كيف أصلح معاوية الوضع الأمني وطوره بعد تدهوره على عهد عثمان وعلي/ج1
جهاز الاستخبارات الداخلي
د. طه حامد الدليمي
من الأمور التي تهاون بها العهد السابق فكانت سبباً في مقتل ثلاثة خلفاء على التوالي، اتخاذ التحوطات الأمنية لحماية قائد الدولة خصوصاً الخليفة، وعاصمة الخلافة. وقد تطور القتل من الاغتيال إلى الانقلاب فالسيطرة على زمام الدولة. كان معاوية يؤلمه هذا الوضع، لكنه لم يكن يستطيع أن يفعل شيئاً في غير خاصة إمارته كان عامل الإيمان طاغياً على عامل الأمن. حتى إذا آلت إليه الخلافة عمل على اتخاذ التدابير اللازمة لتوطيد الأمن.
جهاز الاستخبارات الداخلي على عهد معاوية([1])
يدل استقراء حوادث التاريخ أن معاوية أنشأ جهازاً استخبارياً قوياً يتتبع حركات أعداء الخارج من الدول التي تتربص الشر بدولة الإسلام، وأعداء الداخل من الأحزاب والأفراد والقبائل والخصوم. ورؤساء الفرق الغالية والمناوئة. ويضع الحلول المناسبة لها. وقد خصص لهؤلاء دائرة للإحصاء والمتابعة في بعض الأقاليم القلقة. ويروي التاريخ أن معاوية كان على اطلاع على المراسلات المتبادلة بين الحسين وأهل العراق، وكشفَها للحسين نفسه طالباً منه أن يتقي الله ولا يشق عصا الأمة.
قال البلاذري: “كان رجال من أهل العراق وأشراف أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين يجلونه ويعظمونه ويذكرون فضله ويدعونه إلى أنفسهم ويقولون: إنا لك عضد ويد. ليتخذوا الوسيلة إليه، وهم لا يشكون في أن معاوية إذا مات لم يعدل الناس بحسين أحداً.
فلما كثر اختلافهم إليه، أتى عمرو بن عثمان بن عفان، مروان بن الحكم – وهو إذ ذاك عامل معاوية على المدينة – فقال له: قد كثر اختلاف الناس إلى حسين، والله إني لأرى أن لكم منه يوماً عصيباً. فكتب مروان ذلك إلى معاوية، فكتب إليه معاوية: أن اترك حسيناً ما تركك ولم يظهر لك عداوته، وما لم يبد لك صفحته. واكمن عنه كمون الشرى إن شاء الله والسلام.
وكتب معاوية إلى الحسين: أما بعد فقد أنهيت إلي عنك أمور إن كانت حقاً فإني لم أكن أظنها بك رغبة عنها، وإن كانت باطلاً فأنت أسعد الناس بمجانبتها، وبحظ نفسك تبدأ، وبعهد الله توفي فلا تحملني على قطيعتك والإساءة إليك، فإني متى أنكرك تنكرني ومتى تكدني أكدك فاتق الله يا حسين في شق عصا الأمة، وأن تردهم في فتنة! فكتب إليه الحسين كتاباً غليظاً يعدد عليه فيه ما فعل في أمر زياد، وفي قتل حجر، ويقول له: إنك قد فتنت بكيد الصالحين مذ خلقت؟! فكدني ما بدا لك! وكان آخر الكتاب: والسلام على من اتبع الهدى”([2]).
قاعدة أو نظرية ( الأمن كلٌّ لا يتجزأ )
بلور الأمويون نظرية أمنية تقوم على أساس متين هو أن (الأمن لا يتجزأ). إن الدولة لها جسد مادي كجسد الإنسان أعضاؤه مترابطة ببعضها بحيث إن أي خلل يحدث لأي عضو تتداعى له بقية الأعضاء. كذلك الدولة، لا بد أن يشمل الإصلاح أعضاءها جميعاً. وقد سار معاوية فمن بعده من الخلفاء على أساس هذه النظرية المحكمة. ومن مخرجات هذه النظرية العلاقة العضوية بين الأمن وبقية مفاصل وأجهزة الدولة. ومن ذلك:
العدل وجهاز القضاء
يرتبط الأمن ارتباطاً وثيقاً بإرساء العدل واستقلالية القضاء. فحرصوا على حصانة المؤسسة القضائية وعدم التدخل بأحكامها. وعين معاوية رجلاً على حوائج الناس يرفع مظالمهم ومطالبهم إليه مباشرة؛ حرصاً على عدم حجب أي مظلمة عنه[3].
الأمن وحرية العبير
ومنها ضمان حرية التعبير: وهذا يزيل الاحتقان الشعبي، ويمنح الدولة فرصة مناسبة لتشخيص الظواهر الفكرية الشاذة ووضع العلاجات المناسبة لها. وقد وضع معاوية قاعدة ذهبية لإرساء حرية التعبير بقوله: (لا نحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين مُلكنا)[4].
تطوير الاقتصاد والجهاد والعلاقات العامة
وكان من نتائج هذه السياسة الاهتمام بالاقتصاد وحالة الناس المعيشية، فغير سياقاته تغييراً جذرياً. وعُني (بتوفير الأمن الغذائي والاجتماعي من خلال إحصاء المواليد الجدد وفرض العطاء لهم. ورعاية أصحاب العاهات، وقضاء الدين عن الغارمين، وتزويج الأيامى والعازبين. وتوفير الخدمات للمواطنين)[5]. وأعاد حركة الجهاد بعد أن توقفت سنين طويلة، وطور آلياته وأدواته واستحدث له من الصناعات الحربية ما يستجيب لمتطلبات المرحلة الجديدة. ولي مع السياسة المالية والعسكرية وقفة أعمق، قد أتناولها لاحقاً. والتفت إلى العلاقات العامة فأقام دعائمها من خلال تدعيم الروابط بالقبائل والأمصار قادة وشعوباً، وصاهر إلى بعض القبائل القوية مثل قبيلة كلب الأردنية، فكانوا أخوال يزيد. ولهذه القبيلة دورها الفاعل والحاسم في الأحداث اللاحقة.
جهاز الإعلام
مما ينعاه الجهلة على أمير المؤمنين معاوية أنه قرّب الشعراء والخطباء والأدباء، وكان يعطيهم الأموال. ويصورونه رجلاً ينفق من مال الدولة رغبةً في الثناء عليه. وكذبوا فوق أنهم جهلوا. لقد كان الشعراء وأمثالهم في ذلك الزمان يمثلون عصب الإعلام. ودولة بلا إعلام دولة ضعيفة. ولو كان لدى الخليفة عثمان جهاز إعلامي ما تمكن الأعداء من تجييش الناس ودفعهم ضده عن طريق الشائعات المغرضة التي لم تجد لدى الدولة من يتصدى لها ويفشلها. وإذا كانت الدولة أيام الخليفتين أبي بكر وعمر في غير ما حاجة إلى مثل هذا الجهز لقربهم من عهد النبوة، فإن الحال اختلف بعد ذلك. وهذا ما دعا معاوية إلى الاهتمام بشأن لسان الدولة الناطق وإكرامهم وتنشيط الحركة الأدبية ومجالس الشعر والأدب. وكان إنشاء جهاز للإعلام إحدى إنجازاته العظيمة عادت على الدولة واستقرارها، والمجتمع وتماسكه بأعظم العوائد. والإنفاق عليه ضرورة لا قيمة للمال إزاءها؛ وما نفع المال إذا كان حبسه يسهم في خلخلة أمن الدولة وإشاعة الاضطراب في مفاصلها؟
ألم تر كيف تهتم الدول والمؤسسات اليوم بالإعلام! وكم تنفق عليه من المال والجهد والوقت! هذا ما كان يفعله معاوية. لكن الجاهلين يجهلون.
اتخاذ الحاجب
الحاجب: بمثابة حارس البوابة المؤدية إلى الخليفة؛ وذلك لحمايته أولاً ولترتيب لقاءاته بالناس ثانياً صيانة لوقته. وقد اتخذ معاوية الحاجب – كما روى الطبري([6]) – بعد تعرضه لمحاولة الاغتيال التي كادت تودي بحياته، والتي أسفرت عن مقتل أمير المؤمنين علي وصاحب شرطة عمرو بن العاص في مصر. وذلك كله في ليلة واحدة! يقول ابن خلدون: (كان أول شيء بُدئ به في الدولة شأن الباب وستره دون الجمهور، لما كان يخشون على أنفسهم من اغتيال الخوارج وغيرهم، كما وقع بعمر وعلي ومعاوية وعمر بن العاص وغيرهم. مع ما في فتحه من ازدحام الناس عليهم وشغلهم بهم عن المهمات، فاتخذوا من يقوم لهم بذلك وسموه الحاجب”[7]. ورويت أخبار كثيرة تؤكد أن الحاجب يشترط فيه أن يعرف منازل الناس وأنسابهم وطبقاتهم، لكي يتمكن أن يعرف من يأذن لهم، ومن لا يأذن لهم.
اتخاذ الحرس الخاص
قال الطبري بعد ذكره محاولة الاغتيال: “وأمر معاوية عند ذلك بالمقصورات وحرس الليل وقيام الشرطه على رأسه إذا سجد”. وهذا أسهم مساهمة فاعلة في وقف مسلسل اغتيال الخلفاء.
ديوان البريد
وكان الجهاز الاستخباري الداخلي يتابع الولاة وكبار موظفي الدولة. وأسند معاوية مهمة جمع الأخبار عن هؤلاء إلى صاحب (البريد). وكان بمثابة المدير العام لجهاز استخبارات الدولة. له نواب في جميع الأمصار يزودونه بكل صغيرة وكبيرة فيها. وهو بدوره يقدم ملخصاً عنها للخليفة دون تأخير. لهذا اهتمت الدولة بتنظيم البريد، وأنشأت له ديواناً خاصاً به؛ لضمان وصول الأخبار بأسرع ما يكون.
ديوان الخاتم
وحفاظاً على سرية المعلومات والرسائل أنشأ معاوية (ديوان الخاتم)، فرصد له المال والرجال لخدمته وضمان مصداقيته وصيانته من التزوير، وكان لا يخرج كتاب من دواوين الدولة إلا مختوماً مع التشدد في التثبت من صحة الختم. (وصار هذا الديوان الجديد من أهم معالم القواعد المالية الجديدة زمن الأمويين، فكانت له نظم دقيقة، وعمال يقظون، فإذا صدر توقيع من الخليفة بأمر من الأمور أُحضر التوقيع إلى ذلك الديوان، وأُثبتت نسخته فيه، وحُزم بخيط، وختم بشمع، وختم بخاتم صاحب الديوان)([8]).
وإذا كانت الأمور تدرك بنتائجها أيضاً، فإن هذه التدابير الاستخبارية الحكيمة نجحت في قطع خط سلسلة الاغتيالات التي كانت تستهدف رأس الدولة، وقطفت الثلاثة الذي سبقوا معاوية منهم. وتمكن معاوية من الاستمرار عشرين سنة دون أن تهدد حياته مؤامرة تذكر.
ونرجئ الحديث عن جهاز الاستخبارات الخارجي إلى المقال التالي بإذن الله.
2020/1/25
……………………………………………………………………………..
- – اقتباس من بحث منشور في مجلة كلية الآداب، العدد 101، جامعة ديالى – كلية التربية الأساسية، بقلم المدرس المساعد أكرم محمد علي خلف التميمي. على الرابط التالي:
http://www.iasj.net/iasj?func=fulltext&aId=75769 ↑
- – أنساب الأشراف، 3/153، أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البَلَاذُري، تحقيق سهيل زكار ورياض الزركلي، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، 1417هـ – 1996م. ↑
- – اقتباس من البحث السابق. ↑
- – المصدر السابق. ↑
- – عبارة مقتبسة من بحث منشور في مجلة كلية الآداب، العدد 101، جامعة ديالى – كلية التربية الأساسية، بقلم المدرس المساعد أكرم محمد علي خلف التميمي. على الرابط التالي:
http://www.iasj.net/iasj?func=fulltext&aId=75769 ↑
- – تاريخ الطبري، 5/49. ↑
- – تاريخ ابن خلدون (ديوان المبتدأ والخبر)، 1/296، ابن خلدون. ↑
- – السياسة الشرعية، ص130، مناهج جامعة المدينة العالمية، جامعة المدينة العالمية. ↑