الأيام الخواليديوان القادسية

صديقي أحمد/3-3

بدايات الكتابة وأشياء أخرى

د. طه حامد الدليمي

بدايات الكتابة

وجاءت فترة التقليد فصرنا نحاكي فيها ما نقرأ، فنكتب مقالاً أو قصة قصيرة وما شابه ذلك. كانت – بلا شك – محاولات ساذَجة كما تقضي طبيعة الأمور. وكنت معها أكتب الشعر. تفوق أحمد في القصة، حسب تقييمنا نحن الاثنين، واستعصى الشعر عليه، بينما قطعت أنا في طريقه شوطاً ليس بالقليل.

أما درس الإنشاء فكنا متفوقين فيه على بقية الطلاب، وإن كنت أفوق فيه صاحبي في الدرجة معظم الأحيان أو نتساوى في بعضها. تعلمت سر كتابة الإنشاء قبل ذلك بسنين يوم كنت في الصف السادس الابتدائي. طلبت من أخي يوماً أن يتولى هو كتابة موضوع الإنشاء الذي وضع (استاد نور) عنوانه وكلفنا كتابته كوظيفة بيتية. لم أعد أذكر هل كان المعلم يدلنا على كيفية التعبير، والفرق بين الكتابة الأدبية والعلمية، فكنا ننظر لموضوع الإنشاء نظرة علمية ترى منه جانبه المادي المجرد؛ فلو أردنا أن نكتب عن النخلة – مثلاً – جاءت الكلمات تصف جذعها وطولها، ومم تتكون؟ وموسم جني ثمارها. أما أن يجمح بنا الخيال إلى تمايل سعفها مع النسيم، واهتزازها طرباً لتغاريد الحمائم، وهسهسات العنادل بين الغصون، وننزل إلى الأرض نتلمس آثار فلاح متعب أوى إلى ظلها عند الضحى.. وشرب من ماء الساقية الذي يترقرق عند ساقها، فهذا ما لم نتعلمه في المدرسة، وذلك من تقصير المعلمين.

كتب لي أخي الموضوع، فأدهشتني طريقة التعبير! خيال وتهويم، وعاطفة وشجن.. والحديث كله عن الجانب الجمالي من الأمر؛ إنه يتحدث عن ظل الشيء، لا الشيء نفسه! وما زلت أذكر عبارة يصف فيها دخان السيجارة وكيف يتشكل في فضاء الغرفة ويمتد.. ويتلاشى.. ولا أدري عنه بعد ذلك شيئاً! كانت نقطة تحول في حياتي الأدبية، ومنذ ذلك اليوم بدأت رحلتي مع الكتابة تأخذ منحى آخر.

الشجاعة الأدبية

قال لي أحمد يوماً: أنت لا تجيد كتابة القصة فدعها لي. وانصرفْ إلى كتابة الشعر. ربما أصاب الحقيقة. لقد كان يجيد كتابة القصة أفضل مني، كإجادته الكلام ولباقته فيه. فهو – على صغر سنه – لا يهاب مشاركة الكبار في أي شأن من الشؤون مهما كان المجلس كبيراً، ويأتي بمعانٍ لافتة للنظر وتعابير محبوكة دون تردد ولا تلعثم. وكنت أدانيه في هذه الخصلة، وإن كانت نبضات قلبي تتسارع وأشعر بنوع من الحرج كلما حاولت الحديث في جمع من الكبار، لكن ما كان ذلك يصدني عن المشاركة، والصدع بالرأي الذي أعتقده في معظم الأحايين. يبدو أن ذلك كان غريباً على تقاليدنا؛ فكثيراً ما كان أخي الكبير يسكتني بإشارة من فمه أو خزرة من عينه. وقد أثر ذلك في نفسي كثيراً وترك بصمات ما زلت أعاني من آثارها! وأرى أن هذه طريقة في التربية والتأديب سيئة، تجعل الطفل يشعر بالتردد من التعبير عن رأيه، وربما سبب له ذلك شعوراً بالنقص فأدى به إلى العزلة والانطواء لا سيما إذا كان ذكياً وحساساً. وأعتقد أنه لولا نفسي المتمردة القوية لأصبت بهذه الحالة المرضية. لذا أوصي الآباء بعدم إسكات الأبناء إذا تكلموا، بل تشجيعهم على التحدث في المجالس. وإن تجاوزوا القدر الذي يسعه المجلس استعملوا أساليب غير مباشرة في صرفهم عن الكلام.

إن هذا التردد – كما أظن – شائع في مجتمعنا، سيما بين الشباب في مقتبل العمر. ومن شواهد ذلك أن معاون عميد الكلية التقانا يوماً نحن طلاب المرحلة الأولى في كلية الطب؛ لتفقد حاجاتنا ومشاكلنا. فاستأذنت للكلام وقمت من وسط القاعة، وكانت مقاعدها على شكل مدرج، وشكوت له د. جوزيف (أحد الأساتذة) وكيف أن طريقته في التدريس سيئة جداً؛ يلقي بالدرس دون اعتبار لكوننا فهمنا أم لم نفهم. وقد آذانا كثيراً. فوصفت لمعاون العميد تلك الطريقة وبينت له فشلها قائلاً: نحن نمثل خلاصة الأذكياء في العراق، أفيعقل أن 60٪ منا يرسب في الامتحان وفي مادة الدكتور جوزيف دون سواه؟! وحتى لا يفهم الأمر على أنه شخصاني أخبرته بأنني من ضمن الناجحين لا الراسبين. إذن السبب في الأستاذ وليس فينا. فتوجه المعاون إلى الحضور ليرى رأيهم فيما قلت؟ فإذا الأيدي كلها ترتفع مؤيدة، وكان عددنا يُنيف على أربعمئة طالب وطالبة، بل منهم من رفع يديه الاثنتين! فشكرني وأثنى على شجاعتي الأدبية. وقد أثمر هذا الموقف، وكانت النتيجة أن غيرت العمادة ذلك الأستاذ وعينوا لنا أستاذاً آخر مكانه. وبعد انتهاء الاجتماع جاءني عدد ليس بالقليل من بين الطلبة يسلمون عليّ ويشكرونني على جرأتي، مع أنني أرى أن الأمر لا يستحق كل هذا.

عامل بناء

كان أحمد ذا شخصية اجتماعية، وقوية أيضاً. يجيد أموراً عديدة في وقت واحد ويتفوق فيها. فحين كنا في العطلة المدرسية الصيفية نعمل في البناء كعمال، سرعان ما أتقن أحمد الصنعة فصار (أُسْطة) أي بنّاء. بينما بقيت إلى النهاية عاملاً أحمل (طاسة) الجص أو الاسمنت، وأناول (الأُسطة) قطع الطابوق. وكثيراً ما خرجت إلى (المسطَر)، وهو مكان تجمع العمال، وكان موقعه في وسط المدينة عند الفلكة أو الدوّار الوحيد فيها، ثم رجعت صفر اليدين لم أعثر على عمل.

ذات خرجة اختارنا أحد المقاولين لترميم السجن الوحيد في المدينة، وهو في مركز الشرطة. وبعد ساعة بدأ التلكؤ على وجه أحمد ثم رمى بالفأس التي كان يكشط فيها بياض الجدار وأعلن الإضراب عن العمل. قلت له: ما بك؟ قال: هذا لا يجوز؛ كيف نكون عوناً للظلمة على ظلمهم؟ وتركني ومضى. واستمررت في العمل حتى نهاية اليوم. ثم بعد سنين أوقفت في السجن ثمانية أيام لحادث ارتكبته على دراجتي البخارية كاد يودي بحياتي! وكأنها ثمانية أشهر لطولها؛ لا أدري لعلها عقوبة القدر على فعلتي تلك! كان السجن يغص بالمعتقلين بحيث لا تجد موضع شبر فيه، ولم أحصل على مكان إلا بعد أن دفعت خمسة دنانير لمن فسح لي مجالاً لكي أتمكن من وضع جنبي على الأرض، والمساجين يحيطون بك من كل جانب وفي جميع الاتجاهات بحيث يصعب عليك أن تقلب بدنك، أو تحركه كما تريد! وليس بمستغرب أن تستقر قدما سجين عند صدرك، وبعضهم لا يجد إلا مكاناً لظهره وأما رجلاه فيرفعها مع الجدار، وبعضهم ليس أمامه سوى أن يتمدد على جدار الخلاء المخصص لقضاء الحاجة! وقد رأيت بعضهم قضى الليل قياماً – وكنا في الشتاء – في يوم غص به السجن بالموقوفين! وعجبت لهذه القسوة وهذا الظلم! وحين خرجت بعد تلك الأيام التي امتدت وطالت كشهور شعرت كأنما خرجت من ضيق القبر إلى سعة الدنيا!

قصتي مع التدخين

كان أحمد يعاقر الدخان، وكثيراً ما نجتمع للقراءة ومعنا آخرون معظمهم من المدخنين، وكان الكرم يلزم أي واحد من الجمع عندما يتناول سيجارة من علبته أن يشمل بذلك الجميع. فكنت أتناول أحياناً الواحدة والاثنتين. وكان ابن خالي محمد من عتاة المدخنين، فأعداني فكنت أدخن معه، ولكن خلسة من الأهل والأقارب. يشتري علبة خفياً من أهله ثم يطمرها في خص من أخصاص الحقل أو ما شابه من المواضع المناسبة، ثم يسلت منها الواحدة بعد الأخرى على فترات. فإذا التقيته لا بد أن أصيب معه الواحدة والاثنتين.

ذات غدرة من تلك الغدرات كنت مشعلاً سيجارة فتوقفت سيارة على الطريق المقابل لبيتنا، وعرفت أنه أخي رجع من المسجد – وكان يبعد عنا بضع كيلات في مدينة (اجبلة)، ونحن في ريف (الخربانة)، وهو أحد الأنهار المتفرعة عن نهر (مشروع المسيب الكبير) – بعد أن أدى صلاة العشاء. عزَّ علي أن أرمي بها؛ فالسيجارة ما زالت في أولها. فوقفت عند زاوية الحجرة من الخارج في مواجهة الدرب الصغير المرسوم بين الأشواك، الذي توقعت أن أخي سيسلكه إلينا، مُخفياً السيجارة وراء ظهري فإذا أردت أن أمزها لويت عنقي ففعلت حتى إذا وصلني كنت قد أتيت عليها وألقيتها دون أن يشعر. فالظلام مخيم حيث لا كهرباء في ذلك العهد في الريف، ولا فانوس يشعل في ليالي الصيف، إلا ما ندر. وكانت المفاجأة عندما التفت إلى الخلف وقد أعدت السيجارة تواً في فمي فإذا أنا بأخي وجهاً لوجه! يا للهول! “ها ولك طه اشْجاي تسوي!”. وكانت فضيحة لا أحسد عليها.

وهكذا بدأت أمارس التدخين. وبعد أن كنت أشرب دخينة أو دخائن قليلة في اليوم وأشتريها مفردة، تطور الأمر في السنة الأخيرة من الثانوية إلى أن صرت أشتري علبة أنفضها في يومين! إذن صارت هذه العادة تنشب بي وسأكون من المدخنين، وأنا لا أريد ذلك. وبدأ ناقوس الخطر يدق في داخلي، فماذا أفعل؟ كانت آخر سيجارة شربتها في قاعة الصف الأخير من الدراسة الثانوية قبل الكلية، وذلك في يوم 31/12/1978؛ فقد أقسمت مع نفسي أن يكون العام القادم كله خالياً من التدخين. ومر العام وكلما راودتني نفسي تذكرت القسم حتى إذا انجلت أيامه كنت قد تخلصت كلياً من هذه العادة السيئة ولله الحمد الذي ألهمني كيفية الخلاص من عادة اجتماعية سيئة لا تليق بمن يحمل قضية ويؤدي رسالة.

18/12/2013

 

اظهر المزيد

‫7 تعليقات

  1. سبحان الله كأنك كنت تعد نفسك لحمل قضية أمة وترسم معالم الشخصية المطلوبة لمثل هذه المسوؤلية. أسأل الله أن يجعلنا لك عونا فهذه كرامة لاتتحاح للجميع.

  2. حديث ممتع جدا وانا اقرأ المقال و الابتسامه لاتفارقني حتى انهيته
    الاسلوب الادبي الراقي في سرب الأحداث ، بروز السمات القيادية في مراحل متقدمة من العمر الله يحفظكم

  3. اعجبني جانب المقال وهو مشاركة الكبار في الحديث وابداء الراي وعدم السكوت فهاذا ينمي فكر الانسان ويطلق لباقة الكلام وعدم إسكات الطفل عن إبداء رائيه
    وكذلك كيف يتخلص الانسان من عاده سلبية لأكتساب عادة ايجابية منمية للشخصية
    والحمد لله على البصيرة .

  4. درس عظيم في التربية، علتنا ان نسكت الصغير ونترك معه عقدة تلازمه طول عمره، تجعله يخشى الحديث ويتردد في ابداء الرأي، واذا كانت هذه تجربة رجل في مجتمع شرقي، فكيف ستكون تجربة المرأة!! لا أراكم الله مثلها، ولا جعلكم تكابدون ألمها طول العمر!
    اضحكتني عبارة درس الانشاء وانك كنت متفوق، بالتأكيد فأن لم تكن انت!، فمن سيكون؟1، وللمزحة، فقد كنت متفوقة دوما في درس الانشاء، رغم انني لست موهوبة كما أنت، ولم تكن القراءة متاحة للبنت، حركتها محدودة، وذهابها للمكتبات معدوم اصلا!!، هذا بالاضافة الى منع الكتب من التواجد بين يدي البنات في البيوت المحافظة خوفا عليهن من قراءة قصص وروايات عاطفية!!!
    جعل الله ايامك كلها جميله، فقد كانت رحلة ممتعة الى ذلك الزمن الجميل.

  5. الجميل في كتاباتك عن حياتك الشخصية هي وصف الأمور كما هي فلا تجنح فيها للمثالية بل تكتب سطوراً للاحقين أننا بشر أولاً وآخراً نفعل ما يفعله الكثير لكننا نتعلم ونتطور ولا نصر على الخطأ وهذا هو مجريات الأحداث وهذا نهج قرآني في التربية بالايجابيات والسلبيات.
    وفقك الله تعالى وأطال الله في عمرك وتقبل منك صالح العمل

  6. السيرة ممزوجة بأداء رائع ومتنوعة الأتجهات (ك الفاكهة مثلاً) ففي كل نوع منها فائدة يتأثر بها جسم الإنسان من نشاط وحيوية وصحة في البدن،، وكذلك هذه السيرة هي بين صديقين فهموا أن للحياة عبر ومواقف وقيم ثقافية وأبداع ومثابره وأصرار وجهود مبذول ….
    وكل خطوه من أخطائهم فيها تصحيح مسارهم ..!
    وفي نفس الوقت ومنذوا صغرهم كان الطموح يلازمهم للوصول إلى غايتهم …وبين كل ضروف الحياة التي مروا بها كان النجاح يرافقهم بأجمل صورة

اترك رداً على شمعة مضيئة إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى