العجم .. أمة بلا قلم /1 ما علاقة الفرس بالحضارة !
د. طه حامد الدليمي
قدَّمت حضارة (وادي الرافدين) للبشرية نظماً متطورة لإدارة عجلة الحياة وتنميتها وتطويرها، وكانت سباقة في ذلك بلا منازع، فكان أن قدمت أول نظام سياسي نيابي، وأول نظام تعليمي، وأول نظام قانوني، وأول نظام زراعي، ومنه تنظيم الري والسدود.
وعن النظام السياسي العربي القديم يقول د. أحمد داود: إن الديمقراطية كما يفهمونها اليوم ينبغي أن لا يبحثوا عنها في تاريخ اليونان بل في المشرق العربي من عهد سومر (حيث مجلسان للشيوخ والشباب) إلى عهد زنوبيا (مجلس الشورى في تدمر). أما في شبه جزيرة المورة (اليونان) فقد كانت الشورى في “دار الندوة” (بولي)([1]).
وقدمت للبشرية العجلة والمحراث، وأوجدت النظام العشري، وقسم أجدادنا محيط الدائرة إلى (360) درجة، والسنة إلى (365) يوماً، ووضعوا أسس الرياضيات ومبادئ الهندسة. وراقبوا الأفلاك، وأسسوا نظم الحكم والإدارة، وصاغوا الشرائع المكتوبة.
كما قدمت هذه الحضارة الفن المعماري الأصيل؛ إذ تعتبر من أثرى المدارس المعمارية في الدنيا. وبوابة عشتار شاهد على قمة الرقي العراقي في الفن المعماري. هذا عدا الطب والفلك وغيرهما من العلوم التطبيقية والنظرية.
وكانت اللغة الأكدية أرقى اللغات. ذات قواعد تشبه قواعد اللغة العربية، أنتجت الشعر ومختلف فنون الأدب ومنه الملاحم مثل ملحمة جلجامش وبعدة نسخ. وأنتجت كذلك الفنون الجميلة كالنحت والموسيقى. وذلك ثابت بالرُّقُم والنقوش والكتابات الآثارية.
ومن عجيب ما قدمته الحضارة الرافدينية للبشرية (بطارية بغداد)، التي اكتشفت عام 1936، وقدر تاريخها ما بين سنة 250ق.م -250 ب.م. وقد عثر على (12) نموذجاً منها.
تلك لمحة عما قدمه العرب – ومنهم أبناء بلاد الرافدين – للبشرية منذ أقدم العصور، فماذا قدم الفرس للبشرية؟ بل ماذا قدموا لأنفسهم، ناهيك عن غيرهم؟
ما علاقة الفرس بالحضارة ؟
تكشف الدراسات عن عدة خصائص لعلاقة الفرس بالحضارة، أهمها:
- ليس لدى الفرس حضارة أصيلة، قاموا بإنتاجها ذاتياً. إنهم يستوردون معالم الحضارة؛ ليستهلكوها لا ليصنعوها.
- الفرس سراق، لا صناع، للحضارة. وهذا عرفه كثير من المؤرخين والباحثين من الشرق والغرب. يقول المؤرخ الأمريكي ويل ديورانت (ت 1981): (لم يكن للصناعة شأن في فارس؛ فقد رضيت أن تترك لأمم الشرق الأدنى ممارسة الحِرف والصناعات اليدوية، واكتفت بأن تحمل هذه الأمم إليها منتجاتها، مع ما يأتيها من الخراج)([2]). وتكلم عن اهتمامهم بالطرق والبريد. ولا أرى هذا سوى فرع أو مظهر من مظاهر اهتمامهم بالعسكرية والغزو والتوسع؛ فإن تعبيد الطرق وتطوير البريد من ضرورات الجهد العسكري اللازم للسيطرة على الشعوب.
ولقد تنبه ويل ديورانت إلى هذا الملحظ حين قال: (وقد أنشأت هذه الطرق في الأصل لأغراض حربية وحكومية، وذلك لتيسير سيطرة الحكومة المركزية وأعمالها الإدارية؛ ولكنها أفادت أيضاً في تنشيط التجارة وانتقال العادات والأفكار، كما أفادت في تبادل خرافات الجنس البشري وهي من مستلزماته التي لا غنى له عنها)([3]).
وقال أيضاً: (لم تبلغ الملاحة في فارس ما بلغه النقل البري من رقي عظيم. فلم يكن للفرس أسطول خاص بهم، بل كانوا يكتفون باستئجار سفن الفينيقيين أو الاستيلاء عليها لاستخدامها في الأغراض الحربية… وكانت الأعمال التجارية تترك في الغالب لغير أبناء البلاد، للبابليين والفينيقيين واليهود؛ ذلك أن الفرس كانوا يحتقرون التجارة ويرون أن الأسواق بؤرة للكذب والخداع)([4]).
ويقول جيمس هنري بريستد: (ليس بالأمر السهل على شعب بري سكانه رعاة وفلاحون تفصلهم عن البحر سواحل رملية أن يسيطروا على البحر.. لذلك اضطُر داريوس أن يستخدم بحارة أجانب فكانت جميع سفنه فينيقية)([5]).
- الفرس يزيفون آثار الحضارة التي لغيرهم إخفاء لها، والتي لهم تضخيماً لها.
- الفرس يخربون ويدمرون ما لم يستطيعوا استهلاكه بالاستيراد والسرقة والتزييف من منجزات ومعالم وآثار حضارات الأمم الأخرى.
- اهتم الفرس بثلاثة أمور، الغاية منها إدامة السيطرة على الشعوب والجماهير وترسيخها: العسكرية والإعلام ونفسية الجماهير؛ فعالجوهم بالأمية والخرافة والإيحاء وتأليه الملوك، وضخموا لديهم هاجس الخوف والتوجس من الآخرين، ونموا لديهم غريزة الحقد، وغيرها من القوى السلبية والإيجابية التي ترسخت فتحولت إلى عقد جمعية تحولت بها الشعوب إلى عبيد يجترون العبودية كمنتج ذاتي يتغذون به ذاتياً، ويغذون آلية الاستعباد التي بها سيطر الفرس عليهم.
- ولقد وجدت ويل ديورانت يشاطرني الرأي حول علاقة الفرس بالعسكرية، ولا أعلم هل تطرق إلى الأمر الآخر (نفسية الجماهير) أم لا. وعبر عن الأمر الأول بقوله: (كانت حياة فارس حياة سياسية وحربية أكثر منها اقتصادية؛ عماد ثروتها القوة لا الصناعة؛ ومن أجل ذلك كانت مزعزعة الكيان أشبه ما تكون بجزيرة حاكمة وسط بحر واسع خاضع لسلطانها خضوعاً غير قائم على أساس طبيعي. وكان النظام الإمبراطوري الذي يمسك هذا الكيان المصطنع من أقدر الأنظمة ولا يكاد يوجد له شبيه؛ فقد كان على رأسه الملك أوخشترا أي المحارب، وهو لقب يدل على منشأ الملكية الفارسية وصبغتها العسكرية) ([6]).
أما النظام الإداري فقسموا البلاد إلى (مرزبانات)، جعل على كل منها عامل يدعى (مرزبان)، كان يعينه الملك. وهو اللقب الذي كان يعرف به ملك الفرس. وكانت هذه التنظيمات موجودة لدى البابليين والكلدانيين والآشوريين والمصريين. والحقيقة أن كلمة (مرزبان) كلمة عربية قديمة، وهي في القاموس السرياني تعني الوالي، حافظ الحدود. ويؤكد بريستد أن هذا التقسيم كان موجوداً عند البابليين والمصريين، وأن الملك الفارسي نفسه كان مرزباناً عند ملوك بابل قبل أن يقوم بـ(انقلابه) ويستلم الحكم في بابل، ولم يكن احتلالاً من دولة لدولة، بل انقلاباً قبلياً بدوياً على الدولة البابلية([7]).
ويقول د. أحمد داود: (وإذا ما تتبعنا سيرة شيوخ وزعماء القبائل الفارسية من خلال سيرتهم الشعبية الشهيرة (الشاهنامة) فإننا نجد أن ملوك (زعماء تلك القبائل) كانوا يتأدبون ويعهدون إلى العرب بتأديب أبنائهم. ويحرصون على التزاوج من الأسر العربية الكريمة)([8]).
أما كيف تمكنت هذه القبائل الفارسية البدوية من غزو بابل وإسقاطها، فيصفه لنا هيرودوت – كما يقول د. أحمد داود – على النحو التالي:
(لو فكر البابليون فيما قصد إليه كورش، أو لاحظوا الخطر المحدق بهم، ما سمحوا للفرس بدخول مدينتهم، بل كان بوسعهم أن يبيدوهم عن بكرة أبيهم؛ إذ كان في إمكانهم أن يقفلوا جميع الأبواب المطلة في الطرقات على النهر، ويصعدوا إلى أعلى السور بجانب النهر. وبذا كان يمكنهم أن يقبضوا على العدو كما لو كان داخل مصيدة. ولكن الذي حدث هو أن الفرس أخذوهم على غرة، وبهذا استولوا على المدينة. ونظراً لاتساع المدينة العظيم ، فإن سكان المدينة الوسطى (كما ذكر سكان بابل) ظلوا مدة طويلة بعد استيلاء العدو على الأجزاء الخارجية من المدينة لا يعلمون شيئاً عما حدث؛ لانهم كانوا مشغولين بالاحتفال بأحد أعيادهم، فاستمروا يرقصون ويحتسون الخمر، حتى علموا بسقوط مدينتهم بعد فوات الأوان) ([9]).
14 تشرين الثاني 2019
……………………………………………………………………………..
- – تاريخ سوريا الحضاري القديم (1- المركز)، ص700، ↑
- – قصة الحضارة، 2/413، ويليام جيمس ديورانت. ↑
- – المصدر السابق، 2/413. ↑
- – المصدر نفسه، 2/414. ↑
- – العصور القديمة، ص208،206، جيمس بريستد. نقلاً عن تاريخ سوريا الحضاري القديم 1- (المركز)، ص671، د. أحمد داود. ↑
- – المصدر نفسه، 2/415. ↑
- – تاريخ سوريا الحضاري القديم (1- المركز)، ص670-671، مصدر سابق. وأحال في الهامش إلى كتاب جيمس بريستد (العصور القديمة)، ↑
- – محاضرات على شبكة المعلومات/ اليوتيوب بعنوان (تاريخ الحضارة – التاريخ الحقيقي للعرب)، الحلقة العاشرة، د. أحمد داود. ↑
- – تاريخ سوريا الحضاري القديم (1- المركز)، ص674. ↑
هذه هي المشكلة الطيبة العربية التي تتميز بذاكرة مثقوبة والخبث الفارسي الذي يتلون تلون الحرباء
آن آوان العهد الذي نعيد فيه كتابة التاريخ من جديد.. عهدا تصطف فيه الحقائق في صفحات التاريخ لتمحو الزور والباطل الذي طالما رتع في عقولنا وقلوبنا قبل الصحائف و الكتب..
هذه المقالة وأشباهها هي نقلة نوعية في قراءة التاريخ والوقوف على حقائق مهمة وصادمة ودامغة.
أنّ تاريخ الفرس يعرف من حاضرهم فإن كانوا قد أضافوا شيئاً في حاضرهم لكنا وجدنا شيئاً في تاريخهم.
وكما وجدنا الكذب في حاضرهم فلا شك أن تاريخهم هو سلسلة من حلقات للكذب (اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس) وقد كان.