مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

مع سورة الكهف .. في طريق الرحلة الطويل (ج1)

د. طه حامد الدليمي

jettBus[1]

كان طريق السفر طويلاً حقاً يمتد مئات الأكيال بين الفلوجة ودمشق، لكن جو تشرين ينعش الروح، ويهدهد الجسد. كان ذلك قبل (11) سنة.

وإلى جانبي صديق، أغمض بعد قليل عينيه، ولوى عنقه و.. تركني وحيداً. ومن سقف السيارة تتدلى شاشات تعرض فلماً سمجاً. كان اليوم يوم جمعة، وقد جاء في الأثر فضل قراءة سورة (الكهف) في هذا اليوم المبارك من أيام الأسبوع. قلت في نفسي لأقرأ هذه السورة، على أن أصارع الضجيج وأجتهد في تدبرها رغم كل شيء. لم أكن متأكداً هل يمكنني ذلك أم لا؟ بهذه النية بدأت أتلو الآيات الأولى، وإذا بي يُفتح لي في معانيها مغاليق لم تفتح لي من قبل! وبين هنيهة وأخرى يفتح صديقي عينيه ويعدِّل من رقبته قليلاً، فأغتنم الفرصة لمناقشته قبل أن يلقي برقبته إلى جانبه ويغمض عينيه ثانيةً ليعود إلى ما كان عليه.

بين يدي كانت ورقة.. أقتنص فيها عناوين الأفكار، خشية أن تضيع مني، وأن عسى أن أجد الفرصة في قابل الأيام لكتابتها بشيء من التفصيل. وهكذا كان، فكانت هذه السطور، التي لا تمثل سوى إشارات دالة على بعض ما كان في ذلك اليوم المزعج الثقيل، فقد حصلت لي عند الحدود مشكلة كدت أذهب من جرائها إلى مصير مجهول، ولكن الله سلّم فخرجت وأنا أتلفت بعد تحقيق قصير! إضافة إلى ما عانيته وأنا على كرسيي ذاك في تلك الحافلة الضيقة الطويلة، بضوضائها المزعج، كأنني في كهف ضيق كثرت فيه الهوام والحشرات؛ فأنا أريد الخروج منه بأسرع وقت، وإلى أي مكان.

الحمد لله

ما قرأت هذه الحمدلة الرائعة في أول السورة يوماً: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا) (الكهف:1) إلا وشعرت بنعمة الله تعالى تهجم علي من كل جانب، ووجدت لهذه الكلمات الثلاث (الحمد، لـ، الله) طعماً لا أجده لها في موضع آخر، وأفكر: ماذا لو لم يكن بين يدي هذا الكتاب؟ أيَّ إنسان أكون؟ وما مدى القلق الذي يستبد بي جراء الشك وعدم الاستقرار على حال؟ الحقَّ أقول لكم: أنا لا أستطيع تخيل نفسي لحظة من دون هذا القرآن. لو كان ذلك كذلك لكنت غارقاً في بحر من الضياع، وتائهاً في صحراء مترامية من التشتت والتخبط واللهاث وراء السراب. لا شيء في الحياة يمنحك اليقين كآيات القرآن؛ فالحمد لله الذي أنزل على عبده هذا الكتاب، والحمد له على أن لم يجعل له عوجاً.. والحمد له على أن هدانا إليه. الحقيقة أنني عاجز عن تصوير ما يدور في خَلَدي من معانٍ لهذه الجملة التي تأخذ بمجامع لبي (الْحَمْدُ لِلَّهِ) في هذا الموضع على وجه الخصوص.

لا تعجب

وبينما كنت أغوص وراء لآلئ المعاني فأَجْني منها على قدر طاقتي وامتداد يدي، فتح صاحبي عينيه فتدحرجت في حجره بعض حباتها الجميلة:

  • (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً) (الكهف:9).

هل العجب هنا يقتصر على ناحية الفعل الإلهي من حيث النوم الطويل لأصحاب الكهف، وحفظ النائمين أحياء طيلة هذه المدة، وحفظهم من تسلط الآخرين أيضاً؟ أم العجب من ناحية الفعل البشري كذلك؟ فأن يُؤْثر مجموعة من الشباب ضيق الكهف مع الله على سعة الحياة مع غيره! فيُعرضوا عن الدنيا وما فيها من لذائذ ومتع، ويلجأوا إلى ذلك المكان الخشن الموحش الخالي من كل أسباب الحياة: شيء يدعو للإعجاب والعجب! ولكن لم العجب ولله في كل زمان ومكان عباد يأتون ذلك راضين شاكرين مطمئنين؟ وتأمل كيف كان العبور إلى الآية التي بعدها بواسطة الظرف (إذ) المرتبط بفعل الفتية (أوى): (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً) (الكهف:10).

تلقف صاحبي مني هذه الدرة ليضعها في مكانها من العقد فقال:

  • الكهف: كهف الخلوة. ألم يكن رسول الله يخلو في كهف؟ وهذا توجيه خفي من حبيب لحبيبه حتى لا يداخله العجب مما فعل من ذلك. وهو بطبيعة الحال درس للأمة جميعاً إلى يوم القيامة.

وذكرت له قوله تعالى يوصي نبيه : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) (المدثر:6)، فقال:

  • نعم هذا بالضبط ما كنت أريد أن أقوله.

الرشَد

ولوى صديقي عنقه مرة أُخرى، بينما كنت أتأمل في دعاء أولئك الفتية. لم يكن دعاءً مجرداً، بل دعاءً مصحوباً بأداء ثمنه عملاً كلّف أصحابه ترك الأهل واعتزال المشركين وما يشركون به:

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً) (الكهف:10)، وفي استجابة المدعو كيف كانت: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) (الكهف:16)!

والنشر عكس الطي، وهي كلمة تحمل من معاني السعة والامتداد الكثير، والناشر هو الله جل في علاه. وإذا كان العبد يتمرغ في سعة من رحمة الله فمن أين يتسلل إليه الشعور بالضيق حتى لو كان في كهف ضيق مهجور، بعيد عن الإنسان والعمران!

وهم طلبوا (الرشد) لكن الكريم زادهم (مرفقاً)، وهو ما يحتاجون إليه مما يرتفق وينتفع به من وسائل العيش، ومنه المُتَّكأ والمخدة، مأخوذ من مرفق اليد. واللفظ يشي بالرفق واللين، رغم وعورة الصخر في ذلك الجبل! وهكذا هو خلق الكريم تطلب منه شيئاً فيزيدك فوق ما تريد: (آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً) (الكهف:13).

ثم انظر إلى هذا الذكر المتكرر لكلمة الرشد (وهو الهداية) وتصريفاتها. وأول ذلك جاء على لسان الفتية طالبين من ربهم أن يهيئ لهم من أمرهم (رَشَداً) (الكهف:10)، فكانت الاستجابة بأن أنجاهم من فتنة قومهم وأسكنهم ذلك الكهف الآمن، وأن هذا هو الرشد.. الرشد الذي لا يؤتاه كل أحد: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً) (الكهف:17).

يا لله! ما هذا الكهف! فيه الرحمة، وفيه الرشد والهداية، وفيه الأمن والحماية، وفيه مرتفق للعيش والبقاء! وإن هذه النعمة الموفورة والرحمة المنشورة لا تتهيأ لكل إنسان، ولا يمنحها الله لكائن من كان. فلا تستهن بما آتاك الله منها وإن كنت في قلة وإقلال، ولا يغرنك ما عند الناس من متاع وقوة ومال. ليس هذا هو مقياس الكرامة عند الله، إنما المقياس هو الرشد والهداية ولو كان صاحبها فقيراً مُعدماً تضطره الحال إلى أن يلجأ ليعيش في كهف خالٍ من الزاد والزينة والمتاع!

والرشَد هو غاية مطلوب رسول الله: (وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً) (الكهف:24).

وهو الهدف الذي من أجله كانت رحلة موسى مع فتاه إلى مجمع البحرين: (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) (الكهف:66).

 

اظهر المزيد

‫5 تعليقات

  1. كلما ضاقت بي السبل واستحوشت الحياة رجعت لهذه السلسلة النورانية من المقالات فاجلس قلبي وعقلي وروحي في ظلالها وهي تهب لي هدوء نفسي وتدلني على بوصلة الهداية وتضع قدمي على طريق الرشد يا الله كم كنت أسير بعلم ضيع بوصلة الرشد والهداية والعلاج ميسر لي وفي كتاب الله الا ان الثقافة الملائية قطعت علينا التدبر والتفكير فجزاك الله عنا كل خير وفضل فقد علمتنا البوصلة وارشدتنا الطريق

  2. لَله كم نستنشق عبير المعاني وهي تتجسّر مع أدب قد فُتق من قبل ويتجدد ها هنا، ادب الرحلات…
    وكأن الكلمات تربت على أكتاف المعاني لتشجّعها على الانطلاق. فما يدري الكاتب أيرعى الطريق أم الكلم فكلاهما يتسارع في خطوه وسيره..
    فشوقًا إلى مثل تلك الرحلةوذكرياتها.

  3. لاتذوق حلاوة الإيمان مالم تتمعن وتتدبر بالقرآن الهداية لاتختصر عن طريق واحد الهداية هدايتان من الشرك الى التوحيد ومن التوحيد إلى التدبر والتفكر والتبصر والتبيان وأن تعلم ماذا يريد الله منك من خلال كتاب الله والسنة ، هذه المفاهيم تعلمناها من شيخنا الفاضل حفظه الله زادتنا هداية وثبات ووعي الحمد الله الذي مَن الله علينا بالهداية بعد عمر طويل قضيناه في ظلمات الشرك والتيه ولا نعلم بمصيرنا أين يتجه في تلك الحياة التي عشناها ولا نعلم كيف نهايتنا ونحن نمارس الطقوس الشيعية بين الدعاء والأستعانة والذبح والنذر وغيرها من طقوس الشيعة لغير الله . اللهم ثبتنا على الهداية وطريق الرشاد

  4. الله عليك يا طبيب الارواح في مثل هذه الازمة الشاملة والفتنة العارمة التي جعلت بيوتنا كهفا لنا ولغيرنا، وأنت تتطلع الصيدلية الربانية المعصومة من كل عيب لتختارلنا العلاج المناسب ،،فكانت تلك السورة الجميلة
    والقصة الئيمانية للفتية الذين اختاروا الله في اشد المحن وقدموا الدين على الدنيا ليكون
    قدرهم كهفا مظلما نوره الايمان وحياتهم اطمأنان في لقاء الملك المنان، فيا انصار المشروع السني وانتم في هذه المعانات والكهف الحر عليكم ان تستغلوا هذه المعاني الربانية و الروح الحيه التي عاشها الفتية الابطال

  5. مقالة جميلة، أيمانية وروحانية
    بمعاني عظيمه
    لكل من يبتغي رضا الله في هذه الحياة الدنيا
    كيف يعينه ويهديه إلى طريق الرشاد وينير طريقه
    إلى طريق مستقيم فيه الأمن والأمان ورضا الرحمان
    جزاك آلله خيرا شيخنا الفاضل على هذا الفكر الرباني

اترك رداً على متابع بصمت إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى