ناحية ( جْبلة ) .. أماكن أحببتها
د. طه حامد الدليمي
جبلة ناحية من نواحي قضاء المحاويل التابع لمحافظة بابل (الحلة). تقع في مثلث بين الحلة الكائنة إلى الجنوب الغربي منها على بعد (50 كم)، والكوت (30 كم) شرقاً وبغداد حوالي (70 كم) شمالاً.
تسمى جبلة أيضاً باسم (ناحية المشروع) نسبة إلى نهر (مشروع المسيب الكبير) الذي يخترق حاضرتها، ويروي أريافها فيحيلها جناناً. وقد شقته الحكومة سنة 1952 من منطقة المسيب بطول (50) كم.
تبلغ المساحة الكلية للناحية (814) كم2([1]). واسمها التاريخي (كوثى)، وهي أحد مدن بابل القديمة يعود تاريخها إلى الألف الرابع قبل الميلاد. ويقال إن إبراهيم الخليل عليه السلام ولد وعاش فيها قبل هجرته إلى الشام. أما اسم (جبلة) فيبدو أنه مصغر (جبل) على عادة العراقيين في لهجتهم الشعبية، وقد اشتق من وجود مجموعة من التلال الأثرية العائدة إلى الحقبة البابلية على طرف المدينة الشمالي.
كان يوماً لا ينمحي من الذاكرة ذلك الذي وطئت فيه قدماي ناحية (جْبلة) أول مرة!
ذهبت مع أخي الشيخ صيف 1973 لزيارة أخوالي، الذين ارتحلوا فسكنوا هناك ذلك العام. كان قلبي ينبض باللهفة والشوق لرؤية (محمد) رفيق الصبا وخدن الطفولة! وأحسب الساعة بعد الساعة للقائه. وجدنا خالي (إبراهيم) في سوق الناحية، جلسنا في المقهى المواجه للشارع العام الموازي للنهر قبل أن ننطلق إلى (جامع مشروع المسيب الكبير) المسجد الوحيد في الناحية كلها آنذاك لنصلي الجمعة. اهتبلت الفرصة بينما كان أخي وخالي يتجاذبان أطراف الحديث وتوجهت إلى النهر، الذي أغرتني مياهه في ذلك الجو اللاهب. خلعت دشداشتي وحذائي البلاستيكي الأبيض وقفزت إلى وسط النهر على بعد 50 ذراعاً قبل الجسر. لم أدر أنني كنت مخدوعاً بتجربتي السابقة يوم غامرت مع ياسين وعبرنا نهر اللطيفية بحبال البقر مشدودة على صدورنا. كان الماء طامياً سريعاً؛ لم يمهلني حتى جرفني، فإذا أنا تحت الجسر! وحاولت.. خبطت بيديّ، لم يُجدني ذلك شيئاً. ووجدت نفسي مغلوباً لا محالة فأيقنت أنها مهلكتي؛ فقد نظرت وأنا أهوي باتجاه الجسر فإذا المياه تكاد تغمره، ولا أعرف كم هو عرض الجسر؟ فقلت: سأقضي خنقاً قبل أن أتمكن من تجاوز المسافة بين طرفيه، أو ربما يعترضني حاجز مشبك فأموت لا محالة! وسمعت بعض المارة كأنه يرثي لحالي وقد ابتلعني الجسر فصرت تحته. وهناك نظرت فإذا بين الماء والجسر مسافة أربعة أصابع فلويت رأسي وصرت أخبط بيديّ ورجليّ بينما أنفي يكاد يمس سقف الجسر حتى مرقت من الجانب الآخر وأنا لا أكاد أصدق! فخرجت مسرعاً ولبست ثيابي ورجعت إلى المقهى وأنا مضطرب، لكن أخي وخالي ما زالا منشغلين بحديثهما فلم يلاحظا عليّ شيئاً فحمدت الله ولم أخبرهما بما حدث!
والتقيت رفيقي محمد هناك في آخر أراضي نهر (الخربانة)، وكانت أياماً جميلة قضيناها معاً بين المزارع، ها هو يحمل على ظهره اسطوانة السم يعالج بها طفيليات حقل الخيار، ويغني بصوته العذب (محلاها عيشة الفلاح) التي انحفرت في ذاكرتي وما زالت حتى اللحظة. وننفرد أحيانا بين الأحراش هو يحرك أصابعه على شفتيه مقلداً صوت الناي، وأنا أردد معه أغاني (الچوبي). مرة ضبطَنا أخي فنهرنا قائلاً: “عيب؛ ألا تستحون”؟ وسكتنا مرغمين فنحن لا ندري ما العيب في ذلك لا سيما وليس بقربنا من يسمعنا؟ وفي الليل نسهر تحت ضحكات القمر وسقسقات الكواكب، وما أكثر ما أتينا من طرائف ومقالب!
بعد أن تخرج أخي من كلية (الإمام الأعظم) سنة 1977 عين إماماً وخطيباً في (جامع المشروع) وانتقل فسكن في ريف الخربانة بجوار بيت خالي إسماعيل، وكانت العائلة متكونة من والدتي وزوجته وهي ابنة خالنا إبراهيم. كنت أتردد عليهم زائراً الفينة بعد الفينة فأقضي عندهم بعض الأيام مستجماً من عنت المدينة، وضيق العيش في بيت لم أذق فيه طعم الراحة أربع سنين. وقضيت صيف ذلك العام هناك، بعد أن حصلت على فرصة عمل في (مزرعة البكر للدولة) مدة ثلاثة أشهر كاتباً في (شعبة الأغنام) أتقاضى راتباً قدره ثلاثون ديناراً في الشهر. وفي كل صباح ومن عند (الحديقة البيضوية) الجميلة التي تتوسط المدينة كانت السيارات الحكومية تقلنا إلى المزرعة المترامية الأطراف، ثم تعود بنا نهاية الدوام. كانت تلك المزرعة إحدى التجارب الفاشلة بامتياز لتطبيقات الاشتراكية التي حاولتها دولة البعث في العراق.
كان موظفو الشعبة – وهم مهندسون زراعيون – يخرجون إلى العمل في مراعي الأغنام وأبقى في كرفان الشعبة أدون المعلومات التي يأتونني بها بعد الدوام في سجلات خاصة. وكان الكرفان بائساً، فيه مبردة عاطلة، والحر لاهب. فكتبت بيتين من الشعر:
يا هارباً من حرِّ شمسٍ لاهبٍ إلا إذا رمـتَ اغتسالاً فانتبــــهْ |
لا تقتربْ من شعبةِ الأغنامِ واجلبْ معاً صابونةَ الحمّــامِ |
وسرَّحت بنظري في أحد الأيام عبر نافذة السيارة التي رجعت بنا بعد انتهاء الدوام، فإذا بي أرى سرباً من الفتيات يرتدين ثياباً حمراً فوقها مُلاءٌ (عباءات) سود على الضفة الأخرى من النهر. كان منظراً رائعاً يخلب الألباب استثار شاعريتي فتحركت بهذه المقطوعة الصغيرة:
يحيي القلبُ مرأى اللابساتِ توشيهـــا مُــلاءٌ سودُ كــانتْ كشفْقٍ مُدبِرٍ أمسى طريــداً |
من الأثوابِ حُمْراً دامياتِ أماناً من عيونٍ صاعقـاتِ تلاحقُهُ جيوشُ الداجياتِ |
الأحد 11/6/1978
وفي ريف (جبلة) قلت هذه الأبيات:
ياريف ! هذا الكونُ أجمعُهُ إلا إذا لاحت حِماكَ التي مروجُكَ الخضرُ تنادي على حيث الهواءُ الطلْقُ يلهو بنا يا ريفُ ! هذا الحسنُ منبعُهُ خُلِقتَ من روحي فلن تلقَني |
أبداً تراني عندهُ أهجعُ ما بينَها أحلامُنا تُزرعُ روحي فروحي نحوَها تُسرعُ وحيث يحلو مرتعٌ نرتعُ إن لم يكنْ منكَ فلا منبعُ بغيرِ هذي الروحِ أستمتعُ |
الجمعة 9/6/1978
في أحد الأيام أخذونا من مركز التجمع الصباحي عند (الحديقة البيضوية) في حملة تطوع شبه إجبارية إلى مزرعة ثانية تقع قبل الناحية على الطريق العام على طول نهر المشروع، يفصل بينها وبينه مبزل عميق مليء بالقصب لتصريف ملوحة الأرض. ضايقتني الشعارات الحزبية التي كان يبوّق بها أحد المشرفين على العمل، فقررت الانصراف بأي وسيلة. استأذنت المراقب لقضاء حاجة، وأوغلت في التخفي بين القصب حتى وصلت المبزل. كان عريضاً وعميقاً فلم أتمكن من تجاوزه قفزاً. ومع ذلك أصررت على تنفيذ خطة الهروب فخلعت ملابسي وحذائي، وكانت هذه المرة بنطالاً وقميصاً أنيقين والحذاء من جلد وبكعب عالٍ، واقتحمت الماء فلمحني بعض العمال فصاحوا محذرين من هروبي، ولحق بي بعضهم لكنني أكملت المهمة بنجاح وعبرت فلم يستطع أحد اللحاق بي وقد حال بيني وبينهم ذلك المبزل العميق. وإلى الجانب الآخر كان نهر المشروع الحبيب ينتظرني فغسلت بمائه ما علق بأقدامي وجسمي من طين ولبست ثيابي ثم وقفت على الشارع لأستقل سيارة عمومية، ورجعت إلى البيت سالماً غانماً.
جبلة .. ذكريات لا تنسى ومعالم لا تمحى
في جبلة ذكريات لا تنسى ولا تحصى، منها شخصية.. ومنها عامة، لا سيما تلك التي لها علاقة بالدعوة والقضية. ومنها ما يمكن اعتباره أوليات ومعالم في بابها:
ففيها خطوت أولى الخطوات في طريق الدعوة.. وفيها نبتت في ذهني أول بذرة لمواجهة الشيعة.. وفي مسجدها شاركت في أول (دورة قرآنية) سنة 1978، وفي مسجدها أيضاً خطبت أول خطبة جمعة في حياتي، وما زال تاريخها مطبوعاً في ذاكرتي 18/6/1982. وفيها احتفلت بزواجي الأول يوم الخميس 26/4/1984. وفيها تم تقديم أخي قرباناً للسنة، ليرحل إلى رحاب ربه جل وعلا يوم 1/4/1991!
[1]– تبلغ مساحة مملكة البحرين (690) كم2 فقط. أي ما يقل عن ناحية جبلة بـ(124) كم2.