الأيام الخواليديوان القادسية

أماكن أحببتها

 

د. طه حامد الدليمي

 

المحمودية جِنوبيَّ بغداد، وجْبلة (بسكون الجيم) شِماليَّ الحلة.. أحب بقاع العراق إلى قلبي. في المحمودية نشأت، وفي جْبلة قضيت وطراً من أحلى أيام العمر!

 

   قضاء المحمودية

المحمودية بربوعها الرحبة الفسيحة، ونواحيها الثلاث البديعة (اللطيفية، الرشيد، اليوسفية) موطن صباي ونشأتي وشبابي. وفيها اهتز قلبي مرتين، أو يزيد. أخص منها قرية (البطين) التي تقع في صدور نهر اللطيفية عند مروقه من نهر الفرات بين (كيلو 5) و(كيلو 12)، وأظن هذه الترقيمات تدل على بعد الأنهر الكبيرة المشتقة من نهر اللطيفية عن المنبع الأصلي من الفرات. لم يخطر في بالنا يوماً السؤال عن سر هذه التسميات، لكنني الآن وحين أستحضرها يخطر في ذهني منظر أنهار ثلاثة، على منبع كل نهر نصبت مِضخة لرفع الماء من نهر اللطيفية إلى النهر الفرعي: الأول يسمى (كيلو 5) والثاني (كيلو 12) والثالث (كيلو 18) الذي يبعد عن الشارع العام القديم الرابط بين بغداد والحلة حوالي كَيل واحد.

مرت بنا لمحة عن قرية (البطين) في بداية الكتاب. ولكن ما سر هذا الحب الجارف نحوها؟ اجتماع الأحبة.. أخوالي وبعض خالاتي وأبائهم ووالدتي وأخويّ؟ أهلها الطيبون؟ الطبيعة الريفية الخلابة، التي تتوسد صحراء (الحصوة)؟ البساتين والأنهر.. والطير والشجر؟ حقول القمح والشعير.. والجت والبرسيم، والحيوانات التي كنا نرعاها أو نجز لها الحشيش؟ مزارع الطماطة والخيار والباقلاء والرقي والبطيخ؟ شجر الكُبَر الصحراوي بورده الأبيض الزكي وثمره (الشِّفَلَّح) الأحمر الحلو الذي يشبه الرقي المخروط شكلاً، ولكنه صغير كالبيضة حجماً؟

چفوفچْ عثوگ النخلْ
بيهنْ محابسْ ذهبْ
ما أدري أگرُطْ گَــرطْ
يزهي الشِّــفَــلّح حَمَـر
أبــيــضِ خْـديــدِ الــوردْ
شفتِ النِّدى يْــقــبـِّلَهْ
بسّ اني ميِّتْ عطشْ
بَـرْبَــنْ أصابيعچْ
وبالذهبْ ما بيعچْ
والا أمصْ رَيعِچْ
خايفْ عليهْ يِــنحاشْ
بسْ شوكْ ما يِنّاشْ
مريتْ بيهْ غَـبّــاشْ
واربي يَنابيعِــچْ

17/10/2011

الجلسات المسائية في ديوان أخوالي، وما فيها من أحاديث منوعة عامة ودينية، يتخللها كلام الخال إبراهيم عن التوحيد والشرك، وطرائفه ومقالبه مع القبوريين؟ نهر اللطيفية التي تعلمت فيه السباحة، وعبرته لأول مرة أنا وياسين ابن خالي يوم جمعنا الحبال التي ربطت بها بقراتهم في عز ظهيرة خفياً من أهله الذين سكنوا في قيلولة بعد كدح في الزرع، ثم عقدناها ببعضها وجعلنا منها حبلاً واحداً، ربطته أولاً حول صدر ياسين ودخل النهر وسبح حتى وصل الضفة الأُخرى فلما توسطه ليعود خذلته يداه فسحبته ونجا، ثم فعلت مثل فعلته ونجحنا فأعلنا الانتصار؟! تلك الطفلة الجميلة التي علقتها وأحببتها وهي لا تدري حباً لطالما أرق العيون وأندى الجفون.. ثم ارتحلنا بعيداً بعد سنيهات فغابت في دهاليز الزمن؟ مدرسة الرواشد التي حدثتكم عنها والحديقة التي تظللها بأشجارها وورودها، وخميلة الثيّل عن يمين وشمال الداخل ونهر البطين إلى يمينها بمائه المترقرق طيلة أيام السنة يفصل المدرسة عن بستان الحاج سلومي العامر بأشجار المشمش والبرتقال والتوت العالي والحمائم التي يشنف هديلها آذاننا ونحن على مقاعد الدراسة سيما أيام الربيع قبيل حلول الصيف، وأصدقاؤنا الكثر على اختلاف صفاتهم وطبائعهم؟ أم هذا كله وغيره وغيره؟ بل وأسرار لا ندرك كنهها تجعلك تلتصق بهذا التراب دون سواه، فإذا هو جزء من كيانك، وفلقة من قلبك، وفلذة من كبدك!

أصحابُنا مِنْ هنا مَرّوا على عَجَلٍ
فَيا طيورَ الرُّبى حُطّي بناحيةٍ
ويا هَبوبَ الضحى هلّا عبرتَ على وإن ْنزلتَ على نهرِ ( البُطِينِ ) فَسَلْ
وهلْ شَدا فوقَهُ طيرٌ ، وهلْ صدحتْ
إني إلى جُرفِهِ أهفو كقُبَّرةٍ
مَرَّ النسيمِ على آهاتِ مشتاقِ
كانوا بِها واغرِفي من شَجْوِ أعماقي
آثارِهم لِترى كُحلاً لأحداقي
صَفصافَهُ ” هلْ أتى مِنْ بعدِنا ساقي ؟ “قُمريةٌ ، وبكتْهُ ذاتُ أطواقِ
عاثَ الهجيرُ بِها مِنْ حَرِّ أشواقي

 

المحمودية .. جغرافيا وتاريخاً

تقع مدينة (المحمودية) جنوبيَّ العاصمة بغداد بحوالي (25) كم. وتبلغ مساحتها الإجمالية (1400) كم2 تقريباً. معظمها عبارة عن أراضٍ زراعية تقطنها عشائر سنية. أما مركز المدينة فتعيش فيه أغلبية سنية تعتاش معها أقلية شيعة بنسبة تقارب النصف.

يبلغ عدد سكان قضاء المحمودية – حسب التقديرات الرسمية عام 2006 – بأجمعه (اي حاضرتها والمدن والقرى والمناطق الريفية التابعة له) حوالي 550.000 نسمة. يشكل السنة منهم حوالي (90٪).

أنشئت مدينة المحمودية عام 1609، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى منشئها الوالي العثماني محمود باشا. كما سميت ناحية (اللطيفية) نسبة إلى لطيف بن محمود باشا باني مدينة المحمودية، الذي بنى (اللطيفية) أيضاً، وأسماها بذلك تيمناً باسم ولده لطيف. وسمى الناحية الأُخرى بـ(اليوسفية) نسبة لابنه يوسف([1]). أما ناحية (الرشيد) فاسم حديث أطلقته الحكومة عليها، وكنا لا نعرفها إلا باسم (اليوسفية)، ونسمي (اليوسفية) باسم (القصر الأوسط).

تاريخياً تمثل المحمودية امتداداً عريقاً موغلاً في القدم! فمنها قاد سرجون الأكدي (2334-2279 ق.م) أكبر إمبراطورية في العالم القديم هي الإمبراطورية الأكدية (2371-2230 ق.م)، التي امتدت من عيلام إلى البحر المتوسط، وشمل ذلك بلاد ما بين النهرين والأناضول. وتَسمى بملك الجهات الأربع، واستغرق حكمه (55) عاماً. وكانت (سبار Sippar) الواقعة – على الأرجح – في اليوسفية عاصمة الإمبراطورية، وما زالت آثارها قائمة إلى الآن.

وعلى سهول المحمودية دارت آخر معركة بين العراقيين والفرس، قبل أن تسقط آخر دول العراق في العصر القديم (دولة بابل) على يد الفرس الإخمينيين. لقد قرر ملك بابل (نبونائيد) أن تكون المنازلة مع (كورش) ملك فارس على أرض المحمودية الحزام الأمني الشمالي لبابل. وإذ انتهت المعركة بهزيمة الجيش البابلي، تعرض أهل اليوسفية إلى إبادة تامة من قبل الجيش الفارسي المنتصر، وأحرقت المدينة بما تبقى من أهلها. وإذا كانت هذه المدينة شكلت في تلك العصور الحزام الأمني للعاصمة بابل من جهة الشمال، فإنها اليوم تشكل الحزام الأمني للعاصمة بغداد من جهة الجنوب.

وهذا سبب رئيس فيما حصل بالأمس ويحصل اليوم لبغداد وحزامها أو طوقها الأمني من محاولة لتغيير طبيعتها السكانية ومسخ هويتها العربية السُنّية. لقد عانت بغداد على مر التاريخ من محاولات عديدة لتحويلها إلى مدينة شيعية تخدم المشروع الإيراني الشعوبي. وحصلت معارك عنيفة بين أهلها الأصلاء وبين مَن حاول من الوافدين الدخلاء تغيير وجهها المشرق الوضّاء.

فمن أجل المحافظة على هوية بغداد بصورة دائمة شجّع العثمانيون استقرار العشائر السُنّية التي كانت موجودة في محيط بغداد، فأصبحت مركز العاصمة (بغداد الصغرى) كنقطة في وسط بحر مترامي الأطراف من العشائر السُنّية من الجنوب والشمال والشرق والغرب، شمل مناطق (الطارمية والراشدية والتاجي وأبو غريب والرضوانية والمحمودية وعرب جبور والمدائن والوحدة) وغيرها من مناطق الطوق.

بعد سقوط بغداد شهدت المحمودية أُولى عمليات المقاومة ضد الاحتلال الأمريكي من خلال قنبلة يدوية أُلقيت على مجموعة من الجنود الأمريكان متجمعين عند مدخل مركز شرطة المدينة في يوم الأربعاء (16/4/2003) وأدت إلى مقتل ثلاثة جنود أمريكان وجرح اثنين آخرين. وتناقلت وكالات الأنباء الحدث بكل تفاصيله. كان لجغرافيا القضاء من حيث كثرة البساتين وكثافة الأشجار وتعدد الأنهار والمبازل أثر جيد في جعل القضاء أرضاً صالحة نسبياً لشن الهجمات على قوات الاحتلال، والانسحاب دون أن تتمكن قوات الاحتلال من دحرها. لذا لقّب المحتلون المنطقة المحيطة بالمدينة بـ(مثلّث الموت).

 

مدينتي

المحمودية.. مدينتي الحبيبة.. التي استوطنها آبائي وأجدادي منذ حوالي قرن من الزمان، قادمين إليها من الفلوجة.

في أريافها نشأت، حيث بساتين النخيل الوارفة، والأشجار اليانعة، والمزارع الناضرة، والمروج التي تغازل أعين الناظرين على امتداد البصر. تتوسد الأنهار المتدفقة، التي تتخلل سهولها الشاسعة.

انتقلت العائلة إلى مركز المدينة وعمري ست سنوات. وإلى الجنوب منه قليلاً في (حي الجزائر) كان بيتنا، ومن هناك كنت أذهب إلى (مدرسة المحمودية الابتدائية الثانية) في قلب المدينة قريباً من بيت القائممقام، المجاور لمخفر الشرطة. في تلك المدرسة تعلمت كيف أقرأ الحرف وكيف أكتبه، على يد المعلم البارع سالم محمود العنزي. في أجواء هادئة جميلة منعشة.. ألج الباب الخارجي فتتلقاني المدرسة بحديقتها الرائعة، يخترقها الممر الرئيس، وعلى جانبيه أشجار الآس الخضراء بعطرها المميز وثمارها الحمراء الصغيرة، في صفين متناسقين متقابلين عن يمين وشمال، عمل فيهما مِقص الفلاح الماهر تهذيباً وتشذيباً فأخرج منهما تشكيلة بديعة، تمتزج بشجيرات الجوري المتناثرة هنا وهناك تطل بأورادها الحمراء والصفراء والبيضاء، على حافة بساط النجيل الأخضر.

صورة خلابة هيهات أن تنمحي من الذاكرة.

ساعتها كان القدر ينسج أول خيوط العلاقة التي تشابكت مع نسيج القلب، وينقش أول سطور الحب في مقدمة صفحة العمر، التي ما زالت تراود خيالي. ولن تزول.

ثم تنقلنا من بعدُ في مختلف أحياء المدينة؛ إذ كان والدي – رحمه الله – لا يستقر على حال. وما بين الريف والمدينة توثقت العلائق، وربت كلمات الحب وكثرت صفحاتها حتى أصبحت ديواناً كبيراً جامعاً لفنون العلم والأدب والتاريخ والجهاد.

بعد أن أنهيت الصف الثاني الابتدائي في مدرسة (المحمودية الأولى للبنين) طوت والدتي رحالها صيف سنة 1969 لتحط في قرية (البطين) إلى جوار أخوالي، وفي مدرسة (الرواشد الابتدائية) هناك أنهيت الصفوف الثلاثة، ثم ارتحلنا إلى بزايز اللطيفية (والبزايز هي نهايات النهر، عكس صدوره) حيث أنهيت الصف الأخير من الابتدائية في (المدرسة الخزرجية) بمعدل (95٪) وكنت الأول على مدارس القضاء. ثم أنهيت الدراستين: المتوسطة والإعدادية وكنت فيهما الأول أيضاً على القضاء.

هكذا نشأت قصة الحب الخالدة بيني وبين مدينتي الحبيبة بريفها المعطاء وحاضرتها السخية. ولقد ظللت قرابة أربعة عقود أتردد بين هذه الحاضرة وذلك الريف، لأستقر أخيراً – أو هكذا خيل إلي – في ناحية اللطيفية، برهة من الزمن لم تدم أكثر من ثلاث سنوات إلا قليلاً. حتى حل يوم (19/3/2003) وفي الليلة التي في صبيحتها الحزينة كانت بداية المعركة التي احتل إثرها العراق، غادرت بيتي حزيناً، ولم أعد إليه حتى الساعة.. ألجئت إلى ذلك إلجاءً. فقد بدأت صفحة جديدة من صفحات المعركة مع الشعوبية والشعوبيين، لها أدواتها وأساليبها الخاصة.

 

 

 

[1]– https://www.facebook.com/zana.kochar87/posts/192400900929761.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى