أشخاص تأثرت بهم .. الشيخ سامي رشيد الجنابي/2-3
د. طه حامد الدليمي
كنت شديد النهم للقراءة، ولدي رغبة في حفظ المتون حتى إنني حاولت حفظ (ألفية السيوطي) في النحو أو علم الحديث، ما عدت أذكر أياً منهما شرعت في حفظها، لكنني تركته بعد قليل. وقد حفظت متن (كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد) للإمام محمد بن عبد الوهاب، وكنت أتدارس شرحه (فتح المجيد) لحفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن مع بعض الإخوة وأدرسه لآخرين. كما أتدارس مع زميلي في الكلية الجبوري تفسير ابن كثير، ونحفظ بعض أحاديث (رياض الصالحين) لشرف الدين النووي. وتدارسنا أيضاً طائفة كبيرة من (شرح العقيدة الطحاوية) لابن أبي العز الحنفي، وغيرها من أمهات الكتب ما عدت أذكرها. وتدارست مع غيره بعض أبواب (الروضة الندية) في الفقه لمحمد صديق خان القنَّوجي وغيره من كتب الفقه. ودرست علم الحديث وكيفية التخريج والتحقيق على يد الشيخ إياد عبد اللطيف القيسي، وكانت طريقته في التدريس القراءة في كتاب (السلسلة الضعيفة) للشيخ ناصر الدين الألباني، والتعليق عليه ومناقشة ما يرد فيه من مصطلحات حديثية ومسائل مهمة. ودرست شيئاً من أصول الفقه على يد الشيخ رعد عبد العزيز (أبي براء) في كتاب (الوجيز). كما درستُ عليه ما يقرب من نصف كتاب (الباعث الحثيث) للشيخ أحمد شاكر. كل ذلك أحمله في جعبتي وأنقله للشيخ سامي للنقاش والمداولة والتلقي فيتهذب ويثبت ويرسخ.
كان الذي وضع في ذهني فكرة حفظ المتون أخي الشيخ نوري؛ فقد كانت هذه طريقتهم في الدراسة الشرعية الأولية. وأذكر أنه تولى تحفيظي وأنا في الصف الثاني الابتدائي بداية متن (الأجرومية) لأبي عبد الله محمد الصنهاجي في النحو. وقد استفدت كثيراً من أخي في الأدب والنحو وعلوم اللغة فقد كان ولعاً بذلك، وتخصص به فيما بعد. كما درست عليه (أصول التجويد) في ثلاث جلسات في حجرته (غرفة الإمام) في مسجد جامع مشروع المسيب الكبير في (جبلة).
ومن لطيف ما يذكر أن أول معرفتي بالتجويد كانت عرضاً وعمري حوالي عشر سنوات، كنت ألهو في ربعة أخوالي الطينية في (البطين) وكان أخي الشيخ يلقي درساً علمياً على صديق له اسمه محسن علي الداود (صار ضابطاً بعد ذلك)، يعلمه (الإخفاء). لفتت انتباهي لأول مرة ما أسمع من معلومات وكيفية تطبيقها وهما يقرءان في سورة (الملك) فجلست أستمع إليهما دون أن ينتبها إلي، وتعلمت شيئاً من قواعد (الإخفاء) وطفقت أمارسها عندما أقرأ القرآن. كانت حافظتي في ذلك العهد متوهجة تلتقط كل شيء ولو جرى استثمارها كما ينبغي في دراسة العلم الشرعي منذ تلك الأيام لحزت علماً جماً.
قرأت في التفسير كثيراً من (تفسير القرآن العظيم) لابن كثير الدمشقي، و(في ظلال القرآن) لسيد قطب إلى بدايات تفسير سورة (الأنعام) ثم صرت أقرأ فيه مفرقاً فأتيت على نصيب كبير منه، وقد أثر في كثيراً: علماً وإيماناً. وتعلمت منه شيئين: كيف أقرأ القرآن الكريم وأنزله على الواقع، والترابط العضوي بين موضوعات السورة. وقرأت (دقائق التفسير) و(مقدمة في أصول التفسير) كلاهما لشيخ الإسلام ابن تيمية. وقرأت (التفسير القيم) لابن قيم الجوزية. وغيرها من كتب التفسير، وكنت كثيراً ما أطالع في تفسير الطبري (جامع البيان) و(روح المعاني) للآلوسي، وتفسير المراغي وغيرها من التفاسير.
ومن أهم كتب التفسير التي استفدت منها (صفوة البيان لمعاني القرآن) لشيخ الأزهر حسنين محمد مخلوف، ولخصت وحفظت كثيراً منه، وكنت في الوقت نفسه أقرأ في كتاب (شرح مفردات القرآن) للراغب الأصفهاني، وتبين لي أن الشيخ مخلوف اعتمد كثيراً عليه، وأنه تجنب ما شابه من تفسيرات أشعرية. ثم أولعت بالتفسير الموضوعي للقرآن ومن أفضل ما قرأت فيه كتاب (النبأ العظيم) للشيخ محمد عبد الله دراز، كما لا أنسى دور (الظلال) في هذا المضمار؛ إذ كان كبيراً وعميقاً يتميز بجعلك تعيش الواقع من خلال القرآن، أو تعيش القرآن من خلال الواقع. لقد فسَّر القرآن بقلبه قبل فكره وأحاسيسه قبل نظره . (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) . وصدق ذلك الصحابي الجليل الذي قال: (تعلمنا الإيمان قبل القرآن فلما قرأنا القرآن ازددنا إيماناً). فأنت ترى في (الظلال) أرواحاً تمشي في الناس.. لا أجساداً تتحرك وسط الزحام. هكذا ينبغي أن يقرأ القرآن ويفسر ويفهم.
ولا يدرك مرامي القرآن ومقاصد كلامه من لم تتملكه روح شاعر وإن لم يكن شاعراً بالفعل والنظم. ومن هنا جاء التنويه بالشعور في ثنايا الذكر الحكيم. ولا أراني أعدو الحقيقة إن قلت إن القرآن شعر لا كالشعر جمع روح الشعر وحقيقته ومعناه على أروع صورة وأفضل منوال.
مشكلة الشخصية الحرة
رزقني الله تعالى شخصية حرة، لا تتأثر كثيراً بالخلافات الفكرية التي تعج بها الساحة داخلياً وخارجياً، فتعزلني عن خير أراه في هذه الجهة أو تلك الفئة، وإنما أحاول أن أتبين الحق وأتلمس الحقيقة وأتبعهما مهما كان مصدرهما. شخصية غير قابلة للتأقلم داخل الأواني المحددة، أو التنفس داخل القواقع الضيقة، ولا التشكل طبقاً لهيئاتها المصممة كبصمة عصية على التغيير والتطوير.
وضعني هذا أمام مشكلة ليست سهلة في زمن حزبي فئوي لا يتقبل إلا من حزبه وفئته، يصدق عليه قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ) (البقرة:91)، وهي إحدى خصال الجاهلية التي ذكرها الإمام محمد بن عبد الوهاب في كتابه (مسائل الجاهلية)! ولا يتصور وجود فكر عابر للأسوار، لا يطيق القيود، لديه قدرة على التعامل مع ما في داخلها دون التقيد بالإطار.
لهذا احتار الكثيرون؛ فمنهم من عدّني إخوانياً، ومنهم من حسبني على السلفيين، ومنهم من نسبني إلى القوميين، ومنهم من قال غير ذلك. وكنت أقول – وما زلت – أنا لست من هؤلاء جميعاً؛ بمعنى الانتماء الفئوي الضيق، وأنا منهم جميعاً؛ بمعنى الالتقاء معهم على الحق الذي أراه أينما كان أولاً، وعلى التعاون معهم على البر والتقوى ثانياً. مع الانتباه إلى عدم الوقوع في المطبات الظاهرة، والانزلاق إلى الدهاليز الخفية.
سألني أحدهم على أحد مواقع التواصل: إلى أي العناوين التالية تنتمي أنت؟ ضحكت وقلت مع نفسي: ما هذا التفكير الضيق! ألا يمكن لشخص ما العيش خارج قمقم؟ كيف ولا قمقم يتسع للأحرار! ثم لم لا أكون عندك جديراً بعنوان جديد؟ هل هناك زيادة تميز تلك العناوين؟ أرني إياها؟ وبعد فنحن أصحاب فكر ومنهج ومشروع جديد مكتوب ومنشور يراعي الوحي الثابت من جهة، وينظر إلى الواقع المتغير من جهة؛ فيطور الفكر.. ويفهم الوحي فهماً متجدداً ينتظم الواقع ويضمه تحت جناحيه الواسعين الناميين أبداً. يلتقي ويتلامس مع بقية العناوين، ولا ينظر إليها نظرة عداء كأصل، ولا انتماء كشرط. بل نظرة تعاون على البر والتقوى، فيها التواصي بالحق والرحمة بالخلق. ومن أراد أن يضم الجميع فليكن لهم أرضاً فيها ينبتون وسماء فيها يحلقون. وإلا فالتعاون على الحق المشترك بين الجميع. وصدق شيخ الإسلام حين وصف أهل السنة فقال: “يعلمون الحق ويرحمون الخلق”.
شيخ الإسلام
كانت مؤلفات شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم تطغى على قراءاتي في تلك المرحلة. واستفدت منها أعظم الفائدة في شتى العلوم والأعمال والسلوك؛ فهي بحق خزانة العلم وجواهره، من لغة وأدب وتفسير وفقه وحديث وغيرها أصولاً وتقعيداً وفروعاً وتفصيلاً. وقد أدركت أسراراً للغة العربية – مثلاً – لم أجدها في غير تلك المؤلفات. كتاب (الإيمان) و(الإيمان الأوسط) لابن تيمية مثال شاخص لما أقول. فقد أودع فيه من أسرار العربية ودقائقها ما لا يستغنى عنه في فهم لغة العرب وإدراك أسرار تعبير القرآن. وقد لخصت الكتاب الأول كله في دفتر، وكنت أستمتع بذلك كثيراً حتى إنني كنت أستعمل الألوان المختلفة في خطه!
أما حيازتي على كتاب لأحدهما فكان شيئاً مذهلاً، يزيد هذا الشعور حدةً قلةُ وجودها في مكتبات بيع الكتب آنذاك، فكنت أعوض ذلك بالاستعارة من الشيخ سامي الذي كان (مجموع الفتاوى) يزين مكتبته ويحتل مكان الصدارة فيها. أذكر أن عديلاً لي كانت له (شاحنة نقل) ينقل فيها البضائع بين العراق والأردن، وقد كان السفر ممنوعاً على العراقيين طوال فترة الحرب ضد إيران إلا لحالات خاصة، كلفته بشراء كتاب (الإيمان) لابن تيمية و(الوابل الصيب) لابن القيم. واتصل بي هاتفياً يخبرني بجلبهما من هناك! وكانت رحلة من أجمل الرحلات من محل سكناي في المحمودية إلى الفلوجة حيث بيت عديلي، اصطحبت فيها زوجتي وابنتيّ عائشة وفاطمة، قطعت فيها مئة كيل في السيارات العمومية. لم أكد أصدق عيني وأنا أرى الكتابين! وبت معهما أجمل ليلة، لأعود بعد ذلك إلى مدينتي حاملاً ذلك الكنز الثمين!
علم النفس والاجتماع .. واكتشاف قانون التغيير الجمعي
وكانت لي قراءاتي الخاصة في علوم ربما لم نتناولها في جلساتنا، نفعتني نفعاً لا يقدر بثمن في حياتي المستقبلية فيما يتعلق بالقضية وصياغة مشروع قائم على أسس علمية تعتمد البحث الأصيل والتجريب الجديد والنظر العميق، وليس الارتجال الطارئ والتقليد الجامد واستيراد الأفكار والحلول من الخارج.
من تلك العلوم (علم النفس)، الذي أولعت به منذ أن قرأت كتاب (سيكولوجية الشذوذ النفسي عند الجنسين) لسيجموند فرويد أيام الدراسة الثانوية، وقد طبقت نظريات منه في علاج بعض المرضى أثناء ممارستي لمهنة الطب ونجحت في ذلك. أمتعني الكتاب في غوصه إلى داخل النفس لتفسير حركات وتصرفات وسلوك ظاهري قد لا ينتبه إليه، بينما هو ينبع من جذور عميقة هناك، وله دلالات نفسية تحكم شخصية صاحبه.
ومنها (علم الاجتماع)، وقد استفدت كثيراً من مؤلفات الدكتور علي الوردي. ومن المزاوجة بين علم النفس وعلم الاجتماع والنظر الراصد للواقع الذي أعاني منه، ويعاني غيري من المهتمين بالدعوة والتغيير، أشد العناء، والذي يدعو للبحث عن كيفية للخروج من ذلك الواقع البائس: خرجت في أواخر التسعينيات بنظرية جوهرية تمثل انعطافة حاسمة في الفكر الدعوي والإصلاح الاجتماعي، ضمنتها الفصل الأخير من كتابي (لا بد من لعن الظلام)، وكان بعنوان (أسلوب الدعوة بين كسب الفرد وتغيير المجتمع). فرقت فيها بين قوانين تغيير الفرد وقوانين تغيير المجتمع. ووضعت يدي على العلة الحقيقية لتقهقر السنة أمام حركة التشييع المستمر للعراق. فالسنة يركزون على تغيير الفرد، بينما الشيعة يركزون على تغيير المجتمع ككل. وأسميت النظرية بنظرية (التغيير الجمعي). ثم بدأت بتصديرها من خلال منبر الجمعة وكرسي المحاضرة.
بعد ذلك بسنين قليلة، انتبهت إلى أن دراستنا الطبية تركز على الأمراض النفسية الفردية، ولا تعطي اهتماماً كبيراً للأمراض الجماعية، التي هي أخطر أثراً، وأشد فتكاً. وقد يكون السبب أن الطبيب في الواقع يتعامل مع أفراد وليس مع مجتمع أو مجموعٍ مريضٍ، إنما هذا من شأن علماء الاجتماع. فتوهمت أن علم النفس متخلف حين فاته هذا الجانب الخطير، وهو علم نفس المجموع أو الجمهور، وكتحصيل حاصل فاته دراسة الأمراض الجمعية لدى الجمهور أو المجتمع ككل غير مجزأ.
وظللت على ذلك الوهم حتى وقعت في أيلول/2005 على كتاب (سيكولوجية الجماهير) للعالم الفرنسي غوستاف لوبون المنشور عام 1895، وكنت يومها أزور معرضاً للكتب أقيم عند ساحة الأمويين في دمشق، أبحث لعلّني أجد كتاباً للأمراض النفسية الجمعية، فلم أعثر من ذلك على شيء، وبينما كنت في طريقي لمغادرة المكان شد انتباهي عنوان الكتاب (سيكولوجية الجماهير)! فاقتنيته. وما إن بدأت بمطالعته حتى فوجئت بمطابقة كثير من آرائه للآراء التي توصلت إليها وقمت بنشرها من قبل، دون أن أدري يومها – ولا أحد من حولي كان يدري – أنني كنت أكشف النقاب عن أعظم قوانين التغيير الاجتماعي. وتبين لي أن العلماء قد خاضوا في علم نفس المجموع منذ أكثر من مائة عام، وعلى رأسهم غوستاف لوبون الذي يعتبر مؤسس (علم نفس الجماهير) ورائده الأول كما جاء في مقدمة الكتاب؛ فاطمأننت إلى أن ما أبديته من ملاحظات، وثبّتّه من قواعد في التغيير الجماعي (الجماهيري) لم تكن نتاج عقل قادته المعاناة إلى ما قادته إليه، ربما كان لردود الأفعال غير المحسوبة بدقة أثرها وطابعها عليه. بل هي قواعد مدروسة طبقاً للمنهج العلمي التجريبي. وأني كنت أقيد ردود أفعالي تقييداً علمياً صحيحاً. إن هذه القواعد قد أثبتها وأرساها من قبلي علماء كبار، ثم قاموا بإعلانها ونشرها حتى ثبتت كعلم مستقل يدرس ويطبق؛ فحمدت الله تعالى على هدايته وعنايته.
8/4/2014