الأيام الخواليمقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

الميلاد وشيء من الطفولة

د. طه حامد الدليمي

 

الميلاد

في يوم الجمعة (22/نيسان) من سنة (1960)، السابع والعشرين من شهر شوال سنة (1379)، ومع أصوات المؤذنين لصلاة الجمعة: نطقت القابلة بالبشرى! وابتسمت الوالدة ابتسامة الارتياح والرضا، وهي تلحظ بعينها لترى ثمرةً حملتها وهناً على وهن تسعة أشهر متتابعات، بين يدي القابلة. كان ذلك في مدينة النواب من قضاء الكاظمية في بغداد، التي رحل إليها الوالد ليكون قريباً من معمل الغزل والنسيج هناك، قادماً من ريف المحمودية قبل بضعة أشهر للعمل فيه.

وتوقفت القابلة عند كتابة الاسم في (بيان الولادة).. سميه (غايب). هكذا قال الأب. وترد الأُم:

  • لا لا، بل (طه) على اسم النبي عليه السلام، أيش هذا الاسم (غايب)؟ أعوذ بالله! ما غايب إلا الشيطان.

كان أبي قد أحب قبل ذلك شابة من أهل الجنوب. وعلى عادة بعض أهل العراق يلقبون من لا ولد له بـ(أبو غايب) كانت تناديه ويناديها بهذه الكنية. وغابت تلك الحبيبة من حياته لكن أثرها ما زال حاضراً ، فليكن (غايب) هو اسم الابن البكر وفاء لذكرى تلك الحبيبة الغائبة الحاضرة. وهكذا كان، فخطت القابلة اسم (غايب) في الحقل المخصص له من (البيان)، رغم اعتراضات الوالدة التي أنهت النقاش بقولها:

  • سترى أيهما يبقى.. اسمي أم اسمك؟

وشاء الله تعالى أن لا أُعرف بهذا الاسم ولا أَعرفه إلا يوم دخلت المدرسة! فالأهل والأقارب حتى الوالد ينادونني باسم (طه)، حتى كبرت ووصلت السنة قبل الأخيرة من المرحلة الثانوية، فغيرته رسمياً إلى اسمي المعروف، ليعود ذلك الاسم إلى غيبته الأبدية كغيبة المهدي، سوى بعض زملاء الدراسة القدماء، الذين ما زال بعضهم إلى اليوم إذا التقينا صدفة حياني به.

بعد ذلك بعشرين عاماً جاءني من يقول لي:

  • هل علمت بالخبر الجديد؟
  • أي خبر؟
  • الشيعة يقولون: هذا الشيخ يكذب عليكم ليس اسمه طه، إنما غايب.

ضحكت وأنا أُجيبه:

  • قل لهم: غائبنا ظهر بعد أقل من عشرين سنة، لكن شوفوا غائبكم!

ثم أردفت:

  • الحمد لله الذي رد كيدهم إلى الوسوسة.

كان أبي – رحمه الله – رجلاً ملولاً لا يتحمل الاستقرار على شيء: لا في عمل ولا مسكن ولا حال. بضعة أشهر قضاها هناك في مدينة النواب، ثم هجر وظيفة النسيج وطوى رحله وعاد إلى أرضه في ريف المحمودية فلاحاً. ثم ما عتم أن ترك الفلاحة لينخرط متطوعاً في سلك الشرطة، تلك الوظيفة التي طوّف من أجلها كثيراً في مدن العراق، ونحن معه نرتحل من مدينة لنحط في مدينة، ونغادر حياً إلى آخر. خمس مدارس تنقلت بينها مدرسة مدرسة في المرحلة الابتدائية فقط! والقصة طويلة طويلة، وفيما ذكرت كفاية. فلا تعجبوا إن رأيتموني أقفز بين الأسطر من مكان إلى آخر: فآناً في الكاظمية، وآناً في المحمودية، وثالثاً في الصويرة، ورابعاً.. وخامساً… وأنا ما زلت في حقل الميلاد.

 

الطفولة

في ريف ( الخياميات ) فتحت عيني

mmm فتحت عيني وأنا طفل صغير أدرج في أرض جدي بريف (المحمودية القديمة). و(المحمودية القديمة) نهير يتفرع عن نهر (شيشبار) الذي ينبع من نهر الفرات، يغذي منطقة واسعة من الأراضي تسمى (الخياميات) تقع إلى الشرق من مركز المدينة. (شيشبار: شش: السادس، وبار: المخزن. أي المخزن السادس).

كانت أول حادثة علقت في ذاكرتي من تلك الأيام الموغلة في تاريخ العمر وفاة عم والدي، وكان عمري آنذاك سنة ونصف السنة. ها هي أمي تحملني على كتفها وأبي في المقعد الخلفي للسيارة التي تحمل التابوت يضرب على الدف مع آخرين وهم ينشدون في طقس من طقوس الدراويش يشيعون به الميت!

أتذكر الحادثة كصورة مقتطعة من فلم باهت قديم.

قطعة أُخرى باهتة لكنها ما زالت ناشبة في مشجب خيالي القديم، قريبة العهد باللقطة الأولى: أهلي في حقل الباميا وأنا ألعب بالقرب منهم على متن ساقية، نبتت على جرفها شجيرة صفصاف. وفي لحظة غفلت عني فيها عين الرقيب الذي كان يراوح النظر بيني وبين الثمار اليانعة، تسلقت أغصان الشجرة. ثم.. لا أدري كيف هوَيت إلى القاع. وتتلفت أمي ناحيتي.. لا شيء سوى الشجرة تلعب بها ريح الصيف الجافة ولا من أحد تحتها! فتهتف صارخة: “حامد! طه ماكو!”.

ويلقي الجميع بالآنية التي يجنون فيها المحصول، ويركضون تجاه الشجرة. لا أذكر من المشهد سوى صورتين كحلم تشتتت أجزاؤه وتفرقت بدداً: أهلي بين أغصان الباميا العالية أتطلع إليهم جهة الغروب. وأنا، محمولاً بين يدي والدي أنظر من خلفه إلى طاقيته الطافية في ماء الساقية.

لقد كان في العمر بقية..

وتستمر (البقية) حتى يأتي يوم بعد ذلك بحوالي خمسين عاما،ً أسمع فيه وأنا عنها بعيد بمصرع أختي (أم أحمد)، وكانت من شهود تلك الذكرى التي تخللت طيات قصيدة طويلة رثيتها فيها فجاءت هذه الكلمات:

( ها أنتِ في الحقلِ الجميلْ

والوالدانِ ..

تراودونَ ثمارَه

وأنا على غصنٍ نحيلْ

بشجيرةٍ قامتْ على نهرٍ قريبْ

طفلٌ صغيرٌ تحتَ أنظارِ الرقيبْ

هلْ تذكرينَ ،، أُخيتي ! ،،

هلْ تذكرينْ

لمّا هوَيتُ لقاعِهِ

في غفلةٍ منْ عينِ ذياكَ الرقيبْ

الماءُ يشهدُ والنجيلْ

وخيالُ طاقيةٍ طفتْ

وأبي على مَتنيهِ يحملُني

ووالدتي على الشاطي تجولْ

هل تذكرينْ ؟ )

 

من أين أبدأ ؟

صعب عليّ في هذه اللحظات أن أحدد نقطة معينة منها أبدأ حديثي في رحاب هذه الذكرى.. نعم.. للوالدة حق أن أتذكرها في مثل هذا اليوم، وأذكر بعض ما لها عليَّ من أيادٍ بيض. ولكن هل لي أن أضع مثل هذا على صفحات أعدت لعموم الناس، وليست خاصة بي؟ هذا ما ترددت فيه وفي مثله منذ أن فكرت بالموضوع.

ويبقى السؤال: من أين أبدأ؟

ويبقى الجواب: لا أدري!

ولكن ألا ترى أن المهم أن أبدأ، مهما كانت نقطة البداية؟

لو كنت قريباً مني لاستشرتك، وقد أكون أخذت برأيك.. لكنني وحيد، ليس في مكتبي المتواضع أحد سواي. وإن دخل عليّ داخل أشرت عليه بالانصراف؛ لأني لا أستطيع الكتابة إلا خالياً بنفسي. فأستسمحك العذر إن أخطأت البداية؛ فلطالما أخطأ أمثالي من بني البشر.

من أيام الصبا سأبدأ.. تلك الأيام التي لا أملك إزاءها إلا أن أقول، وقلبي ينقبض وينبسط حنيناً وحسرة:

 

من أرض البُطِين .. من هنا أبدأ

سقياً لأيام الصبا.. وملاعبِ الطفولة!

وشوقاً لتلك المغاني.. التي فارقتها منذ أربعين عاماً، ويزيد!

ودعاءً.. وسلاماً لتك الخطى التي نقلناها على تلك الرمال، التي تحتضن سهل “البطين” الممتد بين كيلو/5 و كيلو/12 على يمين نهر “اللطيفية” الحبيب.

ترى..! هل بقي منها شيء؟ أم تخلف لها أثر؟

أيتها القرية الوادعة! هل تذكرين صبياً عمره تسع سنين..؟ يوم أن دلفت قدماه الصغيرتان إلى حماك، مع والدته في يوم من أيام صيف 1969، ليستقر مع أسرته الصغيرة: أمه وأخيه الكبير.. وأخ له صغير.

هل تذكرين؟

أما أنا فلا زلت أذكر.. ولست بناسٍ ما حييت!

 

كوخ من قصب .. وحجرة من طين

كوخ من قصب .. وحجرة من طين/ صورة قديمة للدكتور طه الدليمي لست أنسى ذلك الكوخ، الذي بناه خالي من بواري القصب وحنايا الصفصاف، وسكنا فيه أياماً ربما امتدت لشهر أو شهرين، ريثما اكتمل بناء “خرابتنا” أو حجرتنا الطينية الوحيدة.

كان لنا في طرفه الغربي “حِب” فخاري للماء، نقصده، نحن الأطفال، في الليالي المظلمة حيث لا كهرباء، ولا مصباح زيت، عطاشى لاهثين من أثر الركض واللعب، ونحن نتوجس خيفة من العفاريت الكامنة لنا في زوايا الكوخ. فنشرب الماء على عجل، ثم نخرج مسرعين. ولا أدري كم مرة اختبأت في ظلماته حتى إذا جاء أحد الأطفال يمشي على حذر ظهرت له فجأة من بين الظلام أصيح في وجهه بصوت مخيف: ( بَوّْ ) فيرتد على عقبيه وهو يصرخ لا يلوي على شيء! بينما أغرق أنا في الضحك حتى تغرورق عيناي! ثم أخرج لأستأنف اللعب من جديد.

كانت أمامنا من جهة القبلة على بعد بضعة أمتار “خرابة” خالتي الأرملة مع بناتها الأربع وولدها الوحيد. وإلى اليسار قريباً منا دار أخوالي المتكونة من عدة حجرات من الطين، متقابلة مع بعضها، يسيجها حائط، مع حجرة للضيوف بابها إلى الخارج، نسميها “ربعة” أو “مضيف”. وخلف هذه الدار، دار كبيرة تعود لخالة لي أخرى هي الصغرى من بين خالاتي السبع.

 

مدرسة ( الرواشد ) الابتدائية

وإذا تركت هذه الدارة الصغيرة، وعبرت الساقية أمامها، ومشيت باتجاه القبلة مسافة نصف كَيل ستجد مدرستنا “مدرسة الرواشد الابتدائية للبنين” بصفوفها الطينية الخمسة، مع حجرة الإدارة. تطل واجهتها شرقاً على حديقة جميلة، تظللها أشجار التوت، وعرائش العنب، على الضفة اليسرى لنهر “البطين”. يقابلها على الجانب الآخر بستان من أشجار النخيل، تتبادل المواقع معها، وتحتمي بظلالها أشجار المشمش، تجاورها على امتداد النهر أشجار التوت العالية، التي طالما تسلقناها ونحن نتبارى أينا يبلغ قمتها؟ وكم من مرة تسللنا خلسة إلى البستان بعد انتهاء الدوام، لنأكل من ثمار المشمش اللذيذ. أو إلى حديقة المدرسة، لنأكل العنب الأبيض، ونقتحم أعشاش العصافير والحمام بحثاً عن فراخها. وقد يمتد بنا الشوط فنذهب إلى بساتين التفاح القريبة، نأكل منه حتى نتخم، ثم نحمل من ثمره ما استطعنا بثيابنا. نعقد أطرافها إلى أعلى ونمسكها بأيدينا، لنأتي بها أهلنا فرحين ضاحكين.

ياه..!

أين ذهبت تلك الأيام؟ وكيف انطوت صفحاتها؟ حتى كأنها ما كانت! ولن تكون.

أصحابُنا مِنْ هنا مَرّوا على عَجَلٍ        ***  مَرَّ النسيمِ على آهاتِ مشتاقِ
فَيا طيورَ الرُّبى حُطّي بناحيةٍ            *** كانوا بِهاواغرِفي من شَجْوِ أعماقي ويا هَبوبَ الضحى هلّا عبرتَ على     ***  آثارِهم لِترى كُحلاً لأحداقي وإن ْنزلتَ على نهرِ ( البُطِينِ ) فَسَلْ  *** صَفصافَهُ ” هلْ أتى مِنْ بعدِنا ساقي ؟ ”
وهلْ شَدا فوقَهُ طيرٌ ، وهلْ صدحتْ  ***  قُمريةٌ ، وبكتْهُ ذاتُ أطواقِ
إني إلى جُرفِهِ أهفو كقُبَّرةٍ            ***  عاثَ الهجيرُ بِها مِنْ حَرِّ أشواقي 

2019/4/21

Show More

11 Comments

  1. من أين أبدأ يا عيون الشعر يا فيض مشاعر أمن عبق ماضيك الذي يقول لنا ان المصاعب لن تقف امام مجد تطلبه امن من رقة الاحساس في هذه الطبيعة الخلابة والراقية امن من الوفاء للمكان واللهج بالقضية ويقف هنا قلمي لاقول اتعبت من بعدك يا ايها الكبير جميل هذا المقال الا ان فيه عيب الا وهو قصر ليتك أطلته يا شيخنا المجدد .

  2. ادب الترجمة الذاتية ترصَّع مع القضية والهوية.
    فهو مزاج قلم أدبي ذكَّرني ب: طفل من القرية.
    ثم أيهما أصدق، بل أولى اتباعًا، غائب مشاهد؟!
    أم غائب مفترض؟! لم ولن يكون.

  3. ما اجمل تلك الأيام رغم قساوتها يشدك الحنين اليها ففيها يجتمع حنان الام ورعاية الأب وبراءة الطفولة وتذكر مرابع الصبا التي يحن جميعنا اليها رعاك الله شيخنا الحبيب ورحم الام والأب .

  4. سبحان الله أقرأ وأنا مبتسمه لهذا الميلاد أو الحياة الجميلة البسيطة التي أخرجت لنا هذا المفكر العظيم الذي بفكره جدد امور كثيرة
    ليخرج أهل السنة من غيبوبة كبيرة
    رحم ألله والديك واسكنهم فسيح جناته
    حفظك ألله شيخنا الجليل 🍀🍀

  5. رحم الله والديك وادخلهم فسيح جناته
    ياله من مقال رائع
    منذو الصغر وفيك القضية (طه) وفيك الصبر والمثابرة
    زادك الله من فضله وحفظكم واطال الله في عمرك

  6. اعزكم الله واسعد ايامكم شيخنا الحبيب
    الممزوجه بحلاوة الايمان ومرارت الحياة.
    كل عام وانت الى الامام
    يلغالي

  7. حياة مليئة بالقصص والعبر والمشاعر الجميلة والأمل والمرونة والبساطة والذكاء والشجاعة والأ نتقال من مكان الى أ خر وهذة الأحداث المتنوعة أنتجت لنا رجل عظيم في زماننا ليجدد أمور
    ديننا حفظك الله يا شيخنا الحبيب ..الله أعلم حيثو يجعل رسالته

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button