مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

التاريخ أكذب العلوم .. ولكن …

د. طه حامد الدليمي

ظهرت الحاجة إلى توثيق الخبر منذ وقت مبكر في تاريخ الإسلام.

نتج عن ذلك أن اعتنى العلماء الأوائل عناية كبيرة بدراسة سند الخبر من حيث اتصاله، وعدالة الراوي وحفظه. وأضافوا إلى صحة السند شروطاً أُخرى تتعلق به وبالمتن؛ فقد كانوا مدركين أن صحة السند وحدها لا تكفي لتوثيق الخبر: حديثاً كان أم تاريخاً، ما لم يكتمل الخبر من ناحيتيه:

أولاً:  ناحية الرواية، فلا ينقص من تفاصيله شيء؛ إذ إن نصف الحقيقة هو الوجه الآخر للكذب، أو هو النصف المكمل له.

ثانياً: من ناحية الدراية؛ فإن التحقيق هو النصف المكمل للحقيقة.

ولأجل أن نبحث مدى صدقية هذه الفكرة (التاريخ أكذب العلوم) بناء على ما تقدم، رأيت أن آخذ لكم (تاريخ الطبري) مثالاً؛ لأهميته وتقدمه على غيره في موضوع التاريخ، ونذهب إلى (صحيح وضعيف تاريخ الطبري) للدكتور الفاضل محمد بن طاهر البرزنجي. وقد قسمه إلى قسمين: صحيح وضعيف الطبري.. لنرى ماذا نجد فيه، حسب تحقيق د. البرزنجي؟

قبل كل شيء تأمل الجدول الآتي:

أولاً: إن الصحيح من تاريخ دولة صدر الإسلام التي استمرت (30) سنة، شكّل:

  1. مجلداً واحداً بـ(424) صفحة غطت أحداث (30) سنة.
  2. أي ما يساوي (14) صفحة في السنة!
  3. أو أقل من (1/25)، أي جزءاً واحداً من (25) جزءاً من الصفحة في اليوم.

وإذا افترضنا أن في كل صفحة من القطع الكبير (300) كلمة..

  1. فإن التاريخ لم يسجل من حوادث ذلك العهد سوى: (4240) كلمة في السنة.
  2. أي (12) كلمة في اليوم.
  3. تعدل سطراً واحداً فقط لتغطية أحداث اليوم الواحد!

ثانياً: صحيح تاريخ الأمويين الذي استمر (90) سنة شكّل:

1. مجلداً واحداً، بـ(433) صفحة فقط.

2. أي أقل من (5) صفحات في السنة.

3. أو (1/72)، أي جزءاً واحداً من (72) جزءاً من الصفحة في اليوم.

4. و(1500) كلمة في السنة.

5. أي (4) كلمات في اليوم.

6. تعدل ثلث سطر فقط لأحداث اليوم الواحد.

ثالثاً: صحيح تاريخ العباسيين، الذي استمر – إلى حد وفاة الطبري سنة 310هـ – قرابة (180) سنة، شكّل:

1. مجلداً واحداً أيضاً بـ(534) صفحة فقط.

2. أي أقل من (3) صفحات في السنة.

3. أو (1/160). أي جزءاً واحداً من مئة وستين جزءاً من الصفحة في اليوم.

4. و(900) كلمة في السنة.

5. أي (2.5) كلمة في اليوم.

6. يضعها الكاتب في الزاوية الميتة من السطر!

 

النصف الآخر من الصورة

إن هذا لا يمثل سوى نصف الصورة! فأين النصف الآخر؟

  1. يقابل هذا (الصحيح) (1854) صفحة من الضعيف.
  2. أي إن ضعيف تاريخ الطبري يعادل الصحيح منه مع زيادة (463) صفحة، ويساوي أكثر من مرة وثلث.
  3. نسبة الصحيح في تاريخ الطبري (43%) فقط.
  4. نسبة الضعيف في تاريخ الطبري (57%).

 

الصورة الحقيقية للتاريخ المكتوب

بالعودة إلى الجدول نجد أن مجموع صفحات صحيح تاريخ امتد (300) سنة من العهود الثلاثة، يبلغ (1391) صفحة فقط! أي أقل من (5) صفحات في السنة، وأقل من (4) كلمات في اليوم، لا تعدل أكثر من ثلث سطر!

لكن الصورة الحقيقية للتاريخ لا تظهر إلا إذا نظرت إليها من الزاوية الآتية:

  1. إن بين أيدينا (300) سنة، لم نجد لها من صفحات تخبرنا عن صحيح ما جرى فيها سوى (1391) صفحة فقط!
  2. إذا قسمنا هذه الصفحات على عدد السنين يكون الناتج (4،6) صفحة لكل سنة.
  3. تساوي 1/29 من الصفحة لكل يوم.
  4. و(1391) كلمة في السنة.
  5. تساوي أقل من (4) كلمات في اليوم.

لو أراد شخص ما أن يكتب يومياته، ما غطت هذه المساحة أو الكلمات حركة واحدة في يوم واحد من حياته. فكيف بإمبراطورية امتدت من الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، ومن البحر الأسود شمالاً إلى المحيط الهندي جنوباً؟!

بمعنى آخر.. إنك تحتاج إلى سنة كاملة من الانتظار ليتجمع لديك من البيانات كي تتمكن من كتابة تقرير.. مجرد تقرير! وإلا فإن كتابة ما لا يبلغ ذلك ليس في حجمه بشيء أصلاً ليصلح تقريراً. لكن عليك أن تعلم أن تقريرك هذا لا يتجاوز أربع صفحات ونصف الصفحة، يراد لها أن يغطي أحداث إمبراطورية بهذا الحجم خلال سنة!

هل تعلم أن ما لديك لن يكفي لرسم صورة مصغرة عن أحداث قرية واحدة ليوم واحد!

يا لَلهول! إن تاريخ الطبري لدولة الإسلام خلال (300) سنة لا أراه يمثل أكثر من رأس نملة، أو أقل، نسبةً إلى فيل. وما نملة؟!

هل تصورت حجم المفارقة ..!

هل تصورت حجم المفارقة أو الخطأ، بل الخطيئة التاريخية إذا أردت أن تعرف التاريخ وتعتمد عليه من خلال الخبر المكتوب؟!

وإذا كان نصف الحقيقة هو الوجه الآخر للكذب، أو هو النصف المكمل له، فما هو حجم الكذب إذن، عندما لا يساوي الجزء المكتوب نسبةً إلى الجزء غير المكتوب إلا كما يساوي رأس نملة نسبةً إلى فيل. أو أقل من ذلك؟!!!

إن علماً ليس لديك من قاعدة بياناته سوى حجم رأس نملة إلى فيل، ليس بعلم. ولن تعدو الحقيقة إذا وصفت مثل هذا العلم بأنه أكذب العلوم. لكن الذي يصرف نظر القارئ عن اكتشاف هذه المفارقة، هو نظره إلى الكتاب بمجلداته العشرة فيراه كبيراً. ولو التفت إلى أن هذا الحجم الذي يستكبره، لو وزعه على الزمان – كما فعلنا – لظهرت قلته التي تقارب العدم. فكيف لو وزعه على المكان أيضاً.. ماذا سيبقى منه! إن مثل هذا القارئ كمثل رجل أعطاه ملك مليار دولار وقال له: وزع هذا المبلغ على شعوب شبه القارة الهندية. ففرح الرجل وشكر الملك. وأخذ ينظر إلى المال مستكثراً معجباً مسروراً. هذا الرجل في حاجة إلى واحد من اثنين: إما أن يلتفت إلى ما هو فيه من مفارقة، أو أن يراجع نفسه في عقله. إن مبلغ مليار دولار كبير في ذاته، لكنه – نسبةً إلى الجهات التي ينبغي أن يتوزع عليها – قريب من اللاشيء!

وبهذا تتهاوى كثير من المفاهيم الأسطورية المنتشرة في ثقافتنا السائدة، من مثل: “التاريخ لا ينسى”، “التاريخ لا يرحم”. وكثيراً ما نسمع من يقول: “سجّل يا تاريخ، سجل”!

هذا وأنا لم أعرض جسد التاريخ كله للتشريح! فكيف والتاريخ لمن يكتبه لا لمن يصنعه؟

 

نحن نصنع التاريخ .. نحن نكتبه

هذا لا يعني أننا لا يمكن أن نكتب تاريخاً نافعاً أقرب إلى الحقيقة الإجمالية إذا أعدنا كتابته بطريقة وضوابط جديدة. إن تاريخ العالم – كما يبدو – كله كتب، من حيث الحجم، كما كتب تاريخنا. لكن مؤرخي العالم المتقدم لهم ضوابطهم وطريقتهم في كتابة وقراءة التاريخ تجعله عامل بناء لا عامل هدم كما هو – في معظمه – عندنا.

يقول المؤرخ السوري د. أحمد داود: (نحن لم نكتب تاريخنا بعد). ويا لها من كلمة!

إن إعادة كتابة التاريخ بالضوابط العلمية السليمة، وفق الرؤية السنية التي تمثل روح الأمة النابضة وعينها الباصرة.. مهمة النبلاء في هذه الأمة العظيمة. وهي إحدى المهام الكبيرة لحملة (المشروع السني في العراق).. تحت شعار (إلى متى نحن نصنع التاريخ وهم يكتبونه؟ نحن نصنع التاريخ؛ نحن نكتبه).

ونحن لها بعون الله.

30 أيلول 2019

 

اظهر المزيد

‫5 تعليقات

  1. العقلية الملائية اعتادت على أبعاد عملية الإحصاء والتناسب في قبول الخبر والحدث ولهذا عاشت وعظية تهتم بالعبادة وتعمى عن الإنتاج وهذا سر رأس النملة في أخبارهم، أما انت فكأنك صعق كهربائي لميت سريري او طبيب نفسي لمريض بالزهايمر اصيب بلثغة عظيمة بلسانه وشلل في يده فلا يكاد يقدر ان يكتب حرفان مجنوعان فضلا عن جملة فكيف بتاريخ أمة امتدت قرون، يا سيدي حين يكذب السند ويتلعثم المتن ويخرف فما لنا الا شاهد الأرض بايات سيروا في الأرض ونقبوا فيها كي تخبرك من أهلها وما صنعوا فهذا ابن ماجه بعد ما سرقوا الفرس فضحت سرقتهم الأرض باثارها يقول علماء الاثار الاوربيين عن حجم سرقة آثار العراق وعدم جدوى هذه السرقات وان ارض العراق تحتاج إلى 500 سنة كي نستطع ان نمحو حضارتها لا زالت هناك تلال أثرية نعتمدها في رواية التاريخ ولكن نحتاج ان تكتب بأيدينا لا بأيدي غيرنا.

  2. نتائج هذه الطريقة الإحصائية هي ذاتها دافع لأن نتولى هذه المهمة وأن نتجشَّمها فنحن من يعي كلمات هذه السطور؛ وهكذا هو من كان في مشروع فمن انتمى له عمل.
    أليس كفر النعمة أن ينتمي الرجل إلى غير أبيه أو قومه؟!
    المسلمون واقعون في كفر نعمة أكبر، وهو الانتماء لغير تاريخهم.
    وما مثل مشروعنا يرضى بهذا…
    أمس كنت أقرأ في قصة بناء المسجد النبوي وما جاء من قول: دعوها فإنها مأمورة.
    قلت: ما معنى مأمورة؟
    دابة تقود أمة؟
    توجَّهت لكتب التخريج فإذا بالحديث باطل، سندًا الحديث باطل.
    وفيه تفاصيل لسبب بطلانه.
    عاشت الأمة تتلقى أن الناقة اختارت مكان المسجد!!!
    وملحظ مهم: ترى المستشرقين عملوا على الطعن من خلال التاريخ والحديث.

  3. حياك الله دكتور
    مشكور جدا على هذا الأسلوب العلمي الجلد في قراءةةالتاريخ قراءة موضوعية
    خاصة في ما يخص تاريخ الطبري الذي جمع كل شي دون محص وتدقيق
    موفق بإذن الله

  4. لكن مؤرخي العالم المتقدم لهم ضوابطهم و طريقتهم في كتابة و قراءة التاريخ تجعله عامل بناء لا عامل هدم كما هو – في معظمه – عندنا..
    هذا لأن العالم المتقدم يقدم تاريخه كما يقول “جاسم سلطان” من خلال التاريخ الكبير(اي انجازات اسلافه العسكرية و الاقتصادية و الانستنية و الاجتماعية و القيمية و دورها في خدمة الانسانية) بينما يعرض تاريخنا من خلال التاريخ الصغير (اي اخبار البلاط و القصور و ما يدور فيها من مؤامرات و مكائد و اثارة و و )

اترك رداً على أبو أنس إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى