، وبه أخذ الإمام أحمد والشافعي. لكن شددوا في شهادة شوال. والفرق بين هذا وهذا واضح. ذاك صيام، وهذا إفطار لا بد فيه من التحوط.

وهذا يعني أن اختلاف شروط إعمال الخبر باختلاف درجة موضوعه أمر منهجي مقرر شرعاً. وأن الأمور الخطيرة يجب التحوط فيها بالتشدد في شروط صحة الخبر عنها، ولا يكتفى في اعتبارها بصدق ناقلها واتصال سندها مطلقاً.

وهذا منهج رباني مشتهر عن المالكية والأحناف؛ فقد وضعوا شروطاً للأخذ بأحاديث الآحاد الصحيحة السند. اتفقوا على شرط أن لا يكون الخبر مخالفاً للأصول الشرعية، أو مخالفاً للقياس إذا كان الراوي غير فقيه. وانفرد المالكية لكون الإمام مالك في المدينة أن لا يكون الخبر مخالفاً لعمل أهل المدينة. وأضاف الأحناف شروطاً أُخرى مثل: أن لا يخالف الحديث نص القرآن ظاهراً، إذ يرون أن خبر الآحاد ظني من حيث ثبوته بخلاف النص القرآني فهو قطعي في ذلك. وأن لا يخالف عمل كبار الصحابة.

خطورة موضوع الحكم ووجوب التشدد في الأخبار الواردة فيه

هذه الشروط طبقها الفقهاء مع أحاديث تتعلق بأحكام فقهية فروعية يسوغ الخلاف فيها. بينما حديث (الخلافة) يتعلق بموضوع سياسي خطير له علاقة ماسة بتفاصيل حياة الناس.

لقد اشترط الخلافتية نظاماً للحكم، ورتبوا عليه أحكاماً ونتائج ومفاهيم خطيرة، منها:

– إثبات نظام مقدس للحكم اسمه (الخلافة) أوجبوا على الأمة العمل به دون غيره.

– الذم المطلق للمُلك، جاعلين إياه النقيض النوعي التام لـ(الخلافة) بحيث تقدس الخلافة بإطلاق ويجرم المُلك بإطلاق!

– التعرض بالسوء لصحابي جليل، بل صحابة أجلاء، وقلب حسناتهم إلى سيئات.

– الطعن في الحقبة الأموية كلها، وهي من أخصب حقب الإسلام وأكثرها بركة وأعظمها تمكيناً وعزة ومجداً، وكانت في زمن خيرة القرون.

– تعدى ذلك عند بعضهم، خصوصاً الأحزاب الإسلامية، إلى الطعن في تاريخ الإسلام الذي امتد زهاء ألف وثلاثمئة عام، وهو تاريخ خلفاء كلهم ملوك طبقاً للمفهوم الخلافتي.

– شهد الواقع وجود أحزاب إسلامية تدعو إلى إزالة أنظمة الحكم الراهنة، سواء منها الوراثية أو الجمهورية بحجة أنها لا تقوم على أساس (الخلافة).

– تطور الأمر إلى نشأة فصائل مسلحة نفذت الفكرة وقاتلت الأنظمة، نجح بعضها في تأسيس كيانات سياسية زعموا أنه الشكل المنشود للحكم. وترتب على ذلك كوارث عظيمة لم تشهدها الأمة من قبل. والأمر إذا وصل إلى هذه الدرجة استحق بحكم الشرع التشدد في شروط خبره ثبوتاً ودلالة. ولا يكتفى فيه بشروط الصحة العادية.

إن أي فرع فقهي إذا ترتب عليه مثلما ترتب على (الخلافة) من نتائج ارتقى من درجته التي هو عليها إلى درجة أُخرى لا تقبل فيها إلا أدلة تحوز نسبة عالية من شروط توازي درجته وتداعياتها في الواقع. فجلد الزاني مثلاً بسبب خطورته المجتمعية تشدد الشرع في ثبوت واقعته، وجعله نصاً صريحاً يتلى في القرآن نفسه. وموضوع الخلافة أخطر بمراتب.

وعلى فرض صحة حديث الخلافة فإنه في ثبوته ودلالته لا يرقى إلى مستوى درجته وخطورته فهو حديث آحاد رواه واحد عن واحد، وفي شأن سياسي يتعلق بأمن ورزق وحياة الناس واستقرار الدولة؛ ومثل هذا لا يصلح للاحتجاج في بابه. فكيف وهو ضعيف شديد الضعف من ناحية سنده وثبوته، وضعيف شديد الضعف من ناحية معناه ودلالته!

عدا تحكيم الشريعة .. ليس في الإسلام تحديد لشكل الحكم أو اسمه

إن ما يهم الإسلام تطبيق الشرع تحت أي شكل من أشكال الحكم: وراثياً كان أم جمهورياً، رئاسياً أم وزارياً. وتحت أي عنوان من عناوينه: مُلكاً أم خلافة، أم إمارة أم مشيخة، أم غير ذلك. وما عدا ذلك فبدعة حادثة من بدع السياسة. وبدعة السياسة أشد خطورة من بدعة تتعلق بفرع من فروع العبادة. على أن السياسة بضوابطها جزء لا يتجزأ من الدين، وهي من أعظم العبادات التي يتقرب بها إلى الله جل في علاه. والحاكم العادل في الآخرة في الدرجات العلى من الجنة.

5/11/2018

 

اظهر المزيد

‫3 تعليقات

  1. ما يثير العجب شيخي الكريم
    أن اصحاب ” نظرية الخلافة” ما أخذوا منها الا العنوان وتركوا المضمون
    ولقد جاء في الحديث ( أول هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكًا ورحمة، …..) السلسلة الصحيحة
    كل مراحل الحكم بحسب الرواية اعلاه تصف الحكم بـ( الرحمة) فما وجدنا من الخلافتيين الا الغلظة والشدة والظلم وأخذ الناس بالظن والشبهة وتطبيق العقوبات والحدود عليهم دون شهود ولا ادلة

  2. العجيب شيخنا الكريم
    ان اصحاب نظرية الخلافة أخذوا منها العنوان وتركوا المضمون الذي جاء وصفه في روايات عديدة هذه واحدة منها عند الطبراني( أول هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكًا ورحمة،….) وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة.
    بينما نرى اصحاب” الخلافة” لا رحمة عندهم، فهم قُساة القلوب، يقتلون ويقيمون الحدود بالشبهة والظن والوشايات، اخذوا الناس بالشدة والغلظة وفضاضة التعامل !
    وحتى من ادعى السياسة منهم من الأحزاب فهم اخذوا الحكم من الخلافة وتركوا الحاكمية وما يرتبط بها من لوازم

  3. مشكلة العقل السني يقرأ بنظره ويسمع بإذنه ولا يشغل العقل في المنقول مع ان الله سبحانه أمر التدبر والتفكر والتعقل مع قرانه النازل وهو الكتاب المعصوم من الخلل والخطأ فكيف بالجهود البشرية إن مقالك هذا بمثابة وخز للعقل السني في تدبر الدليل وصلاحيته قبل الاستدلال به وهذا التجديد لم نجده الا في مؤسس التيار السني في العراق فجزاك الله خيرا عن الأمة بما تبث فيها من صلاح للعقل والدين والقلب

اترك رداً على عبد الرحمن المهندس إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى