ديوان القادسيةقصص وخواطر

سنابلُ العمر

من رواية ( هكذا تكلم جنوبشت )

د. طه حامد الدليمي

C:\Users\DR\Desktop\نعم.jpg كفني ينسدل على كتفي..

وفي كفي قبضة سنابل، قطفتها من بين شتلات حرمل.

وعلى شفتي ابتسامة.

وفوق وسادتي يترك الليل حلماً جميلاً إلى جانبه وردة جوري بيضاء ثم يرحل. لكن ليس قبل أن يعدني بحلم آخر، جميل.. جدِّ جميل!

انظر..! أمشي على الأرض وتحوطني سماء.

شعور لا أملك له دفعاً.

في نفسي راحة، وفي صدري سعة، وفي قلبي عزيمةً.

أما جسدي فتسري فيه روح جديدة؛ وذلك الجليل الذي في السماء.. ذلك (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) ينظر إلي من عليائه.. وربما باهى بي ملائكته.

ما أروعه من شعور!

انظر كيف تسلل هذا المشهد الشاعري، فكان ختام سورة اسمها (الشعراء)؟!

**

رحلة في يوم حافل بالحركة لم يبق منه في الذاكرة سوى خيط باهت ضائع في بحر من الغبار يفصل بيني وبينه.. وبيني وبين ذلك العهد برمته. ما نوع الخيط؟ ما لونه؟ ما حقيقته؟ ماذا يحمل بين زغبه؟ وماذا يريد أن يقول؟

لا جواب!

ومثله ومثله آلاف من الأيام. أهكذا يختصر عمر الإنسان؟ وينطوي في أدراج النسيان؟

ولولا صفحات باهتة في دفتر مذكرات كتبتها بسأم بعد ذلك بأيام لربما لن أذكر من ذلك اليوم سوى ظلام يملأ (شارع 17) في مدينة (الرمادي)، وسيارة وقفت عند رصيف فيها اثنان يكتبان على ضوء مولد كهربائي قرب مطعم لما يُغلِقْ بابه في وجوه الزبائن بعد. وربما أكون نسيته. بل نسيته حتماً؛ فكم من مثله نسيت من أيام يفاجئني بها دفتري الأمين حين أُلِمّ به الحين بعد الحين. فماذا عن الأيام التي لم أكتبها؟

وضحكت.. أكتبها أَم تكتبني؟

**

وراودني سؤال لحوح.. هل هذه اللقطات التي رويتها تقوم لتصوير ساعة من ساعات ذلك اليوم؟ فما شأن باقي الساعات؟ بل الأيام.. والشهور و… السنين!

أين ستذهب؟ هل ستتبخر هكذا وينتهي كل شيء؟

إنها عمري! وعمري هو أنا.. فكيف لي أن أحفظها.. أعيدَ تخليقها وإيجادها بعد أن تكون قد تبددت مع الزمن؟

كيف يمكنني إعادة سكب عمري في قارورة الزمن كلما انسكب منها؟ وكيف أقدر على سبكه من جديد في كيان الحياة كلما هرّأته الحوادث؟ أو قل: كيف أقدر على جمع تلك البذور من بين سوافي الرياح بلا تفريط ببذرة واحدة لأعيد نثرها في مزرعة تُنبت الحبة فيها (سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)؟

وأضع إصبعين من أصابعي على صُدْغي، متكئاً بالثالث عند ذقني. وما بينهما ثنيت البقية. أليس الزمن شيئاً كالخيال؟ بل هو دونه بكثير. الخيال يمكن أن تقتنصه في زاوية من دماغك لتحتفظ به ولو لبرهة. أما الزمن فكالماء يتسرب من بين أصابعك لا تقدر على منعه مهما حاولت. وإذن؟

وإذن ماذا؟

كيف يمكن أن تَرتكب كل هذه الخسارات دون أن تربح ما يقابلها؟ لم أجد مثل الانصراف إلى ما أنا فيه شيئاً يعوضني عن تلك الخسارات الفادحة، بل ويجعلني أربح الزمن أضعافاً مضاعفة.

كان هذا هو حدائي، بعد أن تركت صديقي أبا ماهر في بيته بالفلوجة ومضيت إلى أهلي على بعد مئة كيل ونيف.. وأنا أدعو في سري أن لا أُبتلى بانثقاب أحد إطارات السيارة في ذلك الليل، وذلك الطريق الموحش الطويل.

نعم كان ذاك هو حدائي، رغم هاجسي المزعج، طول الطريق!

وحين وصلت البيت الساعة الثالثة بعد منتصف العمر وجدتني دون أن أدري أحمل في كفي قبضة سنابل! عددتها إنها سبع. لا، هذه سبع ثانية! وما إن انتهيت من عدها حتى رأيت إلى جانبها سبع سنابل أُخرى كأنها تناسلت من سابقتها!

وظل المشهد يتكرر، وظلت التشكيلة السباعية تتناسل من بعضها حتى بلغت الأفق وتسللت إلى ما وراءه! وهكذا أرتال لا تنتهي تتبعها أرتال، كلما غاب رتل تبعه رتل!

شعرت كأنني أرى الجنة على بعد خطوتين أمامي، ولو أهويت إليها بيدي لأخذتها! وغرقت في ضحكة كما يضحك طفل غمرتَه باللُّعَب. وقلت: لأحصي عدد ما في سنبلة واحدة من حب. لكنني تراجعت في اللحظة الأخيرة.

دعها فلعلها مأمورة.

– مأمورة؟!

آه لو يعلم العبد ما في إشارات الأقدار من أسرار!

– إشارات؟ أقدار؟ أسرار؟

……. .

– لماذا لا تجيب؟ أكمل أرجوك، عسى أن أدرك حقيقة ما تقول؟

لعلها من الصنف الآخر.

– أيَّ صنف تقصد؟

… والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم.

تسللت إلى حجرة النوم وعلى شفتي ابتسامة نثرتها على وجوه أطفالي السبعة الغارقين في النوم. مددت يدي إلى الأفق واستللت منه تشكيلة سنابل، أفردتها ووزعت سنابلها عليهم، بعد أن صنعت على عَجَل من بعض السنابل إكليلاً وضعته على رأس (وفاء)، ورميت بالبقية بين أحضانها.

وفي الصباح وجدت الليل قد ترك لي فوق وسادتي قبل أن يرحل حلماً جميلاً.. جدَّ جميل، إلى جانبه وردة جوريٍّ بيضاء.

11 نيسان 2020

 

اظهر المزيد

‫8 تعليقات

  1. لله لله كم تلهمني هذه الكلمات التي تذهب الى القلب دون إستئذان وتجعله يقفز ويقفز من السعاده التي دخلت اليه من هذه الكلمات وما اروع الأدب العربي حين يكون بين يدي من يضيف اليها طعم السعاده و الخيال والواقع و الربانية والخيال حين يذهب بك الى عوالم تشع بالنور مثل خيوط الشمس حين تشرق في بداية يوم جديد وهذه سنابل العمر قد اشرقت في جوفي مثل خيوط الشمس في بداية يوم جديد .

  2. من اين أبدأ ومن أين آخذ أو أدع فهذا العطاء النوراني يجعلني أفرغ كل ما بسلتي وكأنك أعدت الينا جنائن سبأ وليس لنا الا ان نضع سلالنا على رؤوسنا لتتساقط ثمارها جنية دانية أو كأنك سللت من خيوط انوار الوحي ليدخل الى كوة القلب بين اقفاصه بصفاء روح تتوقد و تشع انوار كتابتك على عيوننا فيساقط منها شلال ربيعا باهرا الجمال لقد اخذت هذه القطعة (من هكذا تحدث جنوبشت) العقل القائد واستسلم لها القلب الاداري وما لبقية الجوارح الا ارتعاشات فبين اشتباك الاصابع واقشعرار الجلد وانطلاق اللسان بالنطق بسبحان من اهداك ناصية الحرف والان لك نداه .

  3. الله… الله..!
    يا لها من ذكريات قد ارجعتني الى مشاعر.. فصول روايتك الجميلة التي قضيت معها اجمل ايام العمر..
    اليوم هو 11 من نيسان… ونيسان شهر الخير والعطاء، وشهر البركة والسنابل… وهو عند العرب شهر الحصاد.. وبداية موسم جديد…
    كما تتجدد الارض لتنزع ثوب الشتاء وترتدي ثوب الربيع الجميل، كذلك انت هنا تجدد الأرواح وتعيد للقلوب نشاطها من جديد ..
    …اترك هذه المعاني واغوص في معاني السنابل … فبين حبة انبتت سبعة سنابل في كل سنبلة مئة حبه …. وبين سبع سنبلات خضر واخر يابسات كما بين سورة البقرة، وسورة يوسف.
    حيث ذلك الحلم الجميل الذي رأه يوسف في بداية عمره.. . وبعدها مر في طريق المعاناة.. والصبر الجميل.. . وقبل الانفراج والتمكين له في الأرض رأى الملك تلك السنبلات السبع فكانت سبب انفراجه.. واخراجه من السجن.
    فعلاقة السنابل مع الحلم علاقة عظيمة تبشر بالخير القادم.. والفرج بإذن الله.
    ..
    لقد تجلت امام عيني في هذا المقال صورة نبي الله يوسف عليه السلام…
    قد اصاب الامة جفاف فكري، وعوق في تجديدها… لاسيما واشغلتها ردات فعل لما لاقته من ماسيء فولدت فيها شعارات الوطنية، والقومية.. وسيطرت على عقولها الاسلامية المتحزبة والفارغة من محتواها.
    وهذه الاحزاب والقوميات قتلت امجاد الامة وما بنوه.. ورمت كل تلك الجهود في جبٍ مظلم كما رمي يوسف صاحب الحلم الجميل.
    ..
    وها هي الأمة قد تاقت إلى من يعيد لها مجدها من جديد، كما تاقت امة يوسف الى ملك يدبر امرها كي يعبر بها الى بر الأمان.
    تاقت لك الأمة يا طه لتكون انت يوسفها. فتلقي عليها بقميص قلمك كي تعود مبصرة ترى الواقع بعد عميانها لسنين طوال… و سنين عجاف.
    حفظك الله من كل سوء ، وأطال الله في عمرك.. وبلغك الله ما ترجو وتحلم. 💜
    🌹🌹🌹

    1. مقالة تأخذك الى رحلة إيمانية في وسط مغامرات الدنيا التي تمر بها من خلال سيرة عمرك الطويلة وأنت بشعور دائم ونعمة عظيمة تتركز في القلب وهو مملوء بالإيمان واليقين أن هذه الدنيا مرتبطة بالاخرة وهي ساحة العمل والمواجه بين الحق والباطل في كل زمان، فعندما يتوافق الإيمان بالعمل وهي القضية تكون حياتك مرتبطة بالإخرة لان الإيمان والقضية لايفترقان وهي الغاية التي أمرنا الله بها في كتابة العزيز وهذا هو منهج المخلصين والعاملين ..وجزاك الله خيرا الجزاء شيخنا الفاضل بما نورة قلوبنا وعقولنا بهذه المفاهيم العظيمة.

  4. تعبير شاعري رباني نعم شيخناالفاضل عندما نثرة سنابلك
    في طريق رباني عظيم
    لتنير بصيرة الأمة وكيف تنصر دينها وقضيتها لمرضات الله
    اثمرة سنابلك وتفجرة ويزداد خيراها في كل مكان
    فهنيأ لك على هذا الرقي الكريم امام رب العالمين

اترك رداً على د. طه حامد الدليمي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى