د. طه حامد الدليمي
الأبوية حاجة فطرية: فردية وجمعية.
لا أنسى ذلك الموقف الذي قلت فيه هذه الأبيات يوماً من أيام شهر تموز سنة 2009:
يا لائمي في الهوى جهلاً كما جهلوا
تجري العيونُ بما لا يشتهي الرجُلُ
تهمي إذا رأت العينانِ في بلدٍ
عقيدَ قومٍ به الجمهورُ مُحتفلُ
أحد الملوك – على شاشة التلفاز – يقف بين شعبه في مناسبة وطنية وهم ينشدون لبلدهم نشيداً حماسياً، يقوم من مكانه يحييهم بمشاعر متوهجة والانفعال باد على وجهه وحركة يده حتى قلت: سيترك المنصة وينزل ليختلط بهم!
نفوسُهمْ مرَحٌ وجوهُهمْ فرَحٌ
قلوبُهمْ ثقةً بالنصرِ لا تَجِلُ
يكادُ إنْ لَوَّحتْ يُمناهُ يرفعُهمْ
إلى السِّماكِ ولو شاءوا السَّما وصلوا
ودمعت عيناي حين وجدتني لا رئيس لدي أو ملك أو أمير يمنحني هذا الشعور الأبوي
وقفْتُ ما بينَهمْ حيرانَ مُنكسِراً
أقولُ سرّاً وثوبُ الحُزنِ منسدلُ :
« كلُ البلادِ لها رمزٌ يمثلُها
إلا العراقَ فلا رمزٌ ولا مثَلُ »([1])
لا بد للمؤسسة من قائد يكون مصدراً للإلهام الروحي، والاستقرار النفسي، والنمو الفكري، يتأثر بشخصيته بقية القادة فيكون زعيماً حقيقياً لهم يستحق التقدم عليهم في المسير، ويلتف حوله الجمهور رمزاً يستحق الاتباع البصير. وعلى المؤسسة التجديدية الناهضة أن تعنى بوجود مثل هذا القائد باستمرار، وتهيئ البديل المناسب عند فراغ مكانه لأي سبب من الأسباب. وتحيطه بشيئين: منظومة قيادة تحفظ البنيان، ونظام داخلي يمنع الطغيان.
- من لوازم أبوية القائد زيارة إخوانه واستزارتهم، وتلبية دعوتهم، وعيادة مريضهم، والسؤال عن أحوالهم. والتبسط في الحديث معهم. وأن لا تكون كل لقاءاته وعلاقاته معهم لقاءات وعلاقات عمل؛ فهذا ألصق بالإدارة الجامدة منه بالقيادة الراشدة. ومن أوقع الأشياء في النفس وأكثرها بناء للروابط القلبية والعلاقات الأخوية.. السفرات والرحلات الترويحية الجماعية؛ إذ تترك آثاراً عميقة وذكريات جميلة، لها طعم لذيذ ولمس شفيف، يستعصي على عوامل التعرية مهما طال الزمن، بل لا يزيده الزمن إلا نمواً وثباتاً.
- ليس المقصود بالقائد القائد الأول للمؤسسة فحسب، وإنما القواد جميعاً في مختلف مراتب القيادة، حتى المدير التنفيذي. فكل قائد هو تابع لمن فوقه في مرتبة القيادة، وهو، في الوقت نفسه، قائد لمن هم دونه في المرتبة. وهذا يستدعي من القادة جميعاً – بصرف النظر عن مراتبهم – أن يبعثوا في أنفسهم روح الأبوة للفريق، ويتمرنوا على ذلك باكتساب الشخصية الأبوية الحقيقية؛ وذلك بالتحلي بعناصرها المستحقة: نفسياً وروحياً ومعرفياً وخبروياً؛ فالأبوية ليست رتبة إدارية تنال بالتعيين، وإنما منزلة قيادية تنال بالتمكن من تلك الصفات في طريقها إلى تحقيق التمكين.
- على المنظومة أن تستحضر في رُوعها (بضم الراء) أن القائد بالنسبة إليهم كالأستاذ بالنسبة لتلاميذه، والأب بالنسبة لعائلته. والقائد وإن كان لأتباعه أخاً وصديقاً ومعلماً، لكن هذه العناوين لا تمثله حق التمثيل، إنما (الأب) هو العنوان الذي يمثله ويعبر عنه أصدق تعبير.
- تستلزم الأبوية أن لا يعامل الأتباع قائدهم على اختلاف مراتبهم في المنظومة معاملة الإخوة لأخيهم، وإن كان هو أخاً للجميع. وإنما يعاملونه معاملة الأبناء لأبيهم: فلا يُرد عليه قوله دون تأنٍّ وتمعن. ولا تتبع معه في النقاش طريقة الجدل إلا عند الحاجة، وأحياناً، لا على الدوام. ولا يُتضايق من نصحه منفرداً أو مجتمعاً، بل يقبل منه بترحاب، وإن كان ثمت نقاش فباحترام.
- بالأبوية العادلة الرحيمة، تكون العَلَمية، التي بها يتحقق التوازن بين الأخوية الباغية والصنمية الطاغية.
- وقد عدى العلماء بعض الآداب التي شرعت مع الرسول إلى (أمير الإمرة الذي هو في مقعد النبوة)، كما عبّر القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن) عند تفسير قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور:62). قال الشوكاني في (فتح القدير): قال الزجاج: أعلمَ الله أن المؤمنين إذا كانوا مع نبيه فيما يحتاج فيه إلى الجماعة لم يذهبوا حتى يستأذنوه، وكذلك ينبغي أن يكونوا مع الإمام… قال العلماء: كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلا بإذن.إ.هـ. وبمثله قال القرطبي. واخترت الاستشهاد بقول الشوكاني لجامعيته واختصاره.
ولا يبعد الاحتجاج بمثل ذلك على بعض الآداب الأُخرى التي ينبغي أن تراعى مع القائد أو الأمير أو الرئيس، وإن لم تكن درجة الحكم متساوية؛ فمقام النبوة له خصوصيته، ولكن يؤخذ منها الأدب المطلوب اتباعه معه، كما في قوله تعالى: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور:63).
23 آذار 2020
………………………………………………………
(1) من ديوان (الوشاح الأحمر)، قصيدة (الكشف لثامك).