أشخاص تأثرت بهم
د. طه حامد الدليمي
في حياتي أشخاص أثَّــرُوا فيها وأثْــرَوها كثيراً. ومنهم من كان تأثيره سلبياً. وكلا التأثيرين لهما علاقة بالتكوين الشخصي. ولا أظن الصورة تكتمل إلا بقطبيها.
والداي بطبيعة الحال كان لهما أبلغ الأثر، وخالي الكبير ملا إبراهيم. ثم أخي الكبير الشيخ نوري. وكان الشيخ سامي رشيد الجنابي أكثر من تأثرت بهم حياتي العلمية والإيمانية والدعوية.
الوالد رحمه الله
كان والدي على العكس من والدتي خفيف التدين، نال من الدنيا ونالت منه. على أنه كان يصوم ويؤدي الصلاة. نموذج للعراقي الريفي الذي ما زالت البداوة تسري في دمه. لم تغير المدينة من طبعه قط. مشاكس وذو مشاكل. لديه قيمة واحدة تختصر كل القيم الأُخرى هي الشجاعة، فتراه معتداً بنفسه مغالياً فيها، وكيف أنه ما ترك أحداً يغلبه في حياته. يقص علينا مواقف مشاجراته وفوزه فيها.
كان – رحمه الله – ملولاً لا يستقر على حال لا في سكنه ولا في عمله. انتقل بنا من دار إلى دار، وحي إلى حي ومدينة إلى أُخرى عشرات المرات. وتنقل بين الوظائف والأعمال كثيراً. وتزوج نساءً كثيرات! وكان عنيفاً شديداً لدداً. وفي الوقت نفسه رقيق القلب سريع الدمعة. عاشت والدتي معه حياة قلقة كانت – على قصرها – مليئة بالغصص، حتى كانت الفاصلة بينهما وعمري عشر سنوات ولي أخ يصغرني بثلاث، وأصرت على الطلاق، فلما أيس منها طلقها. وبعد أربع سنوات انتزعنا منها، وصار يمنعنا من زيارتها إلا قليلاً. فكنت – حين يشتد بي الشوق ويستبد الحنين – أهرب إليها. لكنه يسترجعنا ويعاقبنا؛ فلم أفعل ذلك غير مرتين.
أيتُها الأمُّ التي غادرتْ
قد أوهِنتْ .. إني لها أشهدُ
وفارقتْ مُجبرةً لم يَعُدْ
في وسعِها حَملٌ لما تجدُ
هُنِّئْتِ من طيرٍ على قفَصٍ
تركتِهِ وجوُّنا يُرْعِدُ
حاولتُ أن أنْأى بأجنحتي
لنلتقي
لكنهم قيدوا
عشت معه – وفي البيت ضرتان – بضع سنين حافلة بالألم والقلق، لا يخفف من وحدتي إلا أخي الصغير. وألجأ أحياناً إلى الورق أبثه الوجد نثراً أو شعراً رغم إحساسي أنه عاجز عن تصوير ما أعانيه.
يا ليل ! كيف المُقامْ ؟!
بين الأهَلْ
والعيشُ عيشُ السّقامْ
عيش المللْ !
والقلبُ وسطَ المَلامْ
يُمسي طللْ
همومي صارت لهيبْ
يكوي سَنا !
حشايَ فيهِ تذوبْ
تشكو الفَنا
فهل تُرى من مجيب ؟!
يومي دنا !
يا ليل ! إني وحيدْ
ليس لِيا
في البيت ذا من ودود
ولا ضيا !
إلا أخٌ لا يجيد
غيرَ الحَيا !
24/7/1977
انعكست هذه الحالة على علاقتي بأخي (علي) الذي يصغرني بثلاث سنوات. ثم على الأهل من بعد. وما إن تعمقت في دراسة علم النفس حتى اكتشفت أن هذه – على الأغلب – حالة تسمى (التماهي بالمضطهد Identification with the aggressor)، وهي عملية نفسية دفاعية لمجابهة القلق. معناها تمثل عدوانية المعتدي، مع البحث عن ضحية أضعف منه يصب عليها عدوانه بدلاً من المعتدي كتعويض عن عدم قدرته على تصريف غضبه باتجاه الهدف الصحيح. وربما كان هذا نوعاً من عملية نفسية تسمى (التحويل)، وفيها يفرغ الشخص عاطفته على هدف آخر ليس هو الهدف الأصلي، مثل أن ينزعج موظف من كلمة نابية من مديره لا يقدر على ردها عليه، فيظل متوتراً حتى يفرغ انفعاله في أقرب ضحية يصادفها أضعف منه. وعادة ما تكون زوجته أو ولده. لقد توصلت فكراً وشعوراً أن إلحاق الأذى بالأضعف مهانة ولؤم. وتذكرت حديثاً يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في النساء (ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم). ساعدني هذا الاكتشاف على تغيير حياتي، ولم يكن ذلك في البدء بالأمر الهين!
بل اكتشفت ما هو أعمق وأخطر! وهذا هو الأهم والغاية العليا من كل ما سبق عرضه. ذلك أن داء (الصنمية) المستشري في القيادات والرموز سببه أن مجتمعاتنا في عمومها مجتمعات تعاني من التسلط والاستبداد. وعن طريق عملية (التماهي بالمضطهد) التي تحدث في اللاشعور الجمعي للمجتمع، تتقمص عامة الجماهير شخصية الحاكم المستبد. ولهذا تجد كل واحد منهم – إلا من رحم – يستبطن في داخله شخصية ذلك الحاكم الذي يضطهده فهو عبارة عن مستبد صغير، لا فرق بينه وبين المستبد الكبير سوى القدرة. ولذلك قيل في الأمثال: (فرعون قدر فأظهر، وغيره عجز فأضمر). وينتقل هذا المرض بالحث والتأثر والعدوى. فليس شرطاً أن يتعرض كل فرد للاضطهاد حتى يصاب به. وقد لاحظ عبد الرحمن الكواكبي هذه الظاهرة قبل مئة عام فوصفها لكنه – كما يبدو – لم يقع على سببها حين قال: “الحكومة المستبدة تكون طبعاً مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي إلى الفراش إلى كناس الشوارع”([1])!
الصنمية أخطر عوق يصيب نفوس القادة، وهي أم الاستبداد. والسبب أن مجتمعاتنا اضطهادية، تنتج الاستبداد باستمرار. فالجمهور المتخلف أو الاضطهادي هو الذي يصنع الصنم، وهو الذي يحطمه بعد فوات الأوان ليقوم بتصنيع صنم آخر. وجذور ذلك قائمة على الاضطهاد بكافة أشكاله. فالثقافة الجمعية للمجتمع الاضطهادي تميل إلى التطلع للمنقذ السحري، والحلول العاجلة. وعادة ما تؤمن بما يسمونه (الحل الوحيد). ومن هنا نشأت (الثورية) والاعتماد على الحلول العسكرية، وإهمال الحل القائم على مشروع حقيقي (مدني): ينطلق من فكرة تؤسس لهدف، يتطلب وسائل وآليات، وتهيئة موارد، وتربية جمهور وإعداد قيادات في منجاة من العقد والمعوقات النفسية: فردية وجمعية. وهذا هو الذي اعتمده الرسول صلى الله عليه وسلم في بناء الدولة وتأسيس الحضارة. و(الحل الوحيد) في حاجة إلى شخص ساحر الصفات، يتخذونه صنماً ينقذهم من صنم ليكون هو الصنم.
وهذا من أهم ما توصلت إليه من حقائق. قادتني إلى تثبيت أسس منهجية في غاية الأهمية، منها فقرة (التجديد)، هي إضافات أجدها – حسب علمي – غابت عن بقية المناهج التغييرية، فاستمر إنتاج الصنم.
من هنا أدركت سر معنى لطيف للعلاقة بين الاستقرار العائلي وقيادة المجتمع في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان:74) قرأته قديماً للشيخ محمود غريب – على ما أذكر – فمن نجح في قيادة زوجه وأولاده قيادة قائمة على الحب والاحترام والمشورة وسماع الرأي والحرية المسؤولة – وهذه كلها من لوازم الاستقرار والسعادة البيتية (قرة أعين) – نجح في قيادة الجمهور بالطريقة نفسها. وهذا المعنى، مع إدراك سره، أراه من أعظم ما تحتاجه الدعوات اليوم للنجاح في محيطنا الشرقي الذي يشيع فيه الاضطهاد بجميع أشكاله الفكرية والنفسية والجسدية. وهو أحد الفروق الأساسية بين دعوات الغرب ودعوات الشرق في العصر الوسيط والحديث.
من تدابير القدر
صدق من قال: (ولله في خلقه شؤون)!
ألم ومعاناة أدت إلى اكتشاف في غاية الأهمية.. واضطراب يدوم سنين عدداً يقود إلى إدراك سر استقرار لا على مستوى الأسرة بل المجتمع كله! ثم تكون العاقبة من أجمل ما يكون. وكل ذلك بقدر.
ودعت أبي عند اضطراري للهجرة من بلدي في منتصف 2005 إلى سوريا. التقيته خفياً من عيون القوى الأمنية عند أقارب لنا في الدورة. وجرى بيننا ما جرى مما أرجو ادخاره عند الله تعالى. ومرت شهور على إقامتي في دمشق لتطرق عليّ باب الهاتف رسالة هزتني من الأعماق، ملخصها تعزية من أحدهم بوفاة والدي!
وصدمت؛ فلم أكن أتوقع أن يموت بهذه السرعة! ولمت نفسي أشد اللوم؛ كيف مات ولم أقض لبانتي من بره كما أريد! لم يحصل بيننا أي اتصال، وإن كان صعباً؛ فالهواتف الجوالة لم تكن مألوفة عند الكثيرين إذ لم تدخل إلى العراق إلا بعد الاحتلال. وتغطية البث كانت محدودة خصوصاً في الريف، ومع اشتداد عمليات المقاومة كثيراً ما يقطعها الأمريكان لدواع عسكرية. لكن من المؤكد أنني لو حاولت لتمكنت. كيف حدث هذا؟ وما الذي أفعله؟ وتملكني شعور بالحزن له طعم لا يعرف مذاقه إلا الغرباء عبرت عنه يوماً فقلت: (ثقيل على النفس أن لا يجد المرء من يشاركه مشاعر فرحه. وأثقل منه حين يجد نفسه وحيداً يجتر آلام الحزن بلا شريك؛ الحزن وحيداً مصيبة مضاعفة. وصغته شعراً يوم أن قتلت أختي (أم أحمد) بعد ذلك بخمس سنوات فقلت:
الحزنُ في الأوطانِ
حزنٌ واحدٌ
والحزنُ في المدنِ البعيدةْ
متعدِّدٌ ..
متفرِّدٌ ..
كالسمِّ .. كالطاعونِ
كالمذبوحِ يستجدي وريدَهْ
وحديثُهُ ..
صعبٌ على النفسِ الغريبةِ
دونَ صحبٍ أن تُعيدَهْ
وطنٌ بلا صحبٍ
كصحبٍ دونَما وطنٍ
ولا ذكرى سعيدةْ
وأنا ..
بلا صحْبٍ .. ولا وطنٍ
سوى ذكرى
بها عبثاً أُحاولُ أن أُعيدَهْ
لم أخبر الأهل. فمشاعر الحزن، وحتى الفرح، في الغربة باهتة ثقيلة سمجة، بل لا يمكنني العثور على ألفاظ أستطيع بها تحديد مذاقها الممض. قمت فتوضأت وصليت ركعات أهديتها له. لكن ماذا تغني؟ لقد ماتت والدتي رحمها الله تعالى راضية عني، وكانت آخر كلمة دعت بها لي وسمعتها منها وهي مغمضة العينين تصارع غيبوبة المرض الذي أودى بحياتها بعد يومين من ذلك: “الله يساعدك وْلَيدي”. فهل مات أبي راضياً عني؟ وزارني صديق فلم أخبره؛ إنه الطعم الباهت الممض الثقيل!
وتطرق باب هاتفي رسالة أُخرى..
ما هذا؟ هل حق ما أقرأ!
إنه اعتذار من صاحب الرسالة الأُولى يبين لي فيها أن رسالته وصلتني خطأً؛ وأنني لم أكن المقصود بالتعزية، إنما ذلك صديق لي توفي والده وليس والدي! وكان فرح لا يوصف! وكانت علاقة جديدة بيني وبين أبي. زارني عدة مرات في سوريا. ولما انتقلت إلى الأردن في شتاء 2007 التقيته آخر مرة في دمشق قبيل مقتله بثلاثة أشهر. فانظروا إلى تدابير القدر الرحيم كيف دفعتني إلى أن تكون الخاتمة بيني وبينه كما أحب وأتمنى! وكيف ختم الله تعالى له حياته بأن قتل ظلماً قتلة أرجو أن يمحى له بها ما كان عليه من ذنوب!
[1]- طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، ص62، الطبعة الثانية، دار القرآن الكريم – بيروت، 1393هـ – 1979م.
ابكيتنا يا شيخنا الحبيب ، ادعوا الله العلي القدير ان يحفظك ويرحم والديك ويجمعك بهما في الفرودس الاعلى ،
رحم الله والدك ووالدتك
سبحان الله طبع الاباء في العراق متشابه يملكون اغرب شخصية على الاطلاق القسوة المفرطة والدمعة القريبة والعاطفة ايضا عجيب ارجو ان يتغيرو وان لا يبقو على هذه الشخصية المتعبة لاولادهم ولزوجاتهم
رحم الله والديك وجعل مثواهما الجنة وجمعك بهم في مستقر رحمته إنه ولي ذلك والقادر عليه…
اخخخخ يا دكتور، كم شخص عانى و يعاني بمثل ما عنيت 💔… ولكن الحمدلله الذي أخرج من رحم هذه المعاناة شخصاً نسّانى ظلمة الأيام و تيه الحال… أخرج القدر لنا سرجون هذا العصر، باني أمم بفكره و تجديده لدين الله الخالد… أنت يا شيخنا رمز الأمل و الإصلاح التي انتظرتها الأمة الحزينة طويلاً… أسأل الله أن يطول عمرك و يبارك لك فيه و يعطيك الصحة و العافية و أن يغفر لوالديك و يرحمهما، اللهم آمين🌹
أملي أن أترك لمن بعدي مشروعاً عتيداً بمؤسسة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
بذلك تتدلى عذوق نخلتنا ويتوهج الأفق بالثمر ! وأن عسى.
قبل كل شيء نُحيك دكتور على ذلك النقد الذاتي، والبحث عن مواطن الخلل وتشخيص الامراض النفسية وعلاجها، وهذا مالا يفعله الا ذو حظٍ عظيم.
نسأل الله أن يعطيك طول العمر وحسن العمل..
كلام رائع يحلل عن واقع لثقافة اجتماعية ناشئة عن عقد نفسية..
الصنمية أخطر عوق يصيب نفوس القادة، وهي أم الاستبداد. والسبب أن مجتمعاتنا اضطهادية، تنتج الاستبداد باستمرار. فالجمهور المتخلف أو الاضطهادي هو الذي يصنع الصنم، وهو الذي يحطمه بعد فوات الأوان ليقوم بتصنيع صنم آخر. وجذور ذلك قائمة على الاضطهاد بكافة أشكاله. فالثقافة الجمعية للمجتمع الاضطهادي تميل إلى التطلع للمنقذ السحري، والحلول العاجلة. وعادة ما تؤمن بما يسمونه (الحل الوحيد). ومن هنا نشأت (الثورية) والاعتماد على الحلول العسكرية، وإهمال الحل القائم على مشروع حقيقي (مدني): ينطلق من فكرة تؤسس لهدف، يتطلب وسائل وآليات، وتهيئة موارد، وتربية جمهور وإعداد قيادات في منجاة من العقد والمعوقات النفسية: فردية وجمعية. وهذا هو الذي اعتمده الرسول صلى الله عليه وسلم في بناء الدولة وتأسيس الحضارة. و(الحل الوحيد) في حاجة إلى شخص ساحر الصفات، يتخذونه صنماً ينقذهم من صنم ليكون هو الصنم.