صديقي أحمد/1-3
د. طه حامد الدليمي
ما أكثر الأحباب.. الذين عبروا بي صحراء العمر..!
ولكنْ.. مهما كثر الأحباب يبقى لبعضهم مذاق خاص يصعب تصويره. يقتربون من الروح أكثر. حتى لكأنك بالواحد منهم فلذة انشطرت منك فكانت هو، فأنت لا تني تنجذب إليه لتعيد الشطر إلى مكانه كي تكتمل به وتستقر روحك من السعي المجهد وراءه.
في المسجد كان اللقاء الأول
في ليالي رمضان أتسلل من بيتنا وأعبر سكة القطار لأدخل السوق وأواصل المسير باتجاه جامع المحمودية الكبير، وفي باحته أنتظم مع المصلين نؤدي صلاة العشاء ثم التراويح.
كان ذلك في سنة 1974.
قلة من الناس كانت تصلي في ذلك العهد. وأقل من القليل أن ترى صبياً يصلي. وفي المناسبات – كالأعراس – التي يجتمع فيها الناس يلوذ المصلي فينتبذ مكاناً قصياً ليؤدي صلاته على عجل، وقد يعتريه شيء من الخجل!
رحم الله الحاج خضير عباس الجنابي كان يبتسم لي حين يراني أدخل المسجد ويشجعني بكلماته الطيبة. كان صديقاً لخالي ملا إبراهيم فكثيراً ما كنت أرى خالي يمر به ويجلس عنده في دكانه. لقد جمع بينهما المسجد وتصاحبا في ظلاله. للحاج خضير ولد صغير كان يحضر الصلاة، ويحضرها من الصغار أيضاً أولاد الحاج مجيد التكريتي، وأولاد الحاج عبد مرزوگ الجنابي، مع آبائهم وإخوانهم الكبار. ولا أذكر طفلاً صغيراً من غيرهم كان يدخل المسجد. أما أنا فكنت أجيء وحدي فوالدي نادراً ما كان يصلي في المسجد سوى الجُمع.
بين كل أربع ركعات من صلاة التراويح يردد المصلون ذكراً خاصاً بصوت مرتفع. كنت أنظر إلى أحد الغلمان يؤدي الذكر بحركة من فمه لا أعرف كيف أصفها لكنها غريبة بعض الشيء. كما كان يشد انتباهي منظر قميصة الأحمر المنقط وبنطاله الديولين الأزرق. هذه أشياء صغيرة لكنها نابتة في ذاكرتي لا تحول ولا تزول.
ثم المدرسة
وبدأ موسم الدراسة فإذا هو في الصف نفسه الذي أدرس فيه. ارتحت كثيراً إذ وجدت في الصف غلاماً من المصلين. ومن هناك انعقدت حبال المودة بيني وبين أحمد. كنا يومها في الصف الثاني المتوسط في متوسطة المحمودية التي جئتها منقولاً من ثانوية دمشق في الدورة ببغداد.
كنا نجلس على رَحلة أو مقعد واحد حتى انهينا الدراسة الثانوية، ثم افترقنا هو إلى كلية الطب في الجامعة المستنصرية، وأنا إلى كلية الطب في جامعة بغداد. كان عمراً جميلاً مليئاً بالثمار ذلك الذي قضيناه معاً. كلانا يعشق المطالعة خصوصاً كتب الأدب، وكلانا يحب النقاش، وكثيراً ما اختلفنا وطال الكلام بيننا ثم لم نتفق. وفي اليوم التالي نأتي فإذا هو قد اقتنع بوجهة نظري، وأنا فعلت العكس!
ما أسعد تلك اللحظات التي كنا نسرب فيها شيئاً من (يومياتنا) حتى تتجمع لدينا بضعة دراهم لننطلق إلى بغداد ندور بين مكتباتها في شارع الرشيد وشارع السعدون وقد نذهب إلى شارع المتنبي وسوق السراي نقضي ساعات بين عناوين الكتب نتقلب بينها، تجتاحنا لذة غامرة كأننا في أجمل البساتين، ثم ننتقي ما يسمح به الحال مما يعجبنا من الكتب خصوصاً القصص والروايات والتاريخ والشعر. مرة جمعتنا إدارة المدرسة في سيارات للذهاب إلى بغداد من أجل التظاهر في مناسبة قومية لا أذكر ما هي، لكن ما زال في أذني هتاف الجموع (يا بغداد ثوري ثوري خلي الأسد يلحق نوري) [الأسد: حافظ أسد، ونوري: نوري سعيد]. سايرنا الجموع وهي تهتف وحين اختلط زملاؤنا بالآخرين تسللنا لواذاً وتركناهم؛ إذ ليس لنا من غاية سوى الذهاب للسياحة بين المكتبات، وإنما رافقنا طلاب مدرستنا توفيراً لأجرة السيارة حتى نشتري بها كتاباً آخر.
ولعنا بالمطالعة
قرأنا كثيراً. وتنقلنا بين مجالات متعددة للعلم.
قرأنا لنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وطه حسين ومصطفى صادق الرافعي ومحمد عبد الحليم عبد الله ونجيب الكيلاني وعبد الرحمن الربيعي وعمر أبو ريشة والسياب والمتنبي. وقصصاً وكتباً علمية وفلسفية وتاريخية: السيرة النبوية وسير الصحابة وشخصيات إسلامية وأُخرى عاشت قبل الإسلام وبعده: عربية وعالمية. هانيبعل، نابليون، هيلين كيلر، شجرة الدر، وغيرهم.
كان كتاب (قصة الإيمان) لنديم الجسر من أكثر تلك الكتب تأثيراً في نفوسنا. وقرأنا لسيجموند فرويد وطالعنا في أصل الأنواع لداروين. أما مصطفى لطفي المنفلوطي فكنت قد أتيت على جميع مؤلفاته وأنا في الصف الأول المتوسط قبل أن أتعرف على أحمد. حتى حواشيه على كتاب (كليلة ودمنة) لابن المقفع قرأتها وهي التي قادتني إلى الكتاب نفسه إذ وجدت اسمه على كعب الكتاب عند أخي في القسم الداخلي الملحق بكلية الإمام الأعظم عند ساحة الشهداء في بغداد، وكنت أزوره بين الفينة والأُخرى، فتناولت الكتاب واصطحبته معي وكنت مهووساً تلك الأيام بالمنفلوطي، وأذكر أنني لم أنم حتى أتيت على الكتاب وقد مر هزيع من الليل عند أطراف الفجر ونهايات السحر.
ولا عجب! فأنا أقرأ منذ الصغر. منذ أن تعلمت الحرف. وكنت – وأنا في الصف الأول الابتدائي – أتابع لأخي محفوظاته المطلوبة منه، أمسك بكتابه وهو يسـرد على سمعي ما يحفظ من مواد مقررة في السنة الأولى من المدرسة الدينية الملحقة بجامع المحمودية الكبير، وكان اسمها (هيبت خاتون).
نشبت بي عادة القراءة منذ ذلك الوقت المبكر، وكنت في بادئ الأمر أقرأ كتب أخي المقررة في المنهج الدراسي، وكان متقدماً عليّ بعدة صفوف، خصوصاً كتب القراءة أو المطالعة والدين في مختلف المراحل، وأستمتع بما فيها من قصص وموضوعات مشابهة مثل لصوص البستان وملابس الإمبراطور الجديدة. وكم كانت تشجوني قصيدة الشاعر القروي رشيد سليم الخوري (أنشودة الغريب) التي وقعت عليها في العطلة الصيفية بين الصف الأول والثاني الابتدائي، وكانت أحد موضوعات (قراءة) الصف الخامس:
حتامَ أحيا غريبْ
مالي وطنْ
يا يومَ وصلِ الحبيبْ
أنتَ الزمنْ
للهِ ذاكَ النسيمْ
ما أطيبا
للهِ ذاكَ الغديرْ
ما أعذبا
للهِ تلكَ الطيورْ
ما أطربا
عن كلِّ شادٍ عجيبْ
ينفي الشجنْ
في شدوِهِ للقلوبْ
سلوى ومنّْ
هذه الياء الممدودة كأنها نغمة أنين تمتد وتطول بلا انقطاع، ثم هذه النون الساكنة التي عندها يسكن الأنين فجأة قبل أن يستأنف نواحه، وكيف يشكلان ثنائية يتكاملان فيه غاية التكامل.. فبعد أنة طويلة لا بد للنفَس أن يستريح، وللنشيج أن يترادّ روحه ثم يعاود دورته بين مد وقطع.. ومد وقطع؛ كأنها بكائية مأتم لا تنتهي حتى تبدأ. يجسم هذه المشاعر صورة الغريب المرسومة في صدر الصفحة جالساً على صخرة – كما أذكر – وبيده مسبحة وهو ينظر إلى الأفق البعيد الممتد عبر بحر لا ينتهي في انتظار سفينة قادمة لعلها تأخذه إلى الوطن. وقد لا تأتي (ليت أحداً عنده تلك الصورة يقرأ كلماتي فيرسلها إلي):
دهرٌ بقلبي رمى
سهمَ النوى
يكويهِ ربي كما
قلبي كوى
إياكِ يهوى الفؤادْ
يا أُمَّــــــــنا
من دونِ كلِّ البلادْ
أنتِ المُنى
يا هلْ تُرى مِن مَعادْ
يوماً لــنا
يا حسنَ يومٍ تؤوبْ
فيهِ السفنْ
نشتمُّ قبلَ الغروبْ
ريحَ الوطنْ
ثم تطور الأمر فكان لأخي مكتبة صغيرة فصرت أسرح وأمرح بين كتبها، حتى تلك التي لا أفهم من سطورها ما يستوعبه الذهن وتحتفظ به الذاكرة. من بين تلك الكتب (الطريق إلى الإسلام) للمستشرق الألماني محمد أسد، وكنت في الصف السادس الابتدائي، ولا أدري هل قرأته كله أم بعضه، وكانت تعجبني فيه قصة تيهه في صحراء الربع الخالي حتى أشفى على الهلاك، لا سيما حين يقرأها أخي بنفسه، وكان يجيد الإلقاء إذا قرأ إجادة عجيبة كأنه يضع فيها روحه، سواء في ذلك النثر والشعر. وما أطيب تلك المجالس التي كانت تعقد عفواً يقرأ علينا فيها من أشعار الجاهلية والمعلقات السبع وشعر الأمويين والعباسيين! وكم حاول نظم الشعر لكنه لم يفلح.
28/تشرين2/2013
هذا العبق زهري العطر فيه نسيم الصبا ةتغريد البلابل وعلوه كمأذنة تقف شامخة تدل التائهين يرسل ذبابات الوفاء بعدوى عجيبة وصدق من قال ان الانسان ابن ما يقرأ وهو فوق ذلك خريطة قراءة وبناء ذات تلتقط به صور المودة بين الشيوخ وكيف ترسمها وتوصلها بين الشباب ؟
والعجيب أن مآتم المقال ربيعة المطر آهاتها لا تبعث الوهن وكيف لا وهو تلميذ عمالقة الادب ورائديه الله الله لهذا المقال لكن ما ازعجنا منه انه قصير على عادة الكاتب يضع عند شجرة الجوري ويجعلك تنحني لشمها ثم يهمس لك همسة لطيفة بالرحيل فتبقى الروح معلقة وهذا نوع من التعذيب والسادية في الكتابة اذ لا زالت العين طامعة والقلب في شوق وأوتار الاعواد بدأت توا وأوراق الازهار وصور الجمال لم نشبع أعتدنا عليك كريما في المطعم ونطمع منك المزيد في القلم .
جميل .. كالمعتاد
حفظك الله وسدد خطاكم دكتور
جمع الله اليكم الفضل والحكمة والعلم مِنك تعلمنا.. أنّ للنجاح أسرار.. ومنك تعلمنا أنّ المستحيل يتحقّق.. ومنك تعلمنا أنّ الأفكار الملهمة تحتاج إلى من يغرسها في عقولنا.. إليك يا مَن كان له قدم السبق في ركب العلم والتعليم.. إليك يا من بذلت ولم تنتظر العطاء.. إليك أُهدي عبارات الشكر والتقدير.
شكر الله لكم حسن ظنكم
وسترنا واياكم في الدنيا والاخرة
اللهم آمين
قد يتسللُ الخوف الى جوفك عندما تنصدمُ ببعض الاشياء التي كنت لاتتوقعُ حدوثها، فمن تلك المواقف تخرُج اروع الكلام لتُصبح فيما بعد درساً يلازمك مدى حياتك، ومن الامور الجيدة التي تبعثُ في قلبك بعضاً من النور والطرقات التي تجتازُها عندما تقفُ ثابتاً امام كل ما تواجهةُ من صعوبات و مواقف، فحين تتعلمُ ستعرف مدى اهمية كلام جميل جدا عن الحياة الذي يلامس اعماقك ويجعلُك اكثر واقعية وفهم للحياة .
يا الله.. ما أجمل ما الذي خطه قلمك يا شيخنا
أحمد عبد مرزوق في الصورة اعلاه
كم هو طيب هذا الرجل واي عائلة كريمة هي عائلته.
وسيم وأنيق من صغرك دكتور.
الوقفة والنظرة تدلان على شخصية قوية وواثقة وقيادية.
بارك الله فيكم.
أيام جميلة مضت رسمت لنا شخصية نادره
لاعجب مما وصلت له من علم وحكمة فهي نشأت معك منذ الطفولة وهي حكمة الله لما هو مخبأ لك من مسؤولية في المستقبل.
بين الوجدان والعقلانية وشيجة في ساحة الذكريات.
واستطاعت هاتي الكلمات ترجمتها في أيام تمنيناها لو أن لم تبرحنا ونبرحها، ولكن قضى الله أن تذهب وتترك لنا ذكرياتها.
ذكّرني سبك عباراتك يا شيخ بما كتبه قائدي الأدبي فقال:
أما أنا فأحببتها حباً عقلياً، وكان هذا يشتد عليها، لأنه إشفاق لا حب؛ وكانت إذا سألتني عن أمر ترتاب فيه قالت: اجبني بلسان الصدق لا بلسان الشفقة. وكانت تقول: إن في عينيها بكاء لا تستطيع أن تذيله مع الدمع، وسيقتلها هذا البكاء الذي لا يبكى
الرافعي.
مقاله رائعه كالمعتاد شيخنا وما يزيدها روعةً المعنى الذي يتراقص على اسطرها ويدخل إلى ذهن القارئ كأنهُ موسيقى تتراقص على اسطرها النغمات العذبه تدخل إلى ذهن سامعها وقلبه…بارك الله فيك شيخنا الفاضل وحفضك الله وأطال بعمرك ووفقكم الله
سبحان من اعدك لزمن التيه الذي أعجز الأمة عن الحلول الجذريه الفكرية التنضيرية ،
لتكون قدراً من اقدارة واول الميدان انك تحب المطالعة شغفاً ….
موفقين شيخنا الفاضل على هذه الصور الرائعه
اقادار الأله كيف تراعى من يكون قدراً
للإصلاح والتجديد في زمن التشتت والتية وحينما نجمع بين الطفولة والكبر كأنها خطة متكاملة وضعتها أيدي الفطرة السليمة لتنفذ بعد الوعي والإدراك… حفظك الله شيخنا الفاضل
منذ طفولتك وطبعك مختلف كثيراً
بمحيطك والناس من حولك.
المجتمع حولك بعيد عن الله
وأنت تحب القرب منه سبحانه
وأيضا حبك للقرأة والمطالعة أثمرت
صفات نادرة في شخصيتك رغم صغر سنك.
نعم هناك محفز لديك مثل اخيك الكبير الشيخ نوري – رحمه الله –
والخال المربي ملا إبراهيم – رحمه الله – لكنَّ الله رزقك فكرًا ومنهجًا ربانيًا عظيمًا
وامتلكت مفتاحي فهم الدين: نصرته وحمل قضيتة.