مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

على سفح جبل .. قانون كوني واحد ومظاهر متعددة

د. طه حامد الدليمي

آذار في أوله، والعام 2015.

كنا مدعوين عند صديق، يقع بيته على سفح جبل.

تنزل إلى البيت من ناصية الشارع بدرج حجري طويل، حتى إذا انتهيت منه درت مع البناء إلى يمينك لتصل إلى المدخل الرئيس للبيت. درج آخر ينتظرك على بعد خطوتين بعد المدخل.. مؤكد أنه سيغريك لترتقي حجراته كي تجد نفسك بعد خطوات في شرفة يسرح منها بصرك عبر منخفض متدرج بعيد القرار، تمرح فيه عرائش العنب وأشجار الزيتون في منظر كل جزء فيه حالم وجميل. البيوت تحتكَ على السفح ونسمات عليلة تبشر بالربيع تلاعب خصلات شعرك.. وتأخذك إلى هناك، إلى شواطئ دجلة أيام كانت دجلة تمرح آمنة بين أهلها قبل أن تطأها حوافر الأغراب. ومما زاد الجلسة جمالاً على جمالها مجيء اثنين من أصدقاء العمر، وأشقاء الروح من.. من هناك أيضاً.

وكان حديث اشترك فيه الجميع. ولأن أسماعنا اعتادت على أن تكون فاتحة أحاديثنا قطوفاً نتلقّطها من شجرة (طَيِّبةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ).. كان لي عدة قطوف تناولتها من شجرتنا تلك، وقدمتها لإخواني وأخواتي قبل أن يقبل علينا مضيفنا بأطباق العشاء. إليكم بعض ما قدمته في بديئة حديثنا من تلك القطوف.

 

وحدة قوانين الكون مع تعدد مظاهر تطبيقاتها

تأملت قوانين الكون فوجدتها واحدة.. من الذرة إلى المجرة، ومن جسم الإنسان إلى جسم المؤسسة، ومن عالَم الفيزياء والرياضيات إلى عالم الاجتماع والسياسة والاقتصاد. أعْني أن أي قانون كوني، وإن كان واحداً في جوهره، يتخفى ليظهر في أشكال تتنوع في مظاهرها طبقاً لتنوع مواردها أو مجالاتها التي تتنزل عليها، وتظهر من خلالها، فيظن الناظر بادي الرأي أن لكل مورد قانونه، وما هو – في الحقيقة – إلا قانون واحد. خذ مثلاً قانون:

( الطبيعة ترفض الفراغ )

تجد كل حَيّز أو جسم – الإناء مثلاً – إن فرغ من الماء ملأه الهواء، وإن فرغ من الهواء مُلئ بشيء آخر، ولا بد؛ إذ يستحيل أن يظل فارغاً. ثم اخرج من عالم الآنية قافزاً مرة واحدة إلى عالم السياسة رغم البون الشاسع بين العالمين أو الموردين أو المجالين.

حين يموت رئيس بلد لا بد أن يملأ الفراغ الذي تركه رئيس آخر. وإذا ضعفت دولة فنشأ عن ضعفها فراغ أعقبه خلل مؤثر في قوتها، غزتها دولة أخرى، أو تقاسم فراغها دول تتنافس على ملء ذلك الفراغ كما تتنافس جزيئات الهواء على ملء فراغ الإناء.

خذوا مثلاً آخر: القانون الفيزياوي الشهير:

( القوة × ذراعها = المقاومة × ذراعها )

هذا القانون هو أحد القوانين العظمى في تحقيق التوازن بين أي قوتين متضادتين. عملياً يقتضي التوازن في حال تعادل قوتين أن يكون بُعد كل قوة عن نقطة الوسط مساوياً لبعد القوة المعادلة. وإذا زادت إحدى القوتين في بعدها عن نقطة الوسط، اقتضى التوازن أن تبتعد القوة المعادلة بما يساوي الزيادة الحادثة المقابلة، وإلا حدث خلل في توازن القوى الذي هو أساس الاستقرار. هذا أولاً. أما ثانياً فانقلاب ظاهر الأمر إلى عكس ما هو عليه في الحقيقة، فظهرت إحدى القوتين أكبر من الأخرى رغم أنهما متساويتان. بل يمكن لقوة صغيرة أن تتغلب على قوة أكبر منها أضعافاً بحركة بسيطة.. أن تبتعد عن نقطة الوسط، أو مرتكز التوازن، فتزيد في ذراعها على حسب الأضعاف التي تريد بلوغها.

ولهذا القانون الفيزياوي قانون آخر يسنده ويكمله:

( لكل فعل رد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه )

ويعني في مورد آخر – أقصد قانون الاجتماع – أن: “الاعتدال في وسط التطرف اعوجاج”.

كما يظهر هذا القانون الكوني الفيزياوي في مجال المعادلات الرياضية على شكل آخر:

( إذا أضيفت كميات متساوية إلى أُخرى متساوية تبقى النتائج متساوية )

(وإذا طرحت كميات متساوية من أُخرى متساوية تبقى النتائج متساوية )

 

من أتقن قانوناً أتقن تطبيقه في كل مجالاته

والآن.. دع عالم الفيزياء وعالم الرياضيات، وخذ عالم الاجتماع وطبق عليه القانون نفسه: عندما يبتعد مكون مجتمعي عن نقطة الوسط (الوسطية بلغة الاجتماع)، وفي الوقت نفسه يطالب بقية المكونات بأن يلتزموا البقاء في نقطة الوسط؛ وإلا رفع عقيرته متهماً من تحرك منها بالتطرف.. هنا عليك أن تنتبه جيداً لقد حصل خلل في التوازن الاجتماعي الضروري لاستقرار المجتمع؛ بسبب التطرف الذي تبوأه المكون المتهِم. والتطرف هنا مفهوم يطابق القانون حرفياً؛ لقد اقترب ذلك المكون إلى الطرف بدل البقاء في الوسط، أو مرتكز التوازن الذي هو أساس الاستقرار المجتمعي. وهذا هو معنى التطرف.

فما الحل والحالة هذه؟

أنت أمام خيارين لا ثالث لهما، ولا بد من تحقيق أحدهما وإلا أمسيت خارج معادلة الحياة: فإما أن تتطرف تجاه من تطرف بالقدر نفسه. أو يعود المتطرف إلى مكانه الأول نفسه.

خذها مني إذن.. إذا وقف الخصم في طرف المعادلة فليكن وقوفك في الطرف الآخر مبتعداً عن نقطة الوسط بالقدر المكافئ لابتعاد الخصم وقوته حتى يحصل الاعتدال. وإلا فإن الوقوف أو الاستقرار والجمود في نقطة الوسط مع تطرف الخصم لا يحدث الموازنة مهما حاولت، ومهما أرسلت مع الريح رسائل الحب من جانب واحد.

هذه هي مشكلتنا مع الشيعة. أقلية تزعم أنها أغلبية؛ بمعنى أنها زادت من قوتها. ومتطرفة تلبس لبوس الوسطية؛ بمعنى أنها زادت من ذراعها.

وهذه هي مشكلتنا أيضاً مع أهل السنة، وهذه هي جناية الوطنيين أيضاً في حقنا.. أغلبية صدقت مزاعم الأقلية؛ بمعنى أنها قللت من قوتها. وهي باستمرار تقترب من نقطة الوسط أملاً بترضية الشيعة؛ بمعنى أن ذراعها يقصر مع الزمن… حتى تجمد وتأسن وتلقى في مكب نفايات الزمن الذي لا يرحم الجامدين.

للأسف هذا هو الواقع.

نحن في حاجة إلى قلب مقادير المعادلة؛ لأن التوازن الاجتماعي أصيب باختلال في صميمه لغير صالحنا. لكن الناظر في هذا الجيل وزعاماته لا يجد ثمت ذبالة أمل على الأمد المنظور. لهذا كان (المشروع السني). وكانت المؤسسة السنية (التيار السني في العراق). وكان التعويل على الشباب خطاً ثابتاً هو المعتمد لدينا.

وللحديث بقية.

2019/2/28

 

اظهر المزيد

‫4 تعليقات

  1. ايها العاشق الذي ذاب مع الكون الفسيح وعاش معادلة من معادلاته الان فهمت كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يقول نحن في سعادة لو يعلم بها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف من فهم التوازن فهم الحياة دين ودنيا

  2. لئن الشيعة يسيرون ضمن مشروع ورغم ضعفهم وقلتهم تجدهم يحصدون نتائج -حتى- أكثر مما يستحقون وبالمقابل، فإن السُنة يسيرون بلا مشروع وبرغم قوتهم وكثرتهم فأنهم يخسرون وما يزالون. حتى تعتدل طريقتهم ومسيرهم ضمن مشروعهم السُنّي، وليس ضمن مشاريع الآخرين وخاصة مشروع الشيعة ومشاريع الأفكار الخاوية من السنة الوطنيين والاسلاميين.

  3. …. – بعد قراءتي لهذا المقال وجدت نفسي أمام جبل عظيم ، حيث وقف شامخاً يصد عن أهله رياح التصحر .
    و هذا الجبل يختلف عن بقية الجبال بطينته الخلقلية، والروح التي يحملها، فهي قد مزجت روحه بذلك الجسد على شكل بشر بهيئة جبل.
    وجدناه طبيباً، فاصبح طبيب للأرواح والابدان، ثم تجده جبلاً من الحنان والرحمة على أتباعه وأهله ،
    وتجده جبلاً مدافعاً بالفكر والتحصين المجتمعي ،
    جبلٌ تتكسر كل القحاف المعادية عندما ترتطم بصخوره أو تنوي العبور من خلاله إلى أهله.
    وكذلك هو جبلٌ من الحبِ والشعر والأدب والمرح …. ليس هذا فحسب….
    بل ربط الطبيعة، والدين ، والقضية ، والحياة، والعبادة…. كلها بقانون التكامل الكوني تحسه جبل من نور على هيئة بشر طيني سبحانك ربي كم أنت عظيم في خلقك …. كل هذا حدث أمام عيني وأنا اجرجر بصري بين حروف المقال . كانت ترسم أمامي كل تلك الصور …. رغم أن وصفي قد شوه ما دار في داخلي …لأنه كان أجمل مما وصفتُ.
    …🌼🌼
    هنا في هذا المقال وأنت تخط من سفحِ جبلك العالي أجمل قواعد التوازن الضرورية لإستقرار المجتمع ، وتدعم تلك النظرية أو القواعد بأجمل نظريات الكون الذي لابد أن تكون واحدة مهما تعددت مظاهر تطبيقها على أرض الواقع ..
    والأجمل من هذا كله هنا أجدُ تجديداً للفكر ، وطرحه بثوبٍ جميل وجديد.
    أي أنك تريد أن تقول لمن لم يدفعه واجب الدين والشرع للتصدي والدفاع وحمل ما يفرضه واجب الدين…
    فلتحركه سنن الكون وقوانين الحياة التي لايمكن أن تستمر الحياة بدونها … فإذا سرنا عكسها أو مخالفين لها ستقذفنا خارج الحياة من خارطة الوجود إلى الزوال والهلاك.
    فمثلاً كم يصمد شخص وهو يسير عكس إتجاه مياه جارفه؛ لم يصمد كثيراً سوف تجرفه الأمواج العاتية وتقذفه إلى حافة الجرف أو جثة هامدة ……

    ومن خلال هذا كله تضع يدك على جرح عميق ، وتسحب منه نصلاً قد غرز فيه لسنين طويلة لم يجرأ أحد أن يضع له حلا.!
    أو يهرب من مواجهته الكثير..!
    وتضع درعاً منيعاً لكي لا يعاد مرة أخرى، مبنيٌّ على قاعدة رصينة .
    هذه القاعدة تضع الحل الجذري لخلل التوازن المجتمعي.. ويجب أن تكتب بجروفٍ من نور… هي في قولك:
    ( المجتمع أمام خيارين لا ثالث لهما..ولابد من تحقق أحدهما وإلا امسيت خارج معادلة الحياة..
    1-فإما أن تتطرف تجاه من تطرف بالقدر نفسه.
    2- أو يعود المتطرف إلى مكانه الأول نفسه.)
    نعم لأنها طبيعة الحياة ..تقول :”لكل فعل ردة فعل تعادلها بالقوة وتعاكسها بالإتجاه.”
    وقولك:(وقوف الخصم في طرف المعادلة فليكن وقوفك في الطرف الآخر مبتعداً عن نقطة الوسط بالقدر المكافئ ….إلى. أن تقول… وإلا فإن الوقوف والجمود في نقطة الوسط مع تطرف الخصم لايحدث الموازنة مهما حاولت ، ومهما أرسلت مع الريح رسائل الحب من جانب واحد ).
    هنا قد حققت ثلاث مقاصد في هذا التحصين في آن ٍ واحد.

    الأول– وضعت حلاً للمشكلة.
    ثانياً– وجهت بوصلة المجتمع بالاتجاه الصحيح.
    ثالثاً– ليس هناك مجال أو مكان للفكر الوطني ولا الترضوي .

    وآخر سطر في المقال تضع أجمل إشارة وهو المستهدف من المجتمع وهم الشباب في هذه القاعدة بالدرجة الأساس.
    ….
    جزآك الله عنا خير ما يجازي به المصلحون …. يا شيخنا الغالي.
    بلغك الله إلى تصبو إليه وتحلم….

  4. أهل السنة فقدو توازنهم في كل أمور الدين والحياة وتخذو جانب واحد العباده فقط وهمهم الوحيد دخول الجنه
    وما طبقو دستور القرآن الكريم وتنزيله على الواقع ولماذا خلقنا ألله الأعمار الأرض والعمل بالربانية ونصرة الدين وحل مشاكل المجتمع من حولنا كما قرأنا عن الأنبياء عليهم السلام وقصصهم في نصرة دينهم وقضاياهم المختلفة بإذن الله هذآ ما سيحققه أنصار المشروع السني من تغير وتجديد الأفكار السائدة المتجمده
    جزاك لله خيرا شيخنا المجدد الراشد طه الدليمي موضوع قيم

اترك رداً على حسنين عبدالله الأموي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى