مصرع أخي الشيخ نوري رحمه الله([1])
د. طه حامد الدليمي
في مناسبة سبقت قلت لكم:
“في جبلة ذكريات لا تنسى ولا تحصى، منها شخصية.. ومنها عامة، لا سيما تلك التي لها علاقة بالدعوة والقضية. ومنها ما يمكن اعتباره أوليات ومعالم في بابها:
ففيها خطوت أولى الخطوات في طريق الدعوة.. وفيها نبتت في ذهني أول بذرة لمواجهة الشيعة.. وفي مسجدها شاركت في أول (دورة قرآنية) سنة 1978، وفي مسجدها أيضاً خطبت أول خطبة جمعة في حياتي، وما زال تاريخها مطبوعاً في ذاكرتي 18/6/1982. وفيها احتفلت بزواجي الأول يوم الخميس 26/4/1984. وفيها تم تقديم أخي قرباناً للسنة، ليرحل إلى رحاب ربه جل وعلا يوم 1/4/1991″!
في ذلك اليوم نفذت زمر الخراب الشعوبية خطة اغتياله، بتسهيل وخيانة من بعض رجال الأمن السنة في الحلة، مستغلين الوضع الأمني المضطرب في تلك الأجواء المشحونة بالأحداث الغوغائية التي ارتكبها الشيعة أثناء انسحاب الجيش من الكويت.
ظللت أبحث عنه ثلاثة أيام فقد فقدناه منذ يوم الجمعة بعد أن أدى الخطبة والصلاة، ثم جاءه مفوض أمن طالباً منه الاستضافة في دائرة أمن الناحية لساعة فقط، وأوصله أحد المصلين من أهل بغداد يملك مزرعة في جبلة يتردد عليها كثيراً وهو صديق للشيخ. ومن حينها اختفى. كانت السيارات قليلة والبنزين غير متوفر بسبب أحداث الحرب في الكويت وهزيمة الجيش أمام التحالف الغربي والعربي، ثم وقوع أحداث الغوغاء التي فجرها الشيعة في الجنوب والكرد في الشمال. أخبرنا مفوض في شرطة المحمودية أنهم عثروا على جثة رجل مقيدة يداه إلى ظهره برباط طويل كأنه قماش عمامة، ملقى بين قصب أحد المبازل([2]) عند مرسلات الإذاعة على أطراف جبلة. ومن وصفه تأكدت أنه هو، فاسترجعت وحوقلت. ثم توجهت، في سيارة صديقي خالد النوار رحمه الله يرافقنا بعض الأصدقاء أذكر منهم شاكر المرزوگ، ومعنا عبد الملك ابن الفقيد البكر، إلى دائرة الطب العدلي في الحلة. أما عبد الملك – وكان عمره آنذاك (13) عاماً – فقال، عندما رأى جثة والده، يخاطب شاكر: عمو! إن أبي الآن في الجنة، وهذه مجرد جثة سيكون مصيرها التراب. وأما أنا فخرجت ولم أقوَ على تجهيزه للعودة به، وأعرضت عن المشهد كله. كان منظره مطروحة جثته عارية في ثلاجة عبارة عن (كرفان) خشبي وقد عصبوا بعمامته عينيه، وأوثقوا بها يديه، وعلى جسده كدمات خصوصاً في ركبتيه، وفي رأسه أثر إطلاقة نارية، دخلت من قفاه، وخرجت من جبهته: مؤثراً ليس من السهل عليّ وصفه.. يذكرني بوقوف النبي صلى الله عليه وسلم على جثة عمه حمزة في ساحة (أُحد)!
روى ابن هشام في (سيرته) عن ابن إسحاق قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما بلغني، يلتمس حمزة بن عبد المطلب فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده، ومثل به ، فجدع أنفه وأذناه. فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين رأى ما رأى: لولا أن تحزن صفية، ويكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير، ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم… قال ابن هشام: ولما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة قال: لن أصاب بمثلك أبداً.. ما وقفت موقفا قط أغيظ إلي من هذا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمزة إخوة من الرضاعة، وكنت أنا ونوري إخوة لأم! التقت أرواحنا وأحب بعضنا بعضاً أشد الحب وأزكاه.
أخي رحلتُ .. ! وما قد كان في خَلَدي
أني سأرحلُ يومـــاً عن أخٍ حَـــــــــدِبِ
ألستَ أنتَ الذي واسيتَنـــي زمنـــــاً
فيه تبرأ منـــي عِترتــــي وأبـــــي ؟!
لا زلتُ أذكـــرُ أيـــامــــاً فتخنِقُنــــــي
من ذكرِها عبـــرةٌ حَــــراءُ كاللهَــــبِ
أيــــامَ كنــــا جميعــــاً لا يفرقُنـــــــــا
شيءٌ وخضرُ المنى في ثوبِها القَشِبِ
وبيتُنــــا واحـــدٌ في ظلِّـــهِ ضحكــــتْ
أحلامنـــاُ وغـــدت أزهــى من الذهبِ
حتــى إذا دارتِ الأيامُ دورتَهــــــــــــا
لـم يبقَ منها سوى الآثــارِ كالنُّــــدُبِ
ما بينكم ألمحُ الآثـــارَ عن قُــــــــــرُبِ
وقد أردتُ البَقـا فــي قربِكُمْ عُمُـــري
أخـي لأمي ! وأمـــي أنت تعرفُهــــــا
الحبُّ والعطفُ والإخلاصُ في النُّــــوَب
لا ..لستُ أنسى أيادِيكم وأذكــرُهــا
ما هبَّ ريحٌ علــى الأشجارِ والكُثُــبِ
وحبُّكم في صميمِ القلـــبِ موضعُـــهُ
حتى أُغيَّبَ في ظلمـــاءةِ التُّـــــــرُبِ
سعيت بعد ذلك عدة أشهر وأنا أبحث عن جذور الحدث لأتوصل إلى القاتل الحقيقي، والقاتل المباشر. سافرت إلى أكثر من مدينة، وسألت هنا وهناك. واجهت مدير أمن بابل نفسه في مقره بالمحافظة، وكان معي عمي محمود، فأظهر عدم علمه بالحدث من الأساس! وكان يتحامى النظر في وجوهنا. وأخيراً قال: على أية حال أخذنا بثأره فقد قتلنا بدل الواحد عشرة. وهكذا ظللت أبحث، فدلني بعضهم على رائد أمن من أهل (جرف الصخر). قال: سأتأكد بأسلوبي الخاص، وعندما تأتيني (وحدد لي موعداً) فإن كان قتله على يد مديرية الأمن لن أجيبك بشيء وسأتجاهل سؤالك. أما إن كانوا لا علاقة لهم بالأمر فسيكون جوابي واضحاً. ويوم ذهبت إليه في الموعد المحدد لم يجبني على سؤالي وتصرف وكأنه لم يسمعني. فعرفت أن (الأمن) هم الذين قتلوه. ولكن كيف؟ ولماذا؟ فعاودت البحث عمن بإمكانه شفاء غليلي، حتى عثرت على الدكتور حسيب عارف العبيدي، وكان رحمه الله تعالى آنذاك عضواً في المجلس الوطني. وذهبنا معاً إلى مدينة الحلة للالتقاء بصديقه الفريق طالع الدوري محافظ بابل، وعن طريقه تأكدت مما قال الرائد، كما عرفت أنه قتل بتهمة (الوهابية)، وقد صدر الأمر بناء على قانون (الأحكام العرفية). ثم عرفت من مصادر أخرى أن الشيعة هم الذين وشوا به وكتبوا التقارير عنه، ودفعوا رشى في سبيل قتله بالتواطؤ مع مديرية أمن المحافظة!
لماذا ؟
في يوم من أيام نيسان سنة 2001 كتبت في دفتر مذكراتي الكلمات التالية متحدثاً عن جبلة، ومن خلال تلك الكلمات يمكن اكتشاف السبب الذي جعل الشيعة يغدرون به:
“إن فرقاً كبيراً في الحال بين الأمس والحاضر.
الأمس الذي ليس فيه إلا مسجد واحد صغير قد لا يزيد فيه عدد المصلين يوم الجمعة عن مئة إلا قليلاً، والتشيع يضرب بأطنابه ويخيم على المنطقة، وليس هناك من حركة تعاكس التيار إلا نبضات مختلجة تصدر من شخص واحد هو إمام وخطيب جامع المشروع الكبير، الذي هو أخي الشيخ نوري رحمه الله تعالى! بدأت بالضرب في شريان الحياة يوم عُيّن في ذلك المسجد بعد تخرجه من كلية الإمام الأعظم سنة 1977.
والحاضر الذي ازداد فيه عدد المصلين ووعيهم وحركتهم وبان هدفهم، وصارت لهم فيه قضية وأمل ونبض متناغم متدفق أزهرت أغصانه بدم الشهادة، وها هي ثماره تكثر وتكبر ويفوح أريجها مئات بل آلافاً من المؤمنين ومن المتحولين عن دين رستم إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم. وكثرت المساجد حتى تجاوزت العشرة عداً، وفيها مشايخ واعون متحدون متحركون، وصارت صبغة المنطقة إسلامية سنية، والشعوبية تكاد تختنق. وشياطينها في ذعر واضطراب!
وكان السبب الرئيس في هذا التحول، وتغيير الكثيرين من التشيع إلى التسنن هو وجود الشيخ الشهيد نوري رحمه الله جل في علاه”.
هذا هو السبب.. وأي سبب!
(وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (البروج:9،8).
حيرة
للذكرى جلالها.. لكنني أقف حيالها حائراً، لا أدري ماذا أكتب عنها؟ وكيف؟
الكتابة عن ساكني السماء الذين يتركون بصماتهم على الأرض ليست سهلة.. فأنا لا أريد الحديث عن السماء بحروف من تراب. أحس بالعجز حين أحاول نقل القارئ إليها بإحساسه، لا بفكره فحسب. بل إلى صورة مصغرة من تلك الأجواء التي كانت تنبض بالعطاء رغم شحة الظروف، ووفرة المعوقات. نظلمها إذا تحدثنا عنها بلغة (السيرة الذاتية) تلك اللغة الباردة العاجزة عن توصيل تلك الحياة النابضة التي كانت تمور بالحركة، وتموج بالحرارة والمشاعر ودفق العاطفة، بما فيها من ألم وأمل.. فرح وحزن.. خوف وترقب.. إحباطات وخيبات.. تقدم ونجاحات. في طريق طويل.. طويل، متعرج محفوف بالمكاره، في نهاياته التي تومئ خلف الأفق تنتثر كحلل الورود بين المروج أجمل المحبوبات وأثمن اللقى والمخبآت.
هنيئاً أخي ! قد دفعتَ الثمنْ وسلعةُ ربي هيَ الغاليةْ |
***
أتحسَبُ أني اعتراني حَزَنْ على أن تركتَ لنا الفانيةْ |
***
لتضحى جنانُ الخلودِ وطنْ قطوفُ الأماني بها دانيةْ |
***
ولستُ الذي يبكي فوقَ الدِّمَنْ على ساكني الغرفِ العاليةْ |
حقاً أنا محتار.. أشبه بالعاجز؛ فأخي الشهيد عالم من الصبر رغم المعاناة التي لم تمسح الابتسامة عن وجهه والروح المرحة عن مجلسه، وإن كانت كثيراً ما تختبئ وراء نظرات صارمة وقسمات متجهمة تكسبه المهابة ووقوف الآخرين منه على مسافة. عالَم من المثابرة للوصول إلى الغاية رغم العراقيل. عالَم من الرقة رغم قسوة الحياة التي ابتدأها يتيماً.. وقد طبعت ظاهره بطابعها. لكنه طابع هو كالقشرة الهشة سرعان ما تذوب تحت ضغط الحقيقة التي لا ترضى إلا أن تظهر بوجهها سافرة.
كان يدرس ويكسب رزقه في وقت واحد، في زمن لم تكن وسائط النقل، ولا وسائل العيش فيه متيسرة. فكيف وهو، مع ذلك، فقير يتيم، وغاياته التي يتطلبها أكبر من مكِناته! وكانت رعاية الله تحوطه.. فمن هذه الحياة الصعبة استطاع أن يحلق ليقتنص الكثير من النجوم.. ويغوص أيضاً وراء اللآلئ!
يبدو أن الصعب لا يناله إلا من تعود معانقة الصعاب.
وكان للوالدة رحمها الله أثر كبير في تربيته، وللخال (ملا إبراهيم) يد طولى في توجيهه ورعايته. ولم يفارق الدنيا إلا وقد كتب الله على يده هداية جيل في ناحية (جبلة) انتقلت آثاره إلى ما جاورها كما ينتقل أرج البساتين على متن الهَبوب.
هذا الذي وقفني كثيراً أمام جلال الذكرى! لا أدري ماذا أكتب عنها؟ وكيف؟ فالكتابة عن ساكني السماء الذين يتركون بصماتهم على الأرض ليست سهلة.
حقاً لا أدري ماذا أكتب؟ وكيف؟ ………..!
فأنا لا أريدها (سيرة ذاتية) عادية.. بل أريدها نبضاً دافئاً دافقاً بالشجن، زاهياً بالأمل، رائقاً بالشدى. يخلب شغاف القلب قبل أن يقدح شعاع الذهن. فهل أنا على ذلك قادر؟ وفي مقال بصفحات قليلة وحروف كليلة؟ ولست أملك الوقت، ولا صفاء الذهن!
إذن نؤجل الحديث عن المتون والتفاصيل.. ونجنح إلى حاشية منها موشاة بخيط من شعاع ذلك الكوكب الجميل. فدعوني أروي لكم هذا المشهد الغريب، الذي عشته في يوم من الأيام قبل أكثر من ثلاث عشرة سنة، وأودعته دفتر الذكريات يوم الأحد 29/4/2001.
22/8/2014
[1]– هو أخ لي من ناحية الأم، أما أبوه فشقيق أبي. يكبرني بتسع سنين.
[2]– (المبازل): جمع مِبزل وهي أخاديد عميقة وطويلة كالأنهار تحفر في الأرياف لتصريف الأملاح المحتقنة في الأراضي السبخة لاستصلاحها.
آه.. قد وصفتها بأدق وصف في قولك:” فالكتابة عن ساكني السماء الذين يتركون بصماتهم على الأرض ليست سهلة.”
حقيقة في المواقف المؤلمة تجف الاقلام، وتتصحر الذاكرة، وتشح الكلمات لما للمقال من ألم في النفس، قد لا اخفيك تحاشيت قراءة كثيراً لكن لابد من ان ارى مافيه… وهنا تذكرت قصيدة عبدالله الفيصل..
اي ذكرى تعود لي كل عام
لم تزل فيه نازفات جراحي
اي خطبٍ مروعٍ كنت اخشاه
فأبلى عزمي وفلّ سلاحي
اي يومٍ ودعت فيه حبيبي
ثم اسلمت مهجتي للنواح
كيف ارثيك يا ابي بالقوافي
وقوافيّ قاصرات النجاح
كيف أبكيك والخلود التقى
فيك شَهِيداً مجسّما للفلاح
رحمك الله يا شيخ نوري وجمعنا الله بك في الفردوس الأعلى.