د. طه حامد الدليمي
بدايتي مع الشعر
كانت أشبه بالصدفة.. إطلالتي على الشعر، أو إطلالته عليَّ، لأكتشف أنني على علاقة بهذا العالم السحري البديع! والبداية كانت بعدما انتقل أخي الأكبر إلى كلية الإمام الأعظم عام 1974، وصار طالباً في قسم (اللغة العربية) يدرس الأدب والشعر ضمن المنهج المقرر.
وبفعل المصاحبة والملازمة صرت أسمع منه وأتعرف بنفسي على أمور كثيرة تخص الشعر والشعراء وعصورهم وطبقاتهم. وسمعت لأول مرة بعلم اسمه (العَروض) وأن مكتشفه هو الخليل بن أحمد الفراهيدي، وأن الشعر ينظم ويوزن وبهذا يفترق شكلاً عن النثر.
بدافع من حب الاستطلاع والرغبة الفطرية الجامحة في البحث عن كل جديد، كنت أقلِّب باستمرار كتبه ودفاتره، كما هو ديدني منذ السنوات الأولى للعمر، وأحاول أن أفهم كيف يوزن الشعر! وكيف تختلف بحوره. وصرت أمسك بالورق والقلم وأخط وأقطّع وأزن وأحاكي فإذا بي أكتب وأنا أحاول أن أنسج على هذا الوزن من بحر الهزج (مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن) هذه الأبيات:
متى تأتوا روابيها
تروا فيها مغانيها
على نهرٍ سقى أرضاً
تباهيها مراعيها
هنا كبشٌ ثغى ليلاً
رثى عمراً مضى فيها
بكى عهداً سرى خطفاً
بلا ريث ولا ( إيها )
ينادي في الفلا عشباً
على عينٍ نما فيها
ألا يبقي معي منها
ولا حتى أمانيها؟!
فيا ليت الصِّبا يأتي
– ولو يوماً – فيُحييها
وأنظر!
ها؟….. وأزم شفتي وأهز رأسي.. إنه شعر!.. أو هكذا خيل إليَّ ..
وأضع له عنواناً: (القرية). ولعلني أريته أخي فشجعني! كان ذلك وأنا أجتاز للتو عتبة الصف الأول المتوسط في حزيران من عام 1974. ذلك العام المشحون بكل جديد ومثير: حرب تشرين كانت المقدمة ونحن ندلف إلى ذلك العام، تأميم النفط والمظاهرات الصاخبة ولغط المدينة بعد فترة هدوء واستجـمام في القرية دامـت بضع سنين .
عالم الأدب
وتوغلت في عالم الأدب هذا العام كأنني في سباق! كنت ألتهم كل ما أجده بين يدي من دفاتر وكتب لأخي ولغيره: (العبرات) و(النظرات) للمنفلوطي، (الأيام) لطه حسين وكتب أخرى لا أذكرها. وصرت أسمع بأسماء مثل نجيب محفوظ و(السكرية) و(قصر الشوق) و(بين القصرين) وغيرها وغيرها.
كان أقربهم إلى نفسي يومذاك مصطفى لطفي المنفلوطي. لقد أعتبرته – وأنا في ذلك العمر الغض – أعظم كاتب على الإطلاق! قرأت جميع كتبه، في تلك الأيام وبعدها بقليل.. ولطالما أثارت تلك الكتب مشاعري حتى لبت نداءها عيوني. ومن يملك نفسه أو عبراته عند (العبرات)؟! أو نظره عند كثير من مشاهد (النظرات)؟! وعلى منوالها كانت: (الفضيلة) و(في سبيـل التاج) و(تحت ظلال الزيزفون)… .
ترى..! هل تعود تلك الأيام..؟ ولكن بلا آهات ولا عبرات!
أما من غرس في نفسي حب المنفلوطي فهو الشيخ عبد الرافع رضوان، اصطحبني أخي لزيارته وزيارة الشيخ محمود سيبويه في بغداد، وكلاهما من علماء القراءات في مصر، واسماهما مثبتان ضمن قائمة العلماء المشرفين على طباعة (مصحف المدينة المنورة)،
وهما من الشيوخ الذين درس على يدهم أخي في المعهد الإسلامي، وهو الإعدادية الدينية الوحيدة ببغداد آنذاك. لاحظ الشيخ عبد الرافع أن ذلك الغلام الصغير يختزن طاقات لغوية واعدة، فتوجه إلى أخي وقال له: دعه يقرأ مؤلفات المنفلوطي لتثرى لغته ويجمل أسلوبه. كان ذلك صيف سنة 1973 وأنا أنتقل إلى الصف الأول المتوسط.
تعرفت على صديقي أحمد إذن ولدَيّ كل هذا الخزين. وكان هو صاحب خزين أيضاً. وهكذا التقينا وتوافقنا (توافق شن طبقة)، وانعقدت صلة المحبة بيننا، فكنا لا نكتفي بسويعات اللقاء في المدرسة حتى نتممها فيزورني في بيتي وأزوره في بيته، أو نخرج إلى البساتين، أو نتمشى على سكة القطار نقرأ معاً.
مكتبة ابن خلدون
بيْدَ أن أطيب لقاءاتنا تلك التي كانت في مكتبة (ابن خلدون) في طرف المدينة من جهة بغداد مقابل بناية دائرة البلدية. تلك المكتبة الجميلة التي قضينا فيها أحلى أيام الصبا، وعشيات الشبيبة.. نقرأ كتبنا المدرسية أو نستعير ما نختاره من كتبها، نجلس في قاعتها الكبيرة، أو نتمشى في حديقتها الواسعة المزينة بشجيرات الآس وورد الجوري ويغطي أرضها الثيّل الأخضر. وكانت تزين مدخلها من الخارج حديقة كبيرة تفصل بينها وبين الشارع العام، تقابلها من الجانب الآخر للشارع حديقة مماثلة تسيجها أشجار الأثل والكافور العالية. ولك أن تتخير أي الأماكن لتجلس أو تتمشى. وكثيراً ما اصطحبنا كتاباً معاراً نكمل قراءته في البيت لنعيده بعد أسبوع أو أكثر أو أقل.
وأذكر مما قرأناه تلك السنين بعض روايات جرجي زيدان، لكنها قراءة ناقدة متوجسة فما رواه في كتابه (العباسة أخت الرشيد) كان موضع انزعاج ورفض منا جعلنا نظن فيه الظنون. وكنا نقرأ بسرعة. جربنا يوماً أن نحسب الزمن الذي تستغرقه منا قراءة صفحة كبيرة فكان لا يتجاوز ثلاث دقائق. وقرأنا لدستوفيسكي ومكسيم غوركي وأرنست همنغواي وميشال زيفاكو وعباس محمود العقاد وجبران خليل جبران ومي زيادة ومحمود شيت خطاب، وكتاب آخرين يصعب حصرهم.
وممن تأثرنا بهم وبفكرهم تلك الفترة الشيخ المصري محمود غريب رحمه الله باللقاء المباشر إذ نحضر بعض خطبه في جامع (البنية) ببغداد، أو عن طريق كتبه التي كان يطبعها ويوزعها، أذكر منها سلسلة (يا ولدي)، وسلسلة (حتى لا نخطئ فهم القرآن)،التي كنا نترشفها ظامئين في ذلك الزمن الجديب، الذي لم يكن من السهل استحصال موافقة رسمية لطباعة كتاب ديني. أخبرني أخي الشيخ نوري رحمه الله أن موافقة دائرة رقابة المطبوعات لكتاب الشيخ محمود (كتاب الله يا ولدي) تأخرت بسبب عنوانه الذي كان (هذا كتابك يا ولدي)؛ لأن المسؤول يشم منه رائحة إشارة مبطنة إلى دعوة الناس للانصراف عن فكر الحزب وكتبه، وقصرهم على القرآن وحده، حتى غيره إلى العنوان الأخير مخالفاً بذلك النسق الذي أراد أن يصدر به السلسلة من كون كل كتاب منها معنوناً بالخطاب المباشر للقارئ (هذه عقيدتك يا ولدي، هذا نبيك يا ولدي). وهكذا جاء عنوان كتابه الآخر (شريعة الله يا ولدي)! وظل هذا الرجل العظيم يبذل جهوده في التأسيس والبناء، رغم مضايقات رجال الأمن، وملاحقة تقارير الجهلة واتهامات المغرضين، إلى أن وقعت الحرب التي شنتها علينا جارة السوء إيران سنة 1980، فلم يستجب لمطالب الجهات المسؤولة في تبني الدعوة إليها، فازداد وضعه الأمني سوءاً.. حتى اضطر للهروب خفية إلى الكويت ومنها إلى عُمان، وظل فيها حتى وفاته العام الماضي 2012، وطيلة ثلاثين عاماً وحنينه إلى بغداد لم ينقطع ولم يخفت حتى أطلق عليه البعض لقب (أسير بغداد)! رحمه الله برحمته الواسعة.
صديقي عبد الكريم الحجازي
لا يهون علي أن أترك القلم يسيح ويشتط بي المدى، قبل أن أتوقف لحظة عند صورة عالقة في ذهني في حديقة مكتبة (ابن خلدون) لصديق في مثل عمري وفي المدرسة والمرحلة الدراسية نفسها لم تكن العلاقة بيني وبينه قوية، ربما لأنه كان قليل الاختلاط بغيره. مرتب الهندام، يمسك كتابه يقرأ ذاهباً جائياً، علامات الطيبة والإيمان بادية عليه، إذا كلمك ذكرك بالله بكلمات تشعر أنها نابعة من قلبه. لم أصادف في عمري ذاك مثله في هدوئه الناطق وسمته الجاذب ودفئه الفياض!
قال لي أحمد يوماً كلمة هزتني من الأعماق: “ليس هناك شخص متدين أبداً مثل كريم عباس”! قلت في نفسي: إذن لست أنا الأول في التدين بنظر أقرب الناس إليّ!! كيف وأنا أريد أن أكون كذلك في كل شيء، ولا أطيق أن يتقدم عليّ أحد في شيء! فقد تعودت أن أحقق أعلى الدرجات في الامتحانات المدرسية، وترتيبي في مستوى النجاح يأتي دوماً الأول على الأقران. ثمت خلل إذن لا بد من الالتفات إليه. وهكذا صرت أصلح من حالي وأزيد في قراءاتي العلمية الإيمانية والتزامي بالدين. ولما كبرنا أخبرت كريم بأن له يداً علي لا تنسى في ما أنا عليه، لكنه – وكلما ذكّرته وشكرته – لا يكاد يصدق ما أخبره به، ويستبعد ذلك كثيراً.
…………. يتبع إن شاء الله تعالى..
السبت
7 شباط 2013
لله هذه الكلمات تنطلق الى أوتار القلب فتتلاعب بها كتلاعب ريح الصبا بتلات اوراق الزهر وكماء بارد في قيظ صيف لاهب وتسري الى الروح كمحزون جاءته البشرى من بعد يأس وهي أنوار للطريق ما قيمة الحياة بلا قلم يستشعر ويختلط به القلب فيرسمان الحرف كوردة تنث عطرها وتختال بجمالها ويوقع في الاذان موسيقى هادئة عتيقة في تاريخها تحمل عبق الماضي وهي همسة تربوية هادية هادئة كيف نبدأ مع شباننا كيف يبدأ القراءة .
وإن يكُ عن لقاءك غاب وجهي … فلم تغبِ المودّةُ والإخاءُ
ولم يغبِ الثّناءُ عليك منّي … بظهرِ الغيبِ يتبعهُ الدّعاءُ
ومازالت تتوقُ إليك نفسي … على الحالاتِ يحدوها الوفاءُ
اسلوب الكتابة رائع ومميز يجعلك تشعر أنك تعيش تلك الأيام بما فيها.
وتجعلني اتلهف لاكمل باقي القصة.
دكتور سؤال لو سمحتم. ذكرتم انكم كنتم تقرؤون بسرعة، فكيف تحصل الفائدة والاستيعاب؟