د. طه حامد الدليمي
حين أرسل إلي صديقي ليلة 2018/12/20 هذا الخبر: “أعلنت المتحدث باسم البيت الأبيض، سارة ساندرز، أن واشنطن بدأت بسحب القوات من سوريا”.. تساءلت: ما الذي يحدث؟ هل تغير مسار أمريكا مع إيران؟ وسألته: بماذا تفسر ذلك؟ كان جوابه بين بين. وختمت كلامي معه بأن قلت: نحتاج وقتاً لنفهم الأمور أكثر. وسرعان ما اكتملت الصورة فأصبح الحدث قابلاً للفهم. الانسحاب لم يكن من سوريا فقط، إنما من أفغانستان والكويت أيضاً. والجيوش المنسحبة من هناك تتجهة إلى العراق لا إلى الوطن الأم..
بعد خمسة أيام جاء الخبر المثير الآخر!
دخول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى العراق دون إذن الحكومة العراقية (الشيعية) وربما دون علمها أيضاً. مكث ثلاث ساعات في قاعدة (عين الأسد) وأكل الديك الرومي مع جنوده محتفلاً بليلة الميلاد. وأطلق تصريحاً ذا دلالة قوية: “نحن باقون في العراق ولن ننسحب منه. ونستطيع منه معالجة الوضع في سوريا”!
ها قد تم تركيب الحدث مع المسار تماماً. المسار هو المسار.. تقليص نفوذ إيران: بتغيير سلوك النظام أو تغيير النظام نفسه. والظاهر أن أمريكا أخذت تميل إلى الخيار الأخير!
أمريكا تتقلص من خارج العراق وتتجمع فيه. إعادة انتشار للجيش الأمريكي إذن وليس انسحاباً هذا الذي يجري، ليس من سوريا فحسب وإنما من أفغانستان والكويت. الحرب تقتضي تقليص مساحة الانتشار تجنباً للخسائر في الأرواح والمعدات، وابتعاداً عن الأماكن الثانوية قبل أن تتحول إلى مستنقعات يزيد من صعوبة المعركة المركزية.
والعراق مركز الثقل؛ فمن ربح المعركة فيه ربحها في سوريا وفي غيرها. والأمريكان يختارون المكان الأنسب لخوضها فيما لو وقعت.
ولقد تم تأمين الحدود بين سوريا والعراق. وقطع الطريق البري على إيران. وانكسر الهلال الشيعي كتحصيل حاصل. وحسم مصير القوات الإيرانية في سوريا دون حرب؛ فقد انقطع طريق الإمداد البري والجوي أيضاً. واتخذ الأمريكان من العراق قاعدة انطلاق لإسقاط كل توابع إيران في المنطقة من العراق إلى اليمن مروراً بلبنان.
الحدث الثالث
فوجئنا يوم 5/ كانون الثاني بظهور كتيبة من الجنود الأمريكان تستعرض في بغداد بدءاً من ساحة بيروت حيث مقرات أعتى المليشيات الشيعية بقيادة قاسم سليماني، حتى ساحة المستنصرية ثم انحرفت يساراً إلى أن دخلت شارع المتبي وصولاً إلى شارع السراي حيث أبنية السراي العثماني ما زالت ماثلة للعيان! ثم تجولوا في سوق الشورجة. كانت الكتيبة بقيادة الجنرال أوستن رينفورث نائب قائد العمليات التحالف الدولي في العراق، يصحبة جليل الربيعي قائد عمليات بغداد. اللافت أن الجنود الأمريكان تجولوا دون أن يرتدوا الدروع كما هو المعتاد!
ما زالت ذاكرة التاريخ تحتفظ بدخول البريطانيين سنة 1917 بغداد وإعلانهم من هنا، من سراي الحكومة، الانتصار على الدولة العثمانية. هل هو إعلان صامت يوجهه الأمريكان من المكان نفسه عن انتصارهم على الدولة الفارسية؟
تداعيات تستعصي على الملاحقة
بعد ذلك – ومنذ ظهور الأمريكان الأول في شوارع وأسواق بغداد قبل أربعة أيام – بدأت الأحداث تتلاحق بطريقة التداعي بحيث يستحيل ملاحقتها وحصر تفاصيلها.
اجتياح كبير من قبل القوات الأمريكية للعراق من شماله إلى جنوبه، وتمركزها في القواعد العسكرية خصوصاً تلك التي تقابل الحدود مع سوريا والأردن. والأرتال تتنقل علناً في طريقها إلى مقراتها دون أن يعترضها أحد.
وصول أعداد كبيرة من الطائرات محملة بالأسلحة والمعدات الحربية، وظهورها في سماء بغداد وغيرها من المحافظات. نزول أكثر من مئة طائرة محملة بالجند في قاعدة العزيزية في الكوت وسط شرقي العراق. وقبل ذلك بشهر دخلت حاملة الطائرات الأمريكية النووية مياه الخليج. ومناورات عسكرية في الكويت… والأحداث كثيرة جداً، لكن باختصار: ما يجري احتلال علني وسيطرة كاملة للأمريكان على العراق! وأخبار تترى عن أشياء كثيرة منها التحضير لحكومة جديدة بقيادة عسكرية من الجيش السابق، وفي قاعدة (عين الأسد) جهود حثيثة لتكوين جيش من أبناء الأنبار بما يشبه (حرس الإقليم). والأخبار كثيرة، ولا شك أن بعضها غير صحيح,
الغريب أن رئيس الحكومة عادل عبد المهدي يقول: “لم أتسلم أية معلومات عن تمركز جديد للقوات الأمريكية”. بل يقول: “هناك انخفاض مستمر في عدد القوات الأمريكية وغيرها من القوات الأجنبية”! وبقية رؤوس الشيعة والمليشيات “اعمل نفسك ميت” لولا تلاسنات بين هذا وذاك، بعضهم يرمي بالمسؤولية على بعض. نوري المالكي يحمل العبادي مسؤولية دخول القوات الأمريكية إلى العراق، والعبادي يرد بأن تلك القوات استدعاها المالكي رسمياً قبل تسلم العبادي رئاسة الحكومة بشهرين.
هل ستقع الحرب ؟
كل من يراقب الحدث الكبير عن كثب يشعر بأنه يعيش أجواء سنة 2003 لكن هذه المرة ضد إيران وشيعتها. والملاحظ أنها إلى الآن لم يظهر منها ردة فعل تناسب الحدث؛ وكأن المفاجأة شلت كل شيء فيها! أم إنها تدبر أمراً في الخفاء؟ كل شيء جائز.
هل ستقع الحرب أم لا؟ الاحتمالان واردان. أمريكا سيطرت على الوضع وفي يدها العصا تلوح بها. وهي من القوة بحيث تجعل عدوها يفكر ألف مرة قبل أن يقدم على مواجهتها. فهل ستستخذي إيران وتستسلم للأمر الواقع عند اقترابها من حافة الصفر؟ وارد جداً. أم ترتكب حماقتها من باب “عليّ وعلى أعدائي”؟ ربما. ومهما يكن فالحرب ليست في صالحها لعدم تكافؤ القوى بين الطرفين. أما المليشيات فمقراتها مكشوفة وقادتها معروفون، وتحت الرصد. لن تكون المواجهة إذن، فيما لو وقعت، على طريقة (حرب العصابات)؛ فليس أمامهم إلا الفرار أو الدمار.
لصالح السنة .. كل السنة
ما يجري حدث كبير ساقه القدر على يد الأمريكان لصالح السنة، ليس في العراق فحسب، وإنما في المنطقة كلها! وعلى أبناء السنة أن يقوموا بدور المتفرج هذه المرة. اجلسوا على التل وانتظروا حصد النتائج.
أمس رفع الكرد في كركوك علم كردستان الذي أنزله الشيعة منذ أن احتلوا المدينة في 2017/10/16؛ وهذا يعني شعور الكرد بتضعضع قوة الحكومة بعد دخول مزيد من القوات الأمريكية إلى الإقليم لا سيما في قاعدة (كَي وان K1) في كركوك. وبعد انتهائي من كتابة المقالة وصلتني صورة عن رفع العلم في كركوك ولكن بيد جندي أمريكي، لا كردي، هذه المرة! وفي هذا دلالة عميقة على غروب شمس المشروع الفارسي وسليله الشيعي في العراق، وإشارة إلى انتهاء حقبة وبدء حقبة، عسى أن تكون فاتحة خير لعهد جديد بعيداً عن تحكم (العبيد).
إنها فرصة لأن يستعيد السنة العرب قوتهم، وعليهم ترتيب أوراقهم مع الكرد لا مع الشيعة. الشيعة سيأتون لاحقاً وبأنفسهم واختيارهم، على طريقة “اضرب الرأس يهتز الذيل”. هذه هي طبيعتهم، وهذا هو قدرهم. وعلى الباغي تدور الدوائر. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُم ۖ مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).
هذه فرصة ربما تكون الاخيرة، وعلى السنة العرب ان يبتعدوا عن التخوين والشتم والتشهير فيما بينهم، وان يجعلوا هويتهم السنية هي العليا على ان لايفرطوا بقوميتهم العربية،كما هم الكرد الذين جعلوا قوميتهم الكردية هي العليا لكنهم لم يفرطوا في الحفاظ على قيمهم الدينية والتزامهم بمذهبهم السني. اعتقد ان الفواجع التي اصابت السنة العرب منذ 2003 بكل تفاصيلها الاليمة، والتي تضاعفت بعد 2014 وطالت جميع محافظاتهم وحولتهم الى رماد انتشر في بقاع الارض، ربما سيكون عامل مساعد في مراجعة كل اوراق الماضي، ومحاولة النهوض من جديد، وليس هناك امل في النهوض الا بهوية سنية واضحة، وكل الرايات الاخرى سقطت تحت التجارب السابقة التي ثبتت انها كانت خرافة وعبث ومصالح شخصية.
نسال الله تعالى أن تثمر هذه الأحداث عن تدمير إيران ومن ورائها الشيعة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وأن يسفر عن ظهور المشروع السُنّي الذي يأخذ بأيدي السُنة لبر الأمان ويعيد لهم دورهم الكبير لأنهم كبار والشيعة صغار.
وأن يقر عينك شيخنا الفاضل بخروج ساق المشروع من بذرته وفي تربة صالحة ليكون الساق مستوياً غليضاً قادراً على إخراج الأوراق وإثمار الثمار.
إن شاء الله نهاية أضحوكة إيران وشيعتها والى الأبد