ديوان القادسيةقصص وخواطرمقالات

الرّحيل

من رواية (هكذا تكلم جنوبشت)

د. طه حامد الدليمي

C:\Users\USER\Desktop\كلمات_في_الرحيل.jpg “أنا الجِنوب.. هل تعرف من أنا؟”.

صوت جلجل في أذني لحظة ثم توقف. أحِسُّ كأنه قادم من أعماق الأرض، ومن أغوار الزمان.. بينما كنت راقداً على ظهري فوق سطح الدار أرقب النجوم، وأدور ببصري مع الكواكب.. أفكر في سر (المأساة) وسبيل الخلاص.

وعاد ثانية.. لكنه ظل يجلجل دون توقف هَوِيّاً من الليل حتى انتهى إلى ما أراد.

“أنا الجِنوب.. هل تعرف من أنا؟”.

لا..! لا..؛ ها هو الليل قد توغل بعيداً. أتركك إذن ترتاح.. وإلى حين.

وداعاً”.

وتلاشت جلجلة الصوت. وغارت النجوم. واْظْلَمَّت السماء.

وظللت حيرانَ ساهراً أنتظر الصباح لعله يأتي بجواب.

وجاء الليل فعدت إلى مرقدي فوق سطح الدار أرقب النجوم، وأدور ببصري مع الكواكب.. أفكر في سر (المأساة) وسبيل الخلاص.. فإذا الجلجلة في أذني ثانية: “أنا الجِنوب.. هل تعرف من أنا؟”! وتكرر المشهد في الليالي القادمة دون خُلْف، حتى كان يومٌ.. يومٌ اتخذت في صباحه قراراً غريباً ذهل لغرابته الجميع!

**

لبيك..

أنا قادم إليك..

أتدري لماذا؟

لشيء واحد.. واحد فقط.

أريد أن أتعرفَك وأتعرفَ إليك.. أن أفهمك بنفسي دون وساطة.. لعلني أكف لعنة الأجيال عنك.. أو – ربما – أثبتُّها عليك.

لا أريد أن أبقى أسمع عنك من بعيد.. أريد أن أراك، ألمسك، أسمع الرواية من فمك. أقرأ حروفها تنادي عليّ من بين تضاريسك. لعلك لا تدري أنني طبيب! والطب كالزواج لا يكون بالمراسلة؛ هناك مريض.. أسمعُ قصته، أدقق في لونه، أحدق في عينيه، أتحسس جلده، أجس نبضه. وسريرُ فحص أمدده عليه كي أتعرف تضاريسه أكثر. وفحوصاتٌ ومتابعة.

وعلتك أكبر.. أعقد.. أكثر تشابكاً.. لذا…

غادرت جميع المستشفيات.. أقفلت عيادتي، وتفرغت لك..

لك وحدك.

من أجلك فعلت ذلك، أصممت أذني عن لوم اللائمين، وأشحت بصري عن نظرات الزوجة وهي تترجاني بصمتٍ النكوصَ عن هذا القرار الغريب. وأعرضتُ عن نصائح الأهل وانتقادات الأقارب وتساؤلات الأصدقاء.

وها أنا قادم إليك..

فهل أنت على استعداد لأن تستقبلَني؟ تتقبلَني؟

لنرَ..

**

الأربعاءَ 8 شباط 1995 / 9 رمضان 1415 كان يومَ الرحيل إلى (هناك).

وكان اليومَ الذي مثَّل الانعطافةَ الكبرى في تاريخ حياتي، وفي مسار حياة (جنوبشت) من بعد. لم أتوغل كثيراً إلى الداخل. مئةُ كيل عن العاصمة تكفي.. ومن (هناك) يكون الانطلاق.

في صباح ذلك اليوم جاءتنا أم رعد.. أختي، تصحبها ابنتها الصغيرة تودعنا. وبعد أن حمّلْنا العفش في سيارة الحمل أرجعتها في سيارتي إلى بيتها، وعيناها تذرفان.

مسكينة.. لا تدري ماذا يخبئ لها القدر. ولا تدري أن هذا الذي يحزنها ويبكيها سيغدو يوماً من الأيام أمنية من أعز الأماني. لكنها لن تتحقق أبد الآبدين! يوم أنْ سيكون كل واحد منا في بلد، كل واحد تحت نجمة! تفصل بيننا مفاوز وحدود وتأشيرة قد تكون هي الأخرى إحدى الأمنيات العزيزة.

وودعَـنا جارُنا الطيب (تركي)، ومعه عائلته لم يتخلف منهم أحد، حتى الأطفال! تجمعوا مثل كتاكيت صغيرة حول بعضهم وهم ينظرون إلى ما يدور دون أن ينبس أحد منهم بكلمة..

أعينهم قالت كل شيء.

وجاء بقية الجيران. كان الأسف والأسى سيد الأجواء. وكان بعضهم يغالب الدموع.. وبعضهم لم يحتمل حتى أجهش بالبكاء!

هكذا نحن دائماً.

وهكذا أنا.. في كل يومٍ رحيل. وفي كل يومٍ جار جديد. أودع جاراً وأحط إلى جنب آخر. ما إن تشتبك القلوب وتختلط العلائق وتتشربك الأرواح حتى ينعق الغراب مؤْذِناً بغربة جديدة. وتذكرت حكمة حزينة كثيراً ما ترصدتني على مؤخرة السيارات: “لا تعاشرِ الغرباءَ فإنهم دوماً على رحيل”!

عبثاً حاولت تبديد الأجواء الكئيبة التي ظللتنا بألوانها الداكنة. كان من بين الحاضرين صديقي الدكتور عبد جاء للوداع بصحبة زوجته وطفلة له صغيرة. عبد.. صاحب الشخصية المرحة واللسان الطويل، وصاحب القلب والدمعة أيضاً. لسانه والضحكة كما قلبه والدمعة.. قرينان قريبان من بعضهما جداً. كما أن هاتين المجموعتين الثنائيتين متجاورتان لا يفصل بينهما سوى حاجز رقيق. إذا رأيته ولسانه وضحكته المدوية لا تصدق أنه هو هو صاحب ذلك القلب والعين والدمعة.

استعمل لسانه كثيراً هذا الصباح.

وجارَيْته في ذلك كي أبدد تلك الأجواء الكئيبة. لكنه عند المساء كان له شأن آخر. وبينما نحن نُحمّل الأغراض تفرست في وجه ابنته الصغيرة (طيبة) وكانت تدخل وتخرج مع الأطفال. نظرتُ إلى عينيها الخضراوين ثم ابتسمت قبل أن أضحك وأقول:

– من أين لك هذا؟ (ثم أردفت) علينا؟! أعمامك كلهم أعرفهم واحداً واحداً، ليس من بينهم مَن عيونه بهذا اللون؛ فمن أين لك هذا؟

وضحك وقال:

– هذا مال آني.

وأشار بالسبابة اليمنى إلى صدره.

– مال آني هاي شنو!

– اسمع إذن هذه القصة التي شهدتها أثناء خدمتي العسكرية في البصرة. في مدينة (الدَّير) كان معمل للورق يشرف عليه خبراء روس، أحدهم مهندس يدعى (بروستاكوف)، لا أدري كيف أقام علاقة من نوع خاص بشابة من المنطقة، زوجها نائب ضابط يدعى (حميزة)، يخدم في جبهة القتال. حملت المرأة وولدت ثلاثة أطفال كلهم بيض الوجوه شقر الشعور زرق العيون. كانت بين أطفالها، حين تظهر تخطر ذاهبة آيبة، كبطة بين كتاكيتها. وكان المهندس الروسي كلما رآها استقبلها واحتضن أطفالها وقبلهم واشترى لهم ما يشترى للأطفال من الدكاكين القريبة، وربما نفحهم بعض المال. إلا أن زوجها وعيالها ذوي البشرة السمراء، والشعر الأسود، والعيون ذات النسخ المألوفة.. كانوا فرحين بالأطفال فخورين بألوانهم على جيرانهم وأقاربهم؛ فلأول مرة تنتج العشيرة مثل هذا النسل الغريب!

ومرت الأمور بسلام حتى إذا انتهى عقد الشركة الروسية، وتجهز المهندس بروستاكوف للعودة إلى بلاده إذا هو يطالب باصطحاب الأطفال الثلاثة معه.

– بأي حق يا بروستاكوف؟

فيجيب بصراحة يحسد عليها:

– هازا مال آني!

ويعجب الناس من حوله ويسألونه وهم يتغامزون:

– مال آني شنو!

ويؤكد قوله مشيراً إلى عينيه وعيونهم ويقول بالصراحة المريحة نفسها:

– هازا مال آني.. شوفوا عيونا!

بعد أيام يأتي حميزة في إجازة دورية. ويرى الناس من حوله يتهامسون. أخيراً تسلل خبر بروستاكوف إلى أذني حميزة. فما كان منه إلا أن سلّ مسدسه وقتل زوجته والأطفال جميعاً، وركض باتجاه المعمل يبحث عن (المصخّم) بروستاكوف يبغي قتله أيضاً! ويبادر إليه الحرس فيمسكونه ولكن بعد أن جرح حميزة اثنين منهم. وسلِم بروستاكوف بريشه ليطير به في اليوم التالي إلى روسيا”.

هل عرفت الآن عمق كلمة “هذا مال آني”؟

كانت نكتة قوية جداً بقينا نرددها سنين. وأضاف:

– اطمئن فأنت لم تر جدتها لأمها ذات العينين الخضراوين.

واهتبلت الفرصة ودعوت الجمع الحزين فقصصت عليهم الحكاية فضحكوا من الأعماق.

وحمدت الله؛ لقد نجحت!

**

سلكنا الطريق السريع، حتى إذا اقتربنا من مشارف المدينة مالت بنا المركبة يميناً بين مزارع القمح والشعير تمرح على مد البصر، تتمايل ذوائبها القصيرة مع الريح. والبساتين يعري الشتاء أشجارها تاركاً أغصانها تتنفس عطر النخيل. وأدركَنا الفطور هناك. نسيت أن أقول لكم: كنا في رمضان وكان ذلك اليوم يصادف يوم التاسع منه. توقفنا عند ساقية تصاقب الشارع، مددنا البُسط وجلسنا على متنها في العراء الذي أبى جماله البديع إلا أن يوصل إلينا هداياه الرائعة رغم الأجواء الباردة.. كانت (أم عمر) قد هيأت لنا، في بيتنا الذي خلفناه وراءنا، طعاماً خفيفاً، اشتركنا جميعاً في إنزاله وإعداد الأواني. مددنا الخوان وأفطرنا على عَجَل، ثم صلينا واستأنفنا المسير.

دار وصلنا الحي مع أذان العِشاء، وكان أول شيء سمعته حين توسطناه قول المؤذن: “حي على الفلاح”. مازلت أذكر تلك اللحظة رغم مرور أكثر من عشرين سنة.. حتى موضع اللوري من الشارع، وأين كنت جالساً أنا من صدر السيارة. تفاءلت خيراً عسى أن تكون بشارةَ فلاح في هذا المكان. وكانت البشارة الثانية على يد أحد المصلين من سكنة الحي اسمه خيري، قال: رأيت في المنام كأن النبي عليه السلام زوّجك ابنته فاطمة.

وما هي إلا دقائق حتى وصلنا، تركتهم يُدخلون العفش إلى البيت الذي يلاصق المسجد من ناحيته الشمال، وتوجهت مباشرة إليه. دخلت الباحة الواسعة، ونظرت فإذا صديقي د. عبد، الذي أصر على مرافقتي، ينتبذ زاوية بعيدة قرب المغاسل تسح عيونه بصمت! وكان جلالٌ من سكون يحيط بوجهه الحزين! أثارني الموقف.. لكنني تبسمت وقلت ممازحاً لعلني أخفف من وقع الموقف، وكانت في يده سيجارة:

– يظهر أن الدخان أثّر على عينيك!

ابتسم وعيناه تبرقان بالدموع.

كان للدكتور عبد بدوات كثيراً ما يفاجئني بها. عاودتْه إحداها في تلك الساعة. فما إن سلمتُ من الصلاة حتى قام من موضعه في الصف ليجلس إلى جانبي ويستقبل المصلين بوجهه. ثم ألقى فيهم كلمة كانت حروفها ممزوجة بدموع حاول عبثاً أن يكبتها فلم يجد غير يده يواري بها ما فاض منها رغماً عنه. وطفق يُطْريني بكلمات أخجلتني فلم أجد أنا أيضاً غير يدي أتقي بها ما كان يصفعني به من كلمات. ثم ودعَنا، هو والأصدقاء الذين حرصوا على مرافقتي، راجعين إلى الديار.

كانت آخر صورة تخلفت عنهم في ذاكرتي حتى الساعة بريق عينيه وهو يلوّح لي بمنديل أبيض كان بيده مبتسماً وقد تحرك بهم اللوري تواً ليبدأ رحلة العودة، وكان قلبي يعلو ويهبط مع هفهفات المنديل.. “آه أنت أنت.. لا تترك بدواتك يا عبد!”.

وتذكرت، وأنا أنظر من موضعي لدى الباب الخارجي للدار الجديدة إلى السيارة التي صارت تبتعد مع كل لحظة، تلك العبارة الحزينة “لا تعاشرِ الغرباءَ فإنهم دوماً على رحيل”!

وابتسمت من خلال (البريق) الذي غزا عيوني أنا هذه المرة، وقلت: يبدو أنه ليس الغرباء فقط.. الأقرباء أيضاً دوماً على رحيل!

وكنت أنظر وراءهم وهم يبتعدون سريعاً. ثم…

ثم اختفوا في الظلام.

***

 

اظهر المزيد

‫3 تعليقات

  1. تحية طيبة لكم وبعد
    جزاك الله عنا خير الجزاء شيخنا الغالي
    هذه هي خطوة الانبياء والمرسلين حين لا يجدون تفاعل الناس
    يجب عليهم الهجرة والبحث عن البديل لكي تستمر الرسالة وهي الأمانة !
    هذا الخطوة التي خطوتها لو لم تخطوها (الله اعلم ) لكنا نحن شيعة الآن
    نحمد الله اتيتنا ونحن نلفظ أنفاسنا الأخيرة زيارات المراقد ولا نعرف الدين لا من أوله ولا آخره
    نحمد الله حمدا كثيرا ونحن الآن نعمل ونؤسس لجيل سني رباني
    بهوية وخطة وهدف
    نحن لها بأذن الله
    ومن قال أنا لها نالها
    تحياتي لكم دكتور

  2. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    عندما تستشعر الموقف وتعايشه تجد صعوبة فراق الأهل و الاحبة والأصدقاء والبعد عنهم مراره لا يخفف طعمها إلا الإيمان بالله والصبر على مرضات الله ونصرة دينه ..نعم ومن هنا بدء طريق الفلاح والإصلاح لبناء الأهل السنة وتحصينهم وتمكينهم وتكوينهم
    رغم صعوبة الطريق
    اعانكم الله اعانكم الله
    وجزاكم الله خيرا

  3. قال تعالى ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا) هذه الآية العظيم تنطبق على الداعية الذي يحمل هم الأمة الإسلامية السنية التي تتجه نحو التية وهو يمتلك الفكرة والمنهجية الصحيحة والمفاهيم الجديدة نحو المسار الصحيح هذه القضية ساره عليها شيخنا الحبيب وهذه حركة الأنبياء والرسل بين أقوامهم لنشرالخير وإنقاذ الشعوب من جهل الظلام الى نور الاسلام ورغم الفراق وصعوبة الطريق فكانت رحلت الجنوب خيرلنا ولي أخواننا الذين فهمو أن الدين هداية إيمانية وهداية منهجيةبيانية فكانت فرصة عظيمة من غتنمها في وقتها من شيخنا الفاضل جزاك الله خير الجزاء

اترك رداً على نهاوند محمد إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى