بين رسالتين .. وردة
د. طه حامد الدليمي
كنا يوماً في جلسة عمل في مسجد المحمودية الكبير، وكان بيننا الأخ الشهيد إياد العزي رحمه الله، ما زلت أذكر تلك الكلمة النورانية التي خرجت من بين شفتيه، والتي لخصت لنا المشكلة كلها، حين قال: “أهل السنة عبادة بلا قضية، والشيعة قضية بلا عبادة”.
رحمك الله يا أبا سارة! فما أكثر ما كنت أسمع منك مثل هذه الحكم العظيمة!
بين آيات الصيام آية كالوردة الفواحة في الروض الجميل، تلك هي قوله جل في علاه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة:186). لنقف عندها قليلاً نتنسم عطرها في نشوة وهدوء.
دعاء واستجابة
ترسم الآية لنا العلاقة العضوية بين دعاء العبد واستجابته لربه، وبين دعوة الرب سبحانه وإجابته لعبده.
هنا يحتاج العقل إلى وقفة قصيرة يرى بها طريقه: من الداعي؟ ومن المجيب؟ من يدعو من؟ ومن يستجيب لمن؟
انظر..! آيات التقوى، التي هي الهدف من الصيام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183).. هذه الآيات ملخصة في قوله تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلاً) (المزمل:2)، وقوله تعالى: (قُمْ فَأَنْذِرْ) (المدثر:2).
- (قم الليل) رسالتك إلى السماء، و (قم فأنذر) رسالتك في الأرض.
- كلم طيب.. وعمل صالح. كلم يصعد وعمل يرفع.
- دعوة صالحة.. واستجابة طائعة.
- باختصار: صلاة ونذارة، أو… عبادة.. وقضية.
فإذا فعل العبد ما عليه من ذا وذا، فقد قرب من غايته، ودنا من إجابته.
إذ يكون الدعاء نصراً
الدعاء أو العبادة وحدها لا تكفي لانتصار أهل الحق ما لم يحمل الداعي العابد على متنه معها تبعات القضية. والناظر في ما تلاه الله علينا في (سورة البقرة) من شأن بني إسرائيل أنهم ظلوا مغلوبين من أهل الباطل طالما كانوا ناكلين عن قضيتهم تاركين لجهاد أعدائهم الذين أخرجوهم من ديارهم وأبنائهم. لكنهم حين انتفضوا فكانت لهم استجابة لمقتضيات تلك القضية تحقق لهم النصر الذي به كانوا يحلمون.
عندما تقرأ (سورة البقرة)، التي هي أم الكتاب بعد أمه الأولى (سورة الفاتحة)، تجدها قد لخصت الدين في شيئين اثنين: العبادة والجهاد. والجهاد مقسوم فيها على المال والنفس، وقد ورد ذكرهما مقترنين مرات في السورة الكريمة. وفيها أعطانا الله تعالى المثل البليغ للأمة التي نكلت عن أوامره؛ فماذا حل بها؟ وماذا كانت عاقبتها من التيه والخسران المبين؟! ذلك من أجل أن نحذر أن نكون مثلها؛ فلا تحل بنا العاقبة نفسها.
تحدثنا السورة أن بني إسرائيل أخذوا بالدعاء أو العبادة: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) (البقرة:61). وارجع إلى الآيات: (68، 69، 70). وتركوا القضية أو الاستجابة: فعندما أمروا بذبح البقرة (المال) نكلوا ولم يستجيبوا إلا بعد أن أعيتهم سبل التفلت. ولما (كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (البقرة:246).
لكن…. هنا ملحظ لطيف يبعث في النفوس الأمل العريض، والفأل الحسن، والبشارة التي تنشرح لها الصدور. وهو أنه لا يشترط للنصر أن تتحقق الاستجابة من كل الأمة، إنما يكفي أن تقوم بالأمر ثلة أو قلة منهم تثبت عليه وتحرض الآخرين وتمضي في طريقها غير هيابة ولا آبهة بمخالفة الأعداء ولا خذلان الأقرباء. فإن الآيات التي تلت الآية السابقة بينت أن هذه القلة، بعد أن محصت وصُفِّيت، كان عاقبتها النصر على أعدائها: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة:251).
فيا أهل السنة!
لا يهولنكم ما ترون اليوم من تغول إيران وأشياعها! فنحن لا نحتاج إلا إلى قلة أو ثلة تثبت على الطريق، قلة عابدة مستجيبة، أدركت أن الدين عبادة وقضية، فجمعت هذه إلى هذه، وقامت بهما معاً؛ عندها سيجيب القريب المجيب دعاء المؤمن المستجيب، ويتحقق النصر بإذن الله تعالى، وما ذلك عليه بعزيز.
14 رمضان 1421
7 مايس 2020
بهذا التدبر لثنائيات القرآن لن تبقى أقفال على قلوب من يأخذ بالقرآن علماً يتوغل في غابات لم تطأ معانيها الأفكار، وهكذا هو القرآن مساحات شاسعة لا يمكن أن تنتهي على مر الأحقاب والدهور.
هذه السطور من منتجات شهر رمضان المعنوية.
فكلٌ يهتم بعرض منتجاته الرمضانية الحسية إلا أهل الله: أهل القرآن وخاصته يعرضون منتجاتهم المعنوية الإيمانية القرآنية.
الدين قائم على ركنان العبادة والقضية ولايمكن القيام باحدهما دون الآخر
وهما يمثلان الايمان والنصرة أيضا.
لله در هذا الحرف الذي يعيد ترتيب البنيان الفكري للمسلم فيقرأ الآيات ببصيرة العابد العامل لتوقد في روحه همة تزيل الجبال ولا تزول ..
بسم الله الرحمن الرحيم
جزى الله الدكتور الدليمي خير الجزاء
تدبر جميل ومركز من غير إطالة
اشد ما لفت انتباهي هو قوله:( والبشارة التي تنشرح لها الصدور. وهو أنه لا يشترط للنصر أن تتحقق الاستجابة من كل الأمة، إنما يكفي أن تقوم بالأمر ثلة أو قلة منهم تثبت عليه وتحرض الآخرين وتمضي في طريقها غير هيابة ولا آبهة بمخالفة الأعداء ولا خذلان الأقرباء)
هذه الواحة عيبها انها قطعة صغيرة تدخل سراعا الى الارواح والقلوب وتذهب بعيدا بدهشتها في العقول والعجيب انها قريبة في متناول الامي وعالية على البحر الزاخر في العلم حيث ترصع هذه التأملات القرانية هذا النداء الرخيم الحفيف بالامل رغم تصحر الواقع يا الله ما اجمل هذا النداء وانت تقول :-
فيا أهل السنة!
لا يهولنكم ما ترون اليوم من تغول إيران وأشياعها! فنحن لا نحتاج إلا إلى قلة أو ثلة تثبت على الطريق، قلة عابدة مستجيبة، أدركت أن الدين عبادة وقضية، فجمعت هذه إلى هذه، وقامت بهما معاً؛ عندها سيجيب القريب المجيب دعاء المؤمن المستجيب، ويتحقق النصر بإذن الله تعالى، وما ذلك عليه بعزيز.
14 رمضان 1421
الكثير ممن يقرأون القرآن للأجر والخشوع والعبادة ويكتفون بهذا . ويتركون الأصل العظيم وهو لب القرآن الكريم في الهداية والنور وهو (التدبر والتفكر) بالقرآن فاجزا لله شيخناالفضل على هذه التأملات الفكرية و المفاهيم الواسعة والإبداع المتواصل في مفهوم النصر
بين العبادة والقضية