على ضوء رسالة أوغلو التي هزت المجتمع السياسي التركي
رجاء العزام/ منظومة الفقيه القائد/ التَّيار السُّني في العراق
لست معنيًا بخطاب أحمد داود أُوغلو بتفاصيله (النص الكامل في الهامش) بقدْر ما خرجت من الرسالة بدروس، رابطًا الوقائع والحاضر بتجارب الإسلاميين في الحكم المعاصر.
وأن يأتي كلام أُوغلو في هذه الفترة ناصحًا مبيِّنًا مستشرفًا، خيرٌ من سكوته أو حجب نصحه وبيانه واستشرافه!
أيُّها السُّني الغيور ونحن – في مشروع يريد أن يستفيد من تجارب غيره – نراقب جيدًا حركة الإسلاميين في حكمهم المعاصر.
لأننا على يقين أن الأرض سيرث حكمَها من هو أهل لها، ونسعى لذلك.
فهلَّا أعددنا أنفسنا لهذا اليوم.
لقد أقام القرآن نظرية القياس، ومنها النظر في تجارب الحكم ليستفيد الخالف من السالف: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} الروم:9.
وهذا ما تقرَّر عندنا في (منهاجنا – نظرات في السياسة الشرعية): الاستفادة من تجارب الشعوب في سياسة الناس بما لا يتناقض مع الشريعة أصل مقرر لا حرج فيه، بل فعل مندوب يُحمد عليه، أو واجب يطالَب به. أ.ه
وأقول: وكم يكمد القلب ويحْزَن أن يرى الإسلاميين ينحرفون بالحكم لصالح مؤسساتهم ونقاباتهم، ويقدِّمونها ليرتدَّ لسان عموم الناس على الإسلام سُبَّةً وتعييبًا.
النموذج الأوَّل: السودان
استبشرنا بحركة وحكومة الإنقاذ عام 1989م يوم تقلَّدت الحُكم في السودان، وهو البلد يستطيع أن يُموِّل الأمة بتمامها، فتربته وماؤه وموارده البشرية والنفط والذهب وانفراده بمنتجات كثيرة، هو الأوَّل عالميًا فيها تكفي لأن يكون أغنى من أرقى الدول الأوربية، بل يستطيع أن يكون في مصآف الدول المتقدِّمة لو أنه وجد حُكَّامًا يتساوون مع عنوانهم الذي أتوا به: الإسلام.
بيد أنها ثلاثون عجاف مرَّت بهذا البلد، كان السودان يأمل أن يرى فيهم حكمًا راشدًا لا فاسدًا، ولكنَّه اطمأن بعد عناء أن حُكَّامه كذبوا عليه وليس الإسلام.
والنتيجة قبولهم بتقدم كل المشارب الفكرية إلا الإسلاميين فهم مستَعاذٌ منهم.
فالعيب إذن في الحاكم المتأسلم وليس في الإسلام النموذج الراقي.
داعش النموذج الثاني
في مقابل النموذج المنساح، نموذج شدَّد فشدَّد الله عليه، هذا بغضِّ النظر عن رأسه وخيوطه وبيد من يتحرَّك؟!
حقيقةً المجتمعات اليوم تشرئبُّ لتنظر متأثرةً بالتقدُّم الحاصل في هذا العصر المتزاحم في كلِّ شئ، ثم يأتي من لا يفهم هذا الواقع فيقسِر الناس ويأطرهم على فكره.
متدخِّلًا بهم في تفاصيل وسعها التشريع اختلافًا، فلما حكموا لم تسعها عقولُهم احتواءً.
فنظرتهم قاصرة، ورؤيتهم تحت الأقدام.
وأرسل الصادقون نصحًا تلو آخر في أوَّل أيام حزيران 2014، لكن لمَّا تجلَّت حقيقتهم وفضحتهم تصرفاتهم، عاد الناصحون القهقرى لأنهم لم يسلموا من بطش وتكفير هؤلآء.
ففهموا من هم، وماذا يُراد منهم.
لكن العين تهمل على شبابٍ ضاع، وفقدان جيلين أو ثلاثة كان الصدق دافعهم ولم يعرفوا حقيقة القادمين باسم (الخلافة)!
مدنٌ ماتت… تحوَّلت إلى مقابر فوق الأرض.
وحكمَ ابن المتعة… وذيلُه.
وساد العجمي ضائعُ النسبِ.
وسُبَّ السُّنة وأهينوا، نساءً وأطفالًا وشيوخًا هم اليوم تعصف بهم الذلة في المخيمات.
فما الذي جنيناه من نموذجهم؟!
تركيا وحلم الخليفة، النموذج الثالث
لعلَّ الأثر: ستكون خلافة… هذا إن ثبت! طاش بالعقول لنيله، حتى تمادت النفوس به، وجاء أربكان – رحمه الله – ليربي جيلًا للإسلام، لكنَّه لم يدرِ أن الذئاب وإن رضعت من الحملان لن تصير حملانًا.
فكان أوَّل ضحاياها.
وثاني الضحايا: الإسلام، فقد تبرَّأوا منه، وأعلنوها علمانية علنية.
وقد تعارضني فتقول: هذه سياسة ولافتات، والمعنى في قلب الشاعر.
فأقول: أين هي شخصية المسلم لما يتبرأ من عنوانه وهويته: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} البقرة: 135، فعشرة مواضع في القرآن جاءت بهذا العنوان.
إنها ثوابت، ومن لم يعرف ثوابته من متغيراته تاه، وفي لجج بحر السياسة غرق.
فالحكم باسم الإسلام ليس ابتزازًا للأسلام!
مخرجات السطور
لكل مقال خاتمة، والخاتمة ليست نهاية المقالات فقط، بل هي نهاية كل شئ، وسأجنح لتنقيطها خروجًا من سردها لغاية في نفسي:
1.أغلى ما يملك المسلم دينه، وهو هويته فإن كان قد أتى للحكم به، فلا يجعله أوَّل فريسة له.
2.ليست العبرة بعدد السنين التي يحكمها الحاكم، بل بالمحصِّلة التي يخرج بها، فهنا تحضرني فترة (الحكم الانتقالي) لسيدنا الحسن، وحكمته في انتقال السلطة سلميًا، حفاظًا على الأمة، فهو نموذج راشد للحكم، وتخيَّل أخاه الحسين الذي لم يحكم، ولكن إن افترضنا أنه حكم، ما نتائج حكمه؟
النتيجة: أن تحكم المجوس الأمةَ من سنة 60ه بسبب: هيهات منَّا الذلة!
3.أعِدُّوا معاوية.. حذارِ من المستعصم: فالمتفحِّص الملمُّ المنصف يجد تمام الحكم الراشد والحاكم الراشد في خلافة سيدنا معاوية رضي الله عنه.
وبينما كنتُ ضيفَ سنة 656ه في الأسبوع الفائت، كان أثقل ما عليَّ شخصية المستعصم مضيِّع الإسلام والعرب.
فزهو الإسلام وضياعه بسبب الحاكم ونقابته.
4.لست مطريًا قلمي، ولكن عاهدته على أن يكون حرًا بيدي، نحن أيُّها السادة السُّنة الكرام أمام تجارب، ومن لم يتعظ بها فما سُعد.
عليه إن تمكَّنا – وهذه ثقتي بالله غير متآلٍ عليه تعالى – فالحكم بما يأتي سيضيِّعنا ويضيِّع جهدنا ومشروعنا ومنهجه وأفراده:
أ.من حكم بمبدأ الوطن والوطنية فهذا تائه متيِّه.
ب.من حكم متحيِّزًا لنقابته، وحكم بمفهومها حزبًا ونقابةً، فهذا سينتهي من حيث بدأ، وإن طالت سنوات حكمه، وكما أسلفتُ: ليست العبرة بعدد سني الحكم.
ت.من حكم بغير الهوية السُّنية والعصبية السُّنية فهو المستعصم الثاني.
ث.من حكم تابعًا فسيُستعبدُ وحكُمه، فالتعامل مع القوى العالمية على أساس المصالح لا التبعية، فالحكمة أن تحكم بطريقة: النِدُّ المنافس لا الند المخالف.
و”صناعة الأصدقاء وتفريق الأعداء” قاعدة مقررة في (منهاجنا).
وأخيرًا
- الحقوق والواجبات على أساس العطاء في تثبيت الحكم، وليس للنفعيين.
- الحكم للربانيين، والتجارب التي أمامنا التي هي أقربُ مثالًا لبيت العنكبوت، ففقدان ربانية الحاكم الذي يأكل أوَّل الموصلين له للحكم درس لنا.
- تجارب الداخلين في الحكومات من ساسة سُنة ووزراء كانوا أم نوَّابًا، يُصدِّق نظرتي ما تقرر في (منهاجنا):
1.لا سياسة بمعزل عن معرفة بالواقع أو البيئة الداخلية والخارجية اعتمادًا على المعلومات الصحيحة والبيانات والإحصاءات، فالسياسة الشرعية ليست فقهًا بالنصوص فقط، وإنما معرفة بالواقع وكيفية التعاطي معه في ضوء الشرع اعتمادًا على فقه المقاصد طبقاً للضوابط.
2.إذا كانت المصلحة أم السياسة، فالقوة أبوها. أ.ه
والنقطة الثانية شاخصة لنا في شخوص كانوا أصحاب قضية فأضحوا مفلسين منها ومن الهوية، لأنهم دخلوا السياسة بغير قوة، أو دخلوها بقوة لكن ليس بقوتهم، بل بقوة من ورَّطهم، فانماعوا وسُيِّروا مع القطيع.
…………………….
النص الكامل لرسالة داود أوغلو التي هزت المجتمع السياسي التركي https://t.co/L8IdSHQj6Z #العربية
— العربية (@AlArabiya) April 23, 2019
ووفقك الله وفتح عليك استاذ رجاء العزائم
جزاك الله خيرا
هذا المقال في روعته يفسر قاعدة التيار السني في العراق من لم يكن له مشروع فهو ضحية لمشاريع الاخرين وهو يبين أن المشروع المدني هو الحلْقة المفقودة في سلسلة الجهود ونحن في التيار نكل النوايا الى الله ولكن الصوابية ما ننشدها ونزاوجها مع النية .
نعم.. فالحكمة ضالة المؤمن أنما وجدها فهو أحق الناس بها!
أذا تاهت بك السبل فعليك بأول الطريق طريق رسول الله بنا دولة تحكم بشرع الله في جميع مؤسساتها وهذا ماأدركة شيخنا الفاضل فتتبع السيرة النبوية في منهج القرآن والعمل بالواقع فكان المشروع الرباني يحكم بشرع الله وبهذه سار الصحابة والتابعين من الخلفاء والملوك الراشدين وانت على نهجهم .وفقك الله أستاذنا الفاضل وجزاك الله خير الجزاء
كلام صائب ودقيق
بإذن الله نخرج قادة بهوية وقضية سنية لخدمة دينهم ونصرة قضيتهم بجهود الصادقين والمخلصين وتطبيق قوانين الإسلام الصحيح لما يحب ألله ويرضى
بوركت أستاذ مقال رائع