الأيام الخواليديوان القادسية

أشخاص تأثرت بهم..الشيخ سامي رشيد الجنابي/1-3

 

د. طه حامد الدليمي

 

كنت في الصف الأول المتوسط أدرس في مدرسة ثانوية دمشق في بداية حي المهدية الثانية من قضاء الدورة، وآوي عند أعمامي في نهاية الحي قريباً من جامع التقوى (لم يكن آنذاك موجوداً). ومن هناك كنت أذهب أحياناً لزيارة أخي الشيخ نوري في القسم الداخلي، وكان طالباً في كلية الأمام الأعظم الكائنة في ساحة الشهداء عند (الجسر القديم) وسط بغداد من جانب الكرخ. وكانت غرف القسم الداخلي تحتل الطابق الثاني من البناية.

ذهبت إليه يوماً من أيام خريف عام 1973 فلم أجده، فانتظرته في أحد غرف القسم ريثما يرجع. رآني أحد الطلاب وكان يرتدي جبة وعمامة فأظهر استغرابه من لبسي البنطال والقميص واستهزأ به، قائلاً: إن الأولى بالمسلم لبس الدشداشة أو الثوب. امتعضت من هذا الموقف الغريب. لا أذكر ماذا أجبته؟ أو التزمت الصمت؟ ثم انصرف الطالب. بعد قليل دخل طالب آخر يرتدي الدشداشة والغترة. نظر إلي وحياني مبتسماً بحنو وكأنه يعرفني منذ زمن طويل. كانت عيناه كأنما تشعان بالنور، وترسلان موجات خفية لكنها جاذبة كالمغناطيس. ثم جلس إلي يكلمني بكلمات راقية، مشجعة، وخاطبني بلغة تظهر الود والتقدير لمن تخاطبه، وتغرس الثقة بنفسه بقوة. أهدى إلي ثلاثة كتيبات صغيرة بتوقيعه: أحدها في العقيدة على شكل أسئلة وأجوبة والثاني (أيها الولد) والثالث (منهاج العارفين) وكلاهما للإمام أبي حامد الغزالي. يكفيك من تأثري به أن تعلم أنني ما إن رجعت حتى بدأت بحفظ القرآن الذي نصحني به. وقد كانت موعظته مؤثرة إلى حد أنني أتممت مع نفسي حفظ جزء (عم) ونصف من جزء (تبارك) قبل نهاية السنة الدراسية.

مرت السنينُ يتلو بعضها بعضاً حتى دخلت كلية الطب، وهناك صادقت أحد الطلاب من سكنة شارع فلسطين في رصافة بغداد فكان يحدثني عن خطيب المسجد القريب منهم (مسجد الحاجة فوزية) بإعجاب شديد. دفعني لأن أصلي عنده إحدى صلوات الجمع.

كان أول شيء جلب انتباهي عند دخولي المسجد وجود حوالي ثلاثين شاباً في مقدمته منصرفين لقراءة القرآن الكريم. وكان هذا المشهد غير مألوف في المساجد في ذلك العهد؛ إذ غالب روادها من الشيبة وممن تعدى عمر الشباب. وخطب الشيخ فلم تكن خطبته تقليدية، أما أداؤه فكان رائعاً جذاباً. لم أجد شبيهاً له إلا ما كان من الشيخ المصري محمود غريب إمام وخطيب جامع البنية. حدثت أخي نوري حين عودتي عن هذا الشيخ، فقال: نعم أعرفه، كان معي في الكلية. ولا أدري كيف تذكرت فقلت: لعله ذلك الذي رأيته في القسم الداخلي قبل سنين! وقمت أفتش بين الكتب فعثرت بالكتيبات التي أهداها لي يومها فإذا عليها اسمه (سامي رشيد) وتوقيعه! ومؤرخة بتاريخ 23/11/1973.

منذ ذلك الحين توثقت العلاقة بيني وبين الشيخ سامي، وأكثرت من التردد عليه في المسجد، وفي بيته، وكنت أزوره بعض الأحيان مع أخي. وزارنا هو في بيتنا في ريف (جبلة)، وزارنا ثانية فحل ضيفاً على خالي إسماعيل وكنا نسكن بجواره هناك.

أحببت الشيخ حباً جماً وتعلقت به روحياً وعلمياً. شدني بعلمه وشجاعته في قول الحق، وسمته وخلقه وكرمه. وكان له أكبر الأثر في تكويني العلمي والإيماني والدعوي. كما كان يتفقد أموري وأحوالي كما يتفقد الأخ أخاه الصغير.

عند باب المسجد

سألت الشيخ في بدء علاقتنا عن الارتياح الذي ينتاب المرء جراء مدح الناس له على ما يفعله، وكان الشاهد قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران:188)؛ فالآية توعدت من يحب أن يحمد بما لم يفعل، فهل الذي يحب أن يحمد بما يفعل معرض للوعيد؟ ما زلت أذكر موقفي ذاك بعد صلاة العشاء في باحة المسجد وكأني به الآن يتحلق حوله بعض الشباب قرب الباب القبلي عند حجرة الإمام! قال لي: ذم من يحب أن يحمد بما لم يفعل لا يعني جواز حب الحمد على ما يفعل. ثم أعارني كتاب (مختصر منهاج القاصدين) لابن قدامة المقدسي، ونصحني بأن أبدأ بقراءته من (ربع المهلكات). وهو الجزء المخصص لأمراض القلوب وما تعلق بها من مهلكات الذنوب. وأخذت الكتاب معي إلى حيث أقيم في بيت أخي في (جبلة)، وكانت لنا معه جولات تركت في نفوسنا آثاراً بالغة.

بل شكل الكتاب انعطافة جوهرية في حياتي لا أستبعد أنها شاركت مشاركة فاعلة في التفكير جدياً في تغيير نمطها من شاب يطمح إلى أن يكون طبيباً ويحقق أمنية والدته وأهله في ذلك، إلى رجل يحدث نفسه: الدنيا قصيرة لا تعدو لمحة خاطفة في ضمير الزمن، وقد خلقت لغيرها، وهي الآخرة، لا لذاتها، ونحن نعيشها مرة واحدة ثم نغادرها إلى الأبد؛ فمن العقل والسعادة أن يعمل فيها الإنسان أعظم ما يمكنه من عمل يحقق به أعلى ما يمكنه من درجات في حياته الأبدية. ثم يسأل نفسه هذا السؤال: ما هو ذلك العمل؟ ويجيب: النبوة ختمت، فما الذي بقي منها؟ وراثتها ولا شك. فما أعظم ميراث تركه النبي صلى الله عليه وسلم؟ تعليم الناس الخير، أو الدعوة إلى الله تعالى تحقيقاً لواجب الجهاد في سبيله. وكان قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي قرأته تلك الأيام في كتاب (رياض الصالحين) عَنْ أبي أُمَامة رضي الله عنه أنَّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «فضْلُ الْعالِم على الْعابِدِ كَفَضْلي على أَدْنَاكُمْ» ثُمَّ قال رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّه وملائِكَتَهُ وأَهْلَ السَّمواتِ والأرضِ حتَّى النَّمْلَةَ في جُحْرِهَا وحتى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلى مُعلِّمِي النَّاسِ الخَيْرْ»([1]). كان هذا الحديث حاضراً لدي بقوة. ولكن أنى لي ذلك ودراسة الطب ومهنته أو وظيفته تحول بيني وبين الانصراف إلى هذه المهمة الشريفة التي هي أشرف المهام وأعظم الوظائف؟

فكرت جدياً في التحول إلى كلية الشريعة، وعندما سعيت إلى ذلك في السنة التالية حالت القوانين بيني وبينها؛ إذ لا يسمح بذلك ما دام أن الطالب تجاوز السنة الأولى من دراسته. وظل هاجس دراسة الشريعة يُلح علي فكررت المحاولة في السنة الخامسة وراجعت عبثاً وزارة التعليم العالي فلم أفلح. وكان شيئاً عجباً جعل كل موظف في الوزارة أمر عليه يبحلق في وجهي ويستغرب طلبي! أيعقل أن طالب طب في مراحله المنتهية يريد ترك دراسته التي يتمناها كل شاب في العالم، إلى كلية الشريعة التي لا يذهب إليها، عادة، إلا من خانه معدل درجاته فلم يجد غيرها! ولم يكن من السهل أن يفهم الآخرون موقفي لو شرحته لهم؛ فلذلك كنت أكتفي بالصمت.

 

دراسة العلم الشرعي

تطورت العلاقة مع الشيخ سامي وانتقلت من مجالها العام إلى عالمها الخاص، فكنت أزوره في بيته الملاصق للمسجد، وكثرت زياراتي له حتى كنت أبيت عنده في بعض الأحيان.

وانتظمت قراءاتي على يده وأخذت وضعها الطبيعي في دراسة علوم الشريعة على اختلافها من أصول وفروع. وكانت طريقة الدراسة أن يعيرني كتاباً أو أكثر أقرأه مع نفسي وألخصه في دفتر وأقيد ملاحظاتي وأسئلتي في ورق، ثم أرجع إليه ليجيبني عن أسئلتي ونتناقش في الموضوعات التي قرأتها، ويصحح لي ويزيدني مما علمه الله. ثم يعيرني كتباً أُخرى أقرأها ثم أعود إليه… .

وهكذا قرأت على الشيخ شتى العلوم كالعقيدة والإيمان والسلوك والفقه وأصوله والتفسير وعلوم القرآن وأصول الحديث وأصول الدعوة وآدابها وغيرها. وكنت أتوسع في ذلك فأقرأ في أصول الفقه – مثلاً – عدة كتب أو مصادر، فقرأت (الوجيز في أصول الفقه) للدكتور عبد الكريم زيدان، و(علم أصول الفقه) للشيخ عبد الوهاب الخلاف، وهو يشبه (الوجيز) لكنه مختصر وسهل المأخذ. كما قرأت (مذكرة أصول الفقه) لمحمد أمين بن محمد المختار الشنقيطي صاحب تفسير (أضواء البيان)، وتعمقت كثيراً في قراءة كتاب (الموافقات) لأبي إسحاق الشاطبي، وقد أعجبني جداً، كما أعجبني كتابه الآخر (الاعتصام) الذي دفعني إلى تأليف كتاب عن (السنة والبدعة) مستل منه بعد التخرج من الكلية بقليل، ضاع مني في دهاليز الزمن ومنعرجات التنقل من دار إلى دار!

وضاع معه من مؤلفات تلك الفترة كتابان أحدهما ما زلت أذكر اسمه (سبيل النجاة في توحيد الأسماء والصفات) وقد حرصت على إبراز الجانب العملي في هذا الأصل العظيم، والآخر في (توحيد الربوبية والألوهية) أسميته (اللآلي المضية من كلام علماء الملة المرضية في توحيد الربوبية والألوهية). وكنت قد أرسلت مخطوطته إلى الشيخ عبد المجيد السلفي في كردستان فكتب عليه تقريظاً بخط يده رحمه الله. كما ضاعت لي رسالة صغيرة في التوسل والتعليق على شروط كلمة التوحيد.

وقد أشار الشيخ سامي إلى هذه العلاقة البينية والعلمية في صفحته على (الفيسبوك) فقال: “وكنا نعقد مجالس للعلم تمتد أحياناً إلى الفجر ما يزال عبقها وذكراها ماثلةً الى اليوم”([2]).

 

26/3/2014

 

 

[1]–  رواهُ الترمذي وقالَ: حَديثٌ حَسنٌ.

[2]http://justpaste.it/samialjinaby في 19/3/2014.

 

اظهر المزيد

تعليق واحد

  1. ما أجمل هذه المراحل الربانية التي عشتها وتبنيتها حتى أصبحت قضية تخاطب العالم الإسلامي ولأنساني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى