مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

مع سورة الكهف .. في طريق الرحلة الطويل (3)

أصول الفتنة وأنواعها وعلاجها

د. طه حامد الدليمي

 

C:\Users\DR\Desktop\كك.jpg ويلتفت إليّ صاحبي لأناقشه في الأمثلة المضروبة في السورة لهذه المعاني العظيمة، وتساوقها مع المحور الأساسي للسورة، وهو الثبات على الحق، وعدم الافتتان عنه بأي صورة من الصور، أو سبب من الأسباب التي عادة ما يفتتن بها عامة الناس. فكان قوله تعالى عن صاحب الجنتين: (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) (الكهف:34).. ظاهراً من بين الآيات التي تناولها النقاش. هل لاحظتم أثر الافتتان بكثرة المال والرجال: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً)!

وهل لاحظتم بأي شيء أجابه صاحبه وهو يناقشه ويحاوره وكيف ركز على قلة المال والولد لديه في مقابل ذلك، قائلاً له بكل ثقة واعتزاز، دون تأثر ولا تراجع ولا اهتزاز: (وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً) (الكهف:39). لقد نظر إلى العاقبة فلم يتأثر ولم يهتز ولا تراجع: (فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) (الكهف:40).

وتجمع السورة أصول الفتنة وكيف يكون الثبات في مواجهتها:

1. الفتنة بقوة الباطل وانتشاره، وما لديه من أسباب الحياة وزينتها، وكيف واجهها أصحاب الكهف.

2. الفتنة بالمال والضياع والبساتين والأهل والولد، وكيف واجهها ذلك الرجل الفقير. وقد أخذه صاحب الجنتين ليريه ما هو فيه من قصور ومكاتب وآلات، وأبهة وهيبة وهيلمان، وحدائق وبساتين وجنان، فلم يلتفت إليه.

3. الفتنة بالعلم، وكيف واجهها نبي الله موسى .

4. الفتنة بالمنصب والتمكين في الأرض، وكيف واجهها ذو القرنين.

وكل أصل من هذه الأصول في حاجة إلى وِقفةٍ طويلة أتركها لأهل القرآن الذين يعرفون كيف يتدبرون القول وينتفعون بما فيه من معانٍ وإشارات وأسرار.

علاج الفتنة

وجماع علاج هذه الفتن جميعاً أمران:

1. الإخلاص في طلب وجه الله جل في علاه: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ) (الكهف:110).

2. والنظر في العاقبة: (هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً) (الكهف:44).

وإذا كان في مقابل هذه الزينة الزائلة: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً) (الكهف:8،7).. ذلك النعيم الخالد في الفردوس الأعلى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) (الكهف:108):

الزينة الظاهرة الزائفة في مقابل الفردوس! والصعيد الجرز الأجرد في مقابل النعيم الخالد! إذا كان ذلك كذلك فكيف تتطرق الفتنة إلى القلوب، ويتسلل الضعف إلى النفوس مهما كانت القلة وضعف المَكِنة؟! اللهم نسألك الثبات على الحق، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين يا الله!

روى الإمام البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله قال: (إذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة “.

التوحيد

هوتِ المشاعرُ والمداركُ عنْ معارجِ كبريائِكْ

يا حيُّ يا قيومُ قدْ بهرَ العقولَ سنا ضيائِكْ

أُثني عليكَ بما علمتُ فأينَ علمي منْ ثنائكِ

وجميعُ ما في الكونِ فانٍ مستمدٌّ من بقائِكْ

بل كلُّ ما فيهِ فقيرٌ مستميحٌ من عطائِكْ

ما في العوالمِ ذرةٌ في جنبِ أرضِكَ أو سمائِكْ

إلا ووجهتُها إليكَ بالافتقارِ إلى غَنائكْ

التوحيد – ملخصاً بالدعاء – كان حاضراً بشدة في هذه السياحة الإيمانية الممتعة. لقد كان الهوية التي شخصت أولئك القلة المؤمنة من أصحاب الكهف:

(إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) (الكهف:14-16).

وكذلك القلة المؤمنة من أصحاب النبي : (الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (الكهف:28). لاحظوا كيف أن التوحيد هو الذي حدد هويتهم: فأولئك هويتهم أنهم يدعون ربهم وحده لا شريك له، وهؤلاء – كذلك – هويتهم أنهم يدعون ربهم وحده لا شريك له.

وظل التوحيد يرفرف على السورة من أولها: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) (الكهف:1)، (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ) (الكهف:2)، (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) (الكهف:4)… إلى أن اختتمها جل وعلا بقوله: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (الكهف:110).

ومع كل هذه الحقائق تجد من يعرض ويفتن ويسلك الطريق العوج، ويدافع عما هو فيه من فتنة. إنها طبيعة الإنسان حين تتمرد عليه بعيداً عن الناحية التي فيها القرآن: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (الكهف:54).

صدقوني.. لم أقل شيئاً

وبعد….

أتحسبونني إلى الآن قلت شيئاً عن هذه السورة العظيمة؟ لا والله! بل ما قلت ما أريد قوله مما جال ويجول في خاطري عنها من معانٍ وأفكار. كيف لي بذلك؟ من أنا؟ وما أنا؟ وماذا يغني علمي إزاء علم الله الذي أنزله في كتابه؟!

(قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (الكهف:109).

تسبحُ روحي بحمدِكْ ويلهجُ ثغري بذكرِكْ

إلهي فهبْ لي ضياءً ينيرُ فؤادي بحبِّكْ

**

أنا من أنا يا إلهي ؟! سوى ذرةٍ فيْ رِحابِكْ

أزفُّ ابتهالاتِ روحي خَشوعاً ذليلاً ببابِكْ

أناديكَ أرجوكَ أبكي وأهوى رفيفَ ضيائِكْ

إلهيَ فاغمـرْ فـؤادي بلطفِـكَ أو بحنانِـــكْ

فإني وهبتُكَ روحــي وإنْ تكُ بعضَ عطائِـكْ

الخميس – 5 تشرين الثاني 2009

 

اظهر المزيد

‫10 تعليقات

  1. ما أعظمها من سورة، وما أروع كلماتك التي سلطت الضوء على بعض أسرارها وحكمها العظيمة.
    فلا غرابة أن يحثنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم على قراءتها كل جمعة حتى نتدبر هذه المعاني العظيمة فلا تأخذنا الدنيا بغير رجعة.

  2. (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (الكهف:109)
    جزاك الله خيرا

  3. سورة نرددها كل يوم جمعة دون التدبر والغوص بما تحمله من معان عميقة
    تذكرت قولة عمر بن الخطاب حين تلا ابو بكر الصديق رضي الله عنهما قوله تعالى: { انك ميت وانهم ميتون } كأني اسمعها لأول مرة
    اللهم اجعلنا ممن يقيم حروفه وحدوده
    جزاك الله خيرا دكتور طه الدليمي

  4. آه شرقت روحي بآهة وتحدرت عبر المآقي دمعة وشدوت بهذه اللحظات التي عشتها معك بآت القران وترنمت بالشعر و ان القلوب لتصدأ وتحتاج الى لحظة جلسة نؤمن بهاولنرمم ما هدم من دواخلنا التي عصفت بها صحراء الملائية التي تحلم بلا عمل وتضخم بلا زرع قيم آه شرقت روحي بآهة وتحدرت عبر المآقي دمعة وشدوت بهذه اللحظات التي عشتها معك بآت القران وترنمت بالشعر و ان القلوب لتصدأ وتحتاج الى لحظة جلسة نؤمن بهاولنرمم ما هدم من دواخلنا التي عصفت بها صحراء الملائية التي تحلم بلا عمل وتضخم بلا زرع قيم تعطيك الاخلاص بجلد الذات وتوصف الثبات بعمل المعجزات الله الله كم زرعت هذه الكلمات في قلبي نماءا في عمل وزكت أشواكا من دنيا كانت تعشش على القلوب وانا واياك لعلى قول القائل :
    أتاك حديث لا يمل سماعه؟!
    شهي إلينا نثره
    ونظامه؟!
    إذا ذكرته النفس زال عناؤها؟!
    وزال عن القلب المعنى وظلامه؟!
    كل ما في المقال جميل ولكن عيبه الكبير أنه كريح الصبا سريع في مروره.

  5. الله ..يا لهذه المعاني العميقة التي لا يليق في حضرتها إلا الصمت والتأمل ..

    سورة الكهف في مجملها تعلم المؤمن الصبر، وحكمة الإنتظار والتمهل واليقين ، وأن الفتنة مهما كان لبوسها قد تغري الإنسان لكنها لا تجبره.. فإن أدرك معنى الابتلاء وصبر نجا ..
    اللهم اجعلنا ممن(كانت لهم جنات الفردوس نزلا)

  6. اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن،
    روعة تلك المعاني التي لا يلامسها إلا أصحاب الغوص البعيد في بحار مملوئه بأغنى معاني الرجاء والبهاء لترقى بِهم ماأستخرجوا من الياقوت والمرجان،
    إلى من تحب فلا تبخل به على غيرها،
    هل جزاء الإحسان إلا الإحسان. هنيئاً لكَ ولأصحابك على هذهِ الأنوار المضيئة التي بشر بها المصطفى صلى الله عليه وسلم..
    والأمثال

  7. عندما يسير الانسان في مراد الله
    يدرك معنى الربانية الحقيقية
    وهذه السورة جسدة معاني الربانية الحقيقية
    وبقلمك المبدع اضفة معاني أيمانية لاصحاب القضية
    جزاك الله خيرا
    هوتِ المشاعرُ والمداركُ عنْ معارجِ كبريائِكْ

    يا حيُّ يا قيومُ قدْ بهرَ العقولَ سنا ضيائِكْ

    أُثني عليكَ بما علمتُ فأينَ علمي منْ ثنائكِ

    وجميعُ ما في الكونِ فانٍ مستمدٌّ من بقائِكْ

    بل كلُّ ما فيهِ فقيرٌ مستميحٌ من عطائِكْ

    ما في العوالمِ ذرةٌ في جنبِ أرضِكَ أو سمائِكْ

    إلا ووجهتُها إليكَ بالافتقارِ إلى غَنائكْ

  8. جزاك الله خير الجزاء شيخنا الفاضل التقاط رائع من آيات القرآن الكريم في سورة الكهف تعبر عن المواقف والدروس العظيمه التي تبين لنا كيف كان ثبات المخلصين والصادقين والصابرين والعاملين في سبيل الله مهما كانت الشدائد ورغبات الدنيا الفانية والفتن المتلاحقة فهم سائرون نحو المسار الصحيح لتحقيق أهدافهم التي أوكلها الله لهم . اللهم اجعلنا من الصالحين والمصلحين والعاملين لدينك يارب العالمين

  9. المقاله جميل جدا
    يالها من سوره عضيمه وجميله وفيها الكثير من الحكم و المعاني الجميله ،”اعضم سوره تقراء بايوم اعضم”
    شكرا لك على هذا المقاله التي عجز اللسان على وصف روعتها ⚘

اترك رداً على أنس الاندلسي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى