ارتياد الجنوب
د. طه حامد الدليمي
التجارب ..
والأحداث .. بإيجابها وسلبها،
وآخرها حركة الغوغاء الشيعية سنة 1991..
جميع ذلك، وغيره، كشف لنا عن أمور وأمور، ودفعني إلى إجراء مراجعة تأريخية واقعية شاملـة لأكتشف أن العداء (الفارسي) لأمتنا وديننا وعراقنا عداء أبدي تمتد جذوره عميقة في أغوار الزمان وتتفرع أغصان شجرته الخبيثة دونما نهاية! وأن كل موقف عدائي نواجهه لا يصح أن نفسره تفسيراً ساذجاً يقف به عند حدود أسبابه المباشرة ودوافعه الظاهرة، بل علينا أن نعتقد جازمين أن ذلك الموقف الجزئي ما هو – كما يقول البروفسور عماد عبد السلام – إلا امتداد لموقف فارسي راسخ معادٍ للعراق والأمة العربية والإسلامية، اتخذ في كل مرحلة سماته المنسجمة مع طبيعتها… لقد اعتنق الفرس الإسلام كسائر شعوب المشرق لكنهم حاربوه من داخله، وتعلموا الآداب العربية لكنهم حاربوها بما تعلموه منها، وكتبوا بالحروف العربية لكنهم شنوا حرباً على اللغة العربية نفسها. لأن العقلية (الفارسية) تنظر إلى الحضارة العربية بعين واحدة. إنها تتأثر بها لأنها مضطرة إلى ذلك لنقص في مستواها الحضاري، وتعاديها في الوقت نفسه لأنها تمثل خطراً يهدد سيطرتها على القوميات العديدة التي تحيط بها)[1].
إن كل من وضع هذه الصورة بجميع أجزائها أمام عينيه لا بد أن يحكم بأن التصدي لهذا الخطر الشيعي الشعوبي والغزو الفارسي الشرقي هو واجب الوقت بالنسبة لنا أهل العراق، وأن مجاهدة الشعوبية وملاحقة رؤوسها وذيولها هو أعظم أنواع الجهاد التي ينبغي أن نقوم بها في هذا الزمان والمكان. إنه لا يقل عن جهاد خالد والمثنى في تحرير غربي العراق وسعد والقعقاع في القادسية وما بعدها! بل هو أصعب وأكثر مرارة ، وأدعى للإحباط ؛ لقلة الناصر وكثرة الخاذل وضعف الإمكانيات وغفلة الأمة وانشغال أبنائها بـ(الغزو الغربي)، جانحين إلى تعميمات وقضايا بعيدة عن مشكلة العراق الرئيسية، غير منتبهين إلى ضرورة الربط بين الزمان والمكان. مع أن الانشغال بقضايا الزمان دون المكان كالانشغال بقضايا المكان دون الزمان، كلاهما يؤدي إلى نتيجة واحدة هي الجمود والانعزالية وتوقف الحركة. وهذا ما كتبته في مقدمة كتاب (لا بد من لعن الظلام) الذي أنهيت تأليفه في آذار/2002.
لم أجد كالعقيدة والتاريخ مادة يمكن أن تعرفنا بأنفسنا وأعدائنا: من نحن؟ ومن هم؟ أما الواقع فيكفينا منه الإشارات لنتخذ من عقيدتنا وتاريخنا سياجاً يحمينا من خطرهم، لو أحسنا الاحتماء به، حتى لا يعيد التاريخ علينا دورته! ولم أجد كالعاطفة حجاباً يغطي الحقيقة، ويسير بالجمهور إلى الهاوية!
وهكذا اتخذت قراري بالانصراف إلى التصدي لخطر الشيعة. لكنه اتخذ في البداية طابع الدعوة بقصد تسنينهم. قبل أن تنضج التجربة ويتطور الفكر فنعلم أن “تحصين السنة مقدم على تسنين الشيعة” تقدم دفع الضرر على جلب النفع. وهو تسلسل طبيعي في حركة أي فكر متجدد، ومشروع متطور للإنقاذ. والمعرفة إنما كانت معرفة لأنها جواب على سؤال يطرحه العلم على أرضية الواقع.
ارتياد الجنوب
وكانت البداية رحلات قمت بها إلى المناطق الشيعية في الجنوب، أرتاد بها الواقع وأستكشف وأرى ما فيه رأي العين، مصطحباً بعض الأصدقاء إلى هناك.
كانت أولى الرحلات في سنة 1992 اصطحبت فيها أبو عاصم وأبو عوف، وكلاهما من مدينة (أبو غريب)، وكنت قد سكنتها بضعة أشهر في شقة بالعمارات التي في حي (خرنابات). كان هدفنا مدينة السماوة مارين في طريقنا بالديوانية.
والذي دفعنا للذهاب إلى السماوة هو أبو عوف لعلاقات دعوية سابقة له هناك. تكلم لنا عنها فشوقنا إليها. كما حدثنا عن بداية هدايته وتدينه وكانت طريفة. كان شيوعياً ملحداً وقد اعتقل بسبب انتمائه للحزب الشيوعي وزج به في (سجن أبي غريب) مع مجموعة من أقرانه الشيوعيين. يقول: وكنا نعقد اجتماعاتنا في السجن رغم كل شيء. نتخير لها وقتاً متأخراً من الليل عندما ينام الحراس. وفي أحد الاجتماعات كانت الهداية!
أدار ذلك الاجتماع شاب من أهل (المحمودية/مدينتي)، وذكر لي اسمه فعرفت أنه من عائلة شيعية هناك. وكان موضوع الاجتماع الحديث عن أخطاء النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وكلمة (أخطاء) تعبير مخفف عن العنوان الحقيقي الذي يضيق عنه اللسان! كال ذلك الشاب التهم منوعة بالمجان لشخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم. كنت أنظر إلى سوء أخلاق المتحدث وأقارن بينها وبين ما يقول. أهذا الإنسان القذر يطعن بالنبي؟! وتحرك شيء ما في نفسي يقول لي: لا لا! وما إن رجعت إلى سريري حتى شعرت برغبة شديدة في البكاء، من أين انبعثت؟ لا أدري! كانت جارفة، لم أستطع مقاومتها فانفجرت باكياً بحرقة، وبقيت أبكي حتى نهنهت. ومن ساعتها شرح الله صدري للإيمان فاغتسلت وصليت، وقررت ترك الحزب الشيوعي. وهكذا كان ولله الحمد.
من (مجمع علاوي الحلة) استقللنا سيارة تكسي عمومية، حجزنا المقعد الخلفي منها، وانطلقت بنا – بعد أن تم نصاب الركب – إلى السماوة على بعد حوالي (300) كيل إلى الجنوب من بغداد.
ومن طرائف تلك الرحلة أننا في أثناء الطريق الطويل فتحنا نقاشاً مع سائق التاكسي الذي أقلنا من بغداد ومع الراكبَين الآخرَين، وكلهم شيعة، حول الشرك والتوحيد والعصمة وما شابه ذلك. وأول ما تكلمنا به موضوع الدعاء.
قال السائق: ما الضرر في دعاء الإمام علي؟
قلت: أليس الدعاء عبادة؟
قال: بلى
قلت: فإذا دعوت الله ألا تكون قد عبدته؟
قال: بلى
قلت: فإذا دعوت علياً ألا تكون قد عبدته أيضاً؟
قال: بلى
قلت: هل يصح أن تعبد علياً؟
قال: نعم (!)
قلت: كيف؟!
قال: وما في ذلك؟
قلت: أليس الله هو المعبود دون سواه؟! أليست عبادة غيره شركاً مخرجاً من ملة الإسلام؟!
قال: والله هذه عقيدتي. وصاحب المعتقد لا ينتقد.
وظل مصراً على ما هو عليه طبقاً لهذه القاعدة التي لم أسمع بها من قبل: (صاحب المعتقد لا ينتقد)!
في تلك الفترة بدأ الشيخ يقتنع نوعاً ما بما كنت أقوله عن الدعوة في مناطق الشيعة، ساعد على ذلك ما لمسه من هداية كثيرين منهم في بغداد وملازمتهم المساجد. وبدأ الإخوان المسلمون – والشيخ منهم – نشاطاً دعوياً محدوداً في الجنوب.
في إحدى تلك الرحلات الارتيادية اصطحبت صاحباً لي قديماً من أهل الفلوجة هو محمد، وذهبنا إلى السماوة مروراً بالديوانية. سلكنا الطريق القديم باتجاه السماوة، ننظر عن يمين وشمال فنرى لافتات حديدية لا حصر لها، مكتوباً عليها (إلى الإمام فلان.. إلى الإمام فلان…). وبينما نحن في وسط الطريق، والسيارة تنهب بنا الأرض نهباً إذا بصاحبي محمد يقطع علينا لحظات صمت مرت بنا وهو يقول ضاحكاً بقوة متعجباً: انظروا إلى ما مكتوب: (إلى الإمام خلَف)! هل سمعتم بإمام اسمه خلف؟! ونظرنا فإذا لافتة من سطرين: الأول هو (إلى الأمام خلف) وتحته مكتوب (القائد صدام حسين) فتكون العبارة كاملةً هكذا: (إلى الأمام خلف القائد صدام حسين)! لقد قرأ صاحبنا السطر الأول، ولم يجد نفسه في حاجة إلى قراءة ما بعده لكثرة ما قرأ من أمثاله! وصاح متعجباً قبل أن ينتبه إلى تكملة العبارة في السطر الثاني. وشهد الزمان ساعتها نكتة قوية ضحكنا لها كثيراً!
في طريق العودة عرجنا على كربلاء، كي نطلع الأخ محمد على الوضع برمته هناك، وأخذه أحد الإخوة، وكان معنا في رحلتنا، إلى مسجد (ابن هذال) المعطل [وابن هذال هو شيخ قبيلة عنزة الوائلية في العراق، يسكن ناحية النخيب المجاورة لكربلاء على حدود المملكة السعودية]. كنت تعباً والجو حاراً فنمت ولم أصحُ إلا بعد أن أكمل صاحباي جولتهما التفقدية وانصرفا، فلم أر المسجد، الذي أعجب الأخ محمد فقال: سأكون فيه إن شاء الله تعالى.
لعل اللهَ يجمعُنا | فنغدو ثمَّ جيرانا | |
ونَهدي من يتابعُنا
ويا ربي إذا كنا |
إذا ما جاءَ حيرانا
على الدربِ فَـ مِ الآنا |
أبيات قلتها في إحدى تلك الجولات العزيزة على نفسي، وأنا أعبر جسر الفرات عند مدخل مدينة الحلة، وعلى يميني تنتصب آثار بابل العتيدة، أراها من بعيد فيثور في النفس عنفوان الأَجداد ممزوجاً بعبق التاريخ.. ولا أدري هل تسللت من أمواج النهر في تلك اللحظات الحالمة الآملة نسمة ضربت على أوتار قلبي فتحرك لها بتلك الكلمات؟ أخاطب بها أحد أولئك الذين كنت أصطحبهم إلى هناك، صديقي صباح الدليم، وهو من شيوخ المساجد في بغداد.. أتلطف بها للدخول إلى قلبه، سيما وهو شاب ذو حس شاعري رفيع، عساه أن يتأثر فيستجيب.
وكانت نهاية قصتهما كغيرهما من القصص ما إن تبتدئ حتى تنتهي! أما محمد فتغير بشدة، وانقلب يسخر من الفكرة على إثر اعتقال في دائرة أمن الفلوجة بضع ساعات، كان يقول خلالها: إذا يسر الله وخرجت من هذا الضيق فلن أبقى في البلد ساعة واحدة. وكان الأخ قد جرب السجن والتعذيب من قبل، فقد حكم عليه في نهاية الثمانينيات بالسجن المؤبد، ثم أفرج عنه بعد أربع سنوات ونيف مع من أفرج عنهم بعفو عام. وأما صباح فأصبح لا يرى من الحكمة أن يرمي المرء نفسه في التهلكة فيذهب إلى هناك دون قوة تحميه، وكنت أقول: إذن لن يذهب أحد. وأما غيرهما فلكلٍّ منهم قصة. ولم يستجب لي تلك الفترة إلا اثنان.. اثنان فقط! توجه كل واحد منهما إلى محافظة.
وكانت البداية.
2015/1/12
[1] الصراع العراقي الفارسي، المقدمة، د. عماد عبد السلام رؤوف.