مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

الحراك السوداني والحكم المدني .. ما هي الحكاية ؟

د. طه حامد الدليمي

– هل الحكم المدني يعني أن تكون إدارة الدولة بيد غير العسكري؟

– ما تعريف المدني بالمفهوم السياسي؟ هل هو غير العسكري؟ فكل من لم يكن عسكرياً هو مدني؟

– هل العسكري لا يدخل ضمن مفهوم (المدني) بالمعنى الحضاري للمفهوم؟

وبلفظ آخر: هل العسكري هو القسيم المقابل للمدني.. كالليل والنهار، والحر والبرد؟

– بالمختصر: ما تعريف المدني؟ وما تعريف العسكري؟

– أخيراً.. هل لدى الجماهير الثائرة ونخبها القائدة أجوبة واضحة عن الأسئلة السابقة؟

أسئلة تستحق عمل استطلاع ينشر على الفضائيات، وأجهزة وبرامج التواصل الاجتماعي.

**

ما يجري في السودان يجعلنا نضع أيدينا على قلوبنا تحسباً مما لا تحمد عقباه من تداعي الأحداث هناك! ومما يضاعف الخوف هذا التدخل الدولي المتعدد الأطراف.

والمشكلة في أصلها هي هي في كل الحراكات التي عمت المنطقة العربية منذ 2011 وحتى اليوم. وهي ظاهرة حتمية تعود إلى غياب الوعي لدى الجمهور: عامة ونخباً، وافتقاره للمقومات التي تؤهله للقيام بمثل ما نصَب له نفسه من مهمة تنوء بحملها الجبال.. تغيير النظام والإتيان ببديل أفضل؛ لهذا آلت أمور الحراكات في المنطقة كلها إلى ما ترون!

العلة إذن في الجمهور نفسه، بمن فيه القيادات. إن شرعية الطلب لا تستلزم تسليم الطالب ما يطلب من حق ما لم يبلغ مستوى الرشد. آسفاً أقول: إن جماهيرنا لا تختلف عمن قال الله تعالى فيهم: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) (النساء:6).

ما تطلبه حق، ولكن الباطل يختبئ في التوقيت.. حتى تتحقق الأهلية. وإلا فالقادم أسوأ!

مفهوم ( الحكم المدني ، وحكم التكنوقراط ) .. هل هو مفهوم ؟

يطالب الجمهور المتظاهر بشيء اسمه (الحكم المدني) بعيداً عن سيطرة العسكر. ويترجمه عملياً لأن يكون للمدنيين نسبة كافية من التمثيل مع العسكريين في إدارة الدولة. وأحياناً يعبر عن ذلك بالمطالبة بأن تسلم الإدارة إلى يد (التكنوقراط).

كلام يبدو في ظاهره متماسكاً! لكنه في حقيقته يعكس نسبة كبيرة من سوء الفهم لهذين المصطلحين لدى الجمهور. فالحكم المدني مفهوم سطحي.. وظيفي لا حقيقي، كمي لا نوعي. لا يعني عنده أكثر من أن المدني عكس العسكري.

إذن ما يعنيه الجمهور بالحكم المدني.. يقف عند إشراك عدد من المدنيين في إدارة البلد يقارب عدد العسكريين. عندها تكون المشكلة قد حُلت. وهذا معنى ساذَج لمطلب سياسي خطير.. لا يرقى إلى أدنى مستوى للحل!

ما هي مشكلة العسكر ؟

إن مشكلة العسكر تكمن في أنه الجهة الأقوى في المعادلة؛ لأن القوة الفاعلة بيده لا بيد المدنيين. وعلى هذا الأساس.. لو افترضنا أن العسكر استجاب لمطلب الجمهور إلى أبعد الحدود فكان المجلس الحاكم مؤلفاً من عشرين مدنياً وعسكري واحد.. فإن الكفة تبقى راجحة إلى جانب العسكر! لأن العدد لا يمكنه تغيير الواقع على الأرض.

هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية فإن العسكر ضرورة يستحيل الاستغناء عنها في كيان أي دولة. بل إن العسكر في لحظات تاريخية معينة يكون هو العامل الأوحد في معادلة التوازن المجتمعي، وإلا انزلق المجتمع إلى فوضى لا يعلم نهايتها إلا الله جل في علاه. ما حصل في مصر بعد تنازل الرئيس حسني مبارك، مثال واضح. والسودان مثال آخر.

ثم إن تسليم السلطة إلى غير العسكريين لا يمنع احتمال خضوع البلاد إلى أسوأ نظام استبدادي للحكم. كونك غير عسكري لا يعني أنك مدني. هذا معنى شعبي ساذَج سائد، ليس له أساس علمي يستند إليه. سوى قول الناس: فلان عسكري، وفلان مدني؛ فرسخ لدى الجمهور هذا المعنى السطحي. وحين يكون هذا هو مفهوم (المدني) لدى الشعب.. فأيُّ كارثة تنتظره على كل الاحتمالات!!! سيظل ينتقل من حكم لا يرضاه إلى حكم أسوأ منه.. في دورة لا تنتهي، ما لم تعالج الأسباب المؤدية إلى ذلك.

مفهوم الحكم المدني

المدنية مفهوم حضاري. وهو ترجمة حرفية للفظ الغربي المتعارف عليه (Civilian). ومعناه مدني أو حضاري. وارتباط المدني بالحضاري – تاريخياً – ناتج عن كون أول مدينة بنيت في أوربا كانت على ساحل البحر في الجنوب، وذلك على يد العرب الفينيقيين. أما البقية فكانوا يسكنون الكهوف في الشمال. كان ذلك قبل الميلاد بقرون كثيرة. وكلمة (ساحلي) تلفظ بالعربية الفصحى (ساحليٌّ Sahilion)، وبالسريانية (ساحِلْيا Sahilia). ثم أصبحت في اللاتينية والإنكليزية وغيرها من اللغات الأوربية (Civilian).

والمدنية – بالمفهوم الحضاري – تعني أن ننظر إلى المفهوم نظرة نوعية لا كمية أو وظيفية.. نظرة تغوص في عمق المعنى لتجعله في متناول الفهم، وقاعدةً لتشخيص المشكلة، ننطلق منها لوضع الحل المناسب. عندها ندرك سذاجة ذلك الفهم الذي يقصر المدني على غير العسكري. فإن كان عسكري فليس بمدني!

هذا.. بينما الحكم المدني الحقيقي يكون كل شيء فيه مدنياً في نتيجته حتى العسكر. وعندها ندرك أن الخطوط الفاصلة بين المصطلحين (المدني والعسكري) إنما هي على الصعيد الوظيفي وحسب. أما على صعيد المفهوم الحضاري فلن تجد لتلك الخطوط أثراً إلا بمقدار تحدده الواقعة ثم تذوب الخطوط.

كيف نلجم قوة العسكر ؟

من المفارقات الطريفة أن حاجتنا للعسكر تكمن في قوته.. كما أن مشكلة العسكر تكمن في قوته! فما العمل؟ ما الحل والحالة هذه؟

الحل صعب عندما نفتقر إلى وجود آليات فاعلة لصنع موازنة دقيقة بين الحاجة إلى القوة، وبين المشكلة المنبثقة عنها. لكنه سهل ميسر في وجود تلك الآليات.

وآليات الموازنة تقوم على وجود أنظمة متطورة وقوانين راقية وأجهزة رقابية ذات صلاحيات فاعلة بحيث يستفاد من القوى العسكرية والمدنية والسياسية جميعاً، دون طغيان إحداها على الأخرى. وهذا في حاجة إلى مجتمع مثقف وقيادة واعية. ودون ذلك فإن قوة العسكر تبقى هي المهيمنة، ولو كانت القيادة كلها غير عسكرية.

وفي هذه الحال ستنشأ – ولا بد – علاقة مصلحية متبادلة بين الرئيس (المدني في ظاهره) وبين المنظومة العسكرية؛ يتحول فيها الرئيس إلى طاغية، والشعب الذي ثار إلى قطيع. ثم يعود الشعب إلى الثورة في أقرب فرصة تسنح له، ويعود الوضع المضطرب إلى حاله الذي كان عليه… وهكذا في حتمية دورية لا تنتهي، ما لم ينهض مشروع تجديدي كبير على كل المستويات، بما فيها المستوى المدني والسياسي والعسكري. وهذا يتطلب زمناً لتنضيج المشروع.. ما لم نكن مستعدين لدفعه مرة واحدة مهما طالت السنين.. سنظل ندفعه في كل مرة ضمن تلك الدورية الحتمية.

إن الثقافة والوعي والقوانين والأجهزة الرقابية، هي التي تجعل من أقوى جيش في العالم، (الجيش الأمريكي مثال)، جيشاً يخدم المجتمع المدني، ويحفظه، ويحافظ عليه. وإن التخلف، وغياب الوعي، وضعف القانون، وعدم وجود أجهزة رقابية، وحصر السلطة بيد الرأس، هو الذي يجعل جيشاً ضعيفاً يتحكم في رقاب الشعب على طول الخط (والجيش الإيراني مثال).

للآن ما تكلمت عن خطورة الفهم المشوَّش للتكنوقراط..

وللحديث بقية.

2019/6/18

 

اظهر المزيد

‫6 تعليقات

  1. تغيير النظام والإتيان ببديل أفضل؛ لهذا آلت أمور الحراكات في المنطقة كلها إلى ما ترون!”

    تغيير النظام هو كل ما يسعون إليه ويحلمون به اما الاتيان ببديل فهو مجرد حلم يحلمون به لأنهم لا يملكون لا الأدوات و لا المقومات للإتيان بجديد.. باختصار ما من مشروع بأيديهم سوى تغيير النظام(الهدم)

    “إن شرعية الطلب لا تستلزم تسليم الطالب ما يطلب من حق ما لم يبلغ مستوى الرشد.”

    عبارة عبقرية تجيب عن السؤال الثقيل الذي بقي يرن في رأسي منذ اسقاط البشير واستمرار التظاهر و تزايد المطالب..كنت اقول ثم ماذا .. إلى إين يريدون أن يصلوا!!!
    هل الهدم التام و البناء من جديد.. وهل يطيقون ذلك .. !!

    “وهذا في حاجة إلى مجتمع مثقف وقيادة واعية.”

    بدت لي هذه العبارة محبطة قليلاً .. قد توجد القيادة الواعية لكن اين نجد المجتمع المثقف!!

    لله درك يا دكتور .. سرعان ما ازلت ذلك الاحباط الذي نبت في عرض الطريق..
    اقتلعته من جذوره بقولك:
    “وهذا يتطلب زمناً لتنضيج المشروع.. ما لم نكن مستعدين لدفعه مرة واحدة مهما طالت السنين.. سنظل ندفعه في كل مرة ضمن تلك الدورية الحتمية.”

    ننتظر الجزء الثاني بشغف !

  2. يقول ابن تيمية: لا يكون الرجل إمامًا حتى يوافقه أهل الشوكة، وقال عن بيعة علي رضي الله عنه إنما صار خليفة لما بايعوه قتلة عثمان لأن لهم شوكة وقتئذٍ.. وأنا أرى أن الجيش جزء من المجتمع المدني ولا وجود لدولة لها سيادة بلا جيش ولا يكون الرجل رئيسًا لدولة مدنية إلا إذا كان يمثل الجيش أو كان الجيش معه أو يسيطر على الجيش وهذا المعنى يُظهر لنا أن الجيش هو السلطة العليا في أي دولة وهو صاحب الإرادة ببقاء الرئيس أو رحيلة أو أي تغيير يطرأ على السلطة فهو بالقوة يحكم ولا تنزع سلطته الا بالقوة.

  3. مشكلتنا لا زلنا نعيش بداوة خوارجية في مفاهيمنا رسختها الثقافة المعوجة فصرنا في تيه احكم قبضته على ملالي الدين والسياسة وهذا المقال يصحح المفاهيم ويضع البوصلة للمسار والحركة وهو ضربة قاضية للعاطفة الجامحة بلا مشروع مدني الذي لولاك يا دكتور طه لظللنا على ظهور خيل عادية لا نري اين تذهب بنا فلا نحن نملك لجامها ولا هي تملك ان تسالنا الى اين انتم سائرون ؟!!

  4. كل ثلاثة ايام تسنح لي الفرصة وانا في الخرطوم، ان افتح خط الأنترنت من مكان معين.
    ولدقائق فقط.
    أنا هنا أشخِّصالحالة الخاصة.
    إن سيلان لعاب القوة السياسية بسبب المال قد جرى على شتات هذا البلد.
    وكل يدعي وصلًا لليلى وليلى هنا: السودان!
    إن ما فعلته وتفعله دولة خليجية في السودان وليبيا ليس خافيًا، فهي لم ترضَ أن يسقط الحزب الحاكم المتأسلم هنا في السودان.
    إذن لا بد لها من إحداث فتنة ولو مع الشيوعيين والبعثيين!
    وادخلت الأموال ونشَّطت الجزيرة.
    كيف وقد خسرت تركيا سواكن.
    وسقط الحزب الذي لا تريده أن يسقط.
    وثالثة الأثافي التي توقد إيران عليهم قدرها وتسوي طبختها، تريد سحب السودان من التحالف العربي وإعادة الجن د السودانيين من اليمن، كل هذا لإفشال عاصفة الحزم، وتفتيت التحالف العربي وإفشاله، وتخفيف الضغط على الحوثيين.
    إنه المال السياسي الهادم والعادم.

  5. وأنا أقرأ المقال يتراءى لي الحل الذي وضعه التيار السُنّي بمعادلته المبتكرة بما يسمى السلطات الثلاث (المدنية والسياسية والعسكرية) وأن مشكلة السودان وقبلها مصر وليبيا وكل دول المنطقة هي بعدم امكانية ايجاد حل جذري لمشكلة لا تتوقف عن الظهور، لأنها تدور في دورة مفرغة تغيير النظام دون إيجاد البديل الصحيح والسابق دائماً يكون أسوء من اللاحق دون أن نسأل لماذا ؟

  6. قال تعالى في كتابه العزيز (٣٢) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (٣٣) قوة الجيش والنظام العسكري له والقوة والقدرة للحفاظ على الدولة أو المملكة من الأيادي الخارجية وهو العامود الفقري الذي يربط بين مؤسسات الدولة المدنية .وهو ليس تابع إلى جهة معينة أو شخص أو رئيس بل هو الدولة بذاتها وأنظمة الغرب لن تحل المؤسسة العسكرية ولكن تأتي برئيس أو قائد منتخب من مجلس الشوري أو مجلس الشيوخ ليلتحق بالمؤسسة العسكرية تابع للدولة المدنية هذه من التطورات التي عمل بها دول الغرب وهذه من ظمن سنن الله الكونية التي عمل بها الغرب ولم يعمل بها الأسلاميون الذين لايعترفون بأي مؤسسة عسكرية تابعة لدولة مدنية وهذا ماحصل في بعض الدول العربية ومنها العراق كل المؤسسات والدول التي لا تقوم بسنن آلله الكونية والشرعية يصبها الانهيار والدمار والفائدة لمن يملك مشروع ويعمل به . وهذا ماذكره شيخنا الفاضل طه الدليمي في الحلقات السابقة عن سنن الله الكونية والشرعية ولاتستقل الدول إلا بهما

اترك رداً على سارا إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى