الأيام الخواليديوان القادسية

على أعتاب الدعوة

 

د. طه حامد الدليمي

 

في ناحية (جبلة) كانت القنطرة الأولى التي عبرت بي من الفكرة إلى الحركة..

ومن طلب العلم إلى مطلب الدعوة..

فقطعت خطوات في طريقها، أراها تجارب ميدانية هيأها القدر الحكيم فأكسبتني خبرة وزاداً لمستقبل كان ينتظر. وفيها بدأت عمليات الأيض الفكري أولى حلقات النضج، وصارت الأفكار تتبلور شيئاً فشيئاً، وتنتقل ببطء من مجال الدعوة العامة إلى دائرة الدعوة الخاصة بتنبه الحس إلى المرض الأخطر الذي ينخر هيكل البلد.

كان قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّه وملائِكَتَهُ وأَهْلَ السَّمواتِ والأرضِ حتَّى النَّمْلَةَ في جُحْرِهَا وحتى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلى مُعلِّمِي النَّاسِ الخَيْرْ»([1]) ماثلاً أمامي ينير لي الدرب طوال الرحلة. يساعد في ذلك خزين من الحفظ والقراءات والدروس، صار يتفاعل ويتحرك في داخلي يريد الخروج من مخبإه، والانعتاق من محبِسه. ويعبر عن نفسه أحياناً في اللقاءات البينية مع الأقارب والأصدقاء، وفي الجلسات التي تنعقد بعد صلاة الجمعة في حجرة الإمام.

وهذا ما جعل المؤذن في أحد أيام الجمع، وقد تغيب أخي لسبب لم أعد أذكره، يتوجه إلي دون بقية المصلين فيطلب مني أن أؤدي الخطبة. كان يحمل في يده نسخة من مجلة (التربية الإسلامية) التي تصدر شهرياً يتضمن كل عدد منها خطبة جمعة. تناولت النسخة، ثم غرقت في عالم آخر وكأنني غُصت في دوامة من الهواجس والشعور بالخوف.. كيف سأواجه الجمهور؟ هل سأتماسك؟ ماذا سأقول؟ هل سيكون لكلامي في نفوس الحاضرين وقع جيد وقبول؟ أم سأتلجلج وأبدو متردداً وجلاً؟ ماذا لو وقفت على المنبر وضاعت مني الكلمات، وطارت المعاني، واحتبس الصوت في الحلقوم؟

وأساس المشكلة أنني لا أريد أن ألقي خطبة مكتوبة في مجلة فأكون شبيهاً بممثل يلقي نصاً؛ وهذا لا أريده أن يكون؛ فلطالما انتقدت الخطباء الذين يرتقون المنابر وفي أيديهم ورقة يقرأون منها فتخرج كلماتهم ميتة متخشبة لا روح فيها، فكيف أكون الآن واحداً منهم؟! لكن ماذا أفعل وليس في بالي موضوع والوقت في طريقه للنفاد، وبسرعة؟! لو قيل لي قبل أسبوع: جهز نفسك لخطبة الجمعة لقطعت الأيام السبعة بلياليها أتهيأ لهذا الموقف العصيب، فكيف وما بيني وبين المنبر سوى سبع دقائق!

وفي سرعة البرق استجمعت قواي الفكرية والنفسية كلها، وزورت في داخلي موضوعاً لم يعد في بالي منه سوى شاهد المرأة الإيطالية التي تشجع ابنها على قتال المسلمين أيام الحروب الصليبية. وأذن للأذان الأول وأنا غارق في داخل ذاتي، وقد سخن وجهي واحمرت أذناي. ثم – بعد دقائق – توكأت على نفسي وتقدمت نحو المنبر. جاءني المؤذن بطاقية؛ فأنا أرتدي بدلة سفاري زرقاء قصيرة الأكمام! وضعت الطاقية على رأسي الحاسر وارتقيت المنبر. سلمت على المصلين وجلست. هاهو الأذان يتلاشى بسرعة. واستغثت بذكائي بعد دعاء ربي، فأشار علي بأن أبدأ خطبتي بعدة آيات للحمد أحفظها حتى أمنح نفسي فرصة للاطمئنان واستيعاب الموقف.

ونجحت الفكرة!

فما هي إلا دقيقتان أو أقل حتى استقرت نفسي واجتاحني شعور جارف بالقوة وكأنني أبادل صديقاً قريباً إلي أحاديث الود وعبارات الترحاب، ووجدتني وكأن غمامة انقشعت سحبها عن ناظري، ودوامة خرجت منها منتعش الروح والجسد! إلا أن رعشة كانت قد انتابت رجلي اليسرى أول ارتقائي المنبر ما زالت تنخسني، ثم بدأت بالتلاشي شيئاً فشيئاً. أظن ذلك ضعفاً من أثر ضرب سلطه والدي عليها يوماً من الأيام جزاء هروب ارتكبته إلى بيت والدتي. وألقيت الخطبة، وكانت كما أريد، وأنجاني الله تعالى من موقف عصيب. كان ذلك يوماً ما زال تاريخه محفوراً في ذاكرتي.. 18/6/1982.

 

دعوة الأقارب

في تلك الأيام ابتدأت فعملت دورة لتحفيظ القرآن وأحاديث (الأربعين النووية)، وتدريس العقيدة لمجموعة قليلة من أبناء أخوالي. كان بين بيتنا وبيوتهم مسافة بعيدة ربما بلغت عشرة كيلات، في زمن يشكو من قلة وسائط النقل. كنت أقطع الطريق المحاذي للنهر المتفرع عن نهر (الخربانة)([2]) الرئيس مشياً وأتلفت فإذا أقبلت سيارة واستجاب صاحبها أقلني إلى مركز الناحية، ومن هناك أحتاج إلى سيارة ثانية، فربما وجدت، وهو الغالب، وربما واصلت المسير على قدميّ. وأحياناً أبيت عندهم استمتاعاً برفقة أخوالي وخالاتي وأبنائهم، وقد يأتي محمد أو ياسين أو كلاهما في إجازة من ميدان الحرب فتكون الفرحة مضاعفة.

واصطحبت خالي في سيارته (البيكب) نهاية الصيف عند ختام الدورة، إلى سوق السراي وشارع المتنبي، لنشتري هدايا للمشاركين، منها (تفسير المؤمنين) وهو مصحف موشى بحاشية تفسير مختصر. وبينما نحن نبحث عن الهدايا المناسبة وقبل أن ندلف إلى مطعم للمشويات عند ساحة الرصافي قريباً من شارع المتنبي، كنت ألجه أحياناً في فصل الدراسة، قلت لخالي: سأقول يوماً: من هنا مررت أنا وخالي إسماعيل. فابتسم وردها عليّ قائلاً: وأين خالك إسماعيل يومها حتى تقول ذلك؟ كأنه يشير إلى الموت، وكان كلامي يشي به، فضحكت وقلت: عمرك طويل يا خالي!

توفي خالي إسماعيل رحمه الله في رمضان سنة 2000 على سجادة الصلاة بعد أن تناول السحور. كان كثيراً ما يسأل الله تعالى أن يميته دون أن يطيل عليه سكرات الموت، واستجاب الله دعاءه! فما إن توجه للصلاة وقبل أن يرفع يديه بتكبيرة الإحرام حتى نادى على ولده قائلاً: أشعر بألم في كتفي أسرع إلي! وبينما كان ولده يفرك موضع الألم بيديه توفي فجأة وهو يردد الشهادتين!

كان – رحمه الله – رجلاً شفيفاً.. سريع الخشوع، قريب الدمعة، شديد التأثر بالقرآن.. إذا شهدته يقرأه، أو رأيته يسمعه شعرت أحياناً كأنه يتذوقه، بل أحس كأنه يتطعمه تطعماً! وكثيراً ما سمعته، وهو في حالة نشوة من سماع، يقول: سبحان الله! إن هذا القرآن له في كل لسان ذوق! يقصد أن الآية يختلف أثرها في النفس من قارئ إلى آخر.

وكان وصولاً للرحم، يسارع في الخيرات، غيوراً على دينه، كريماً ينفق في سبيل الله ويحرص على أن يكون الإنفاق ذا جدوى في طريق الدعوة. يهتم بأمر المسلمين، ويسعى إلى إغاثة الملهوف، ويتفقد بعض الدعاة فيذهب إلى بيوتهم بجزء من الحاصل الزراعي عندما يذهب إلى السوق لبيعه.

رجعت يوماً من الرمادي خالي الوفاض من سفرة حاولت فيها الحصول على مبلغ من المال للقيام على شؤون بضعة طلاب من أهل الجنوب يدرسون العلم الشرعي في الرمادي. قال لي أحد الأثرياء: أريد طلاباً جدُداً أنفق عليهم. قلت له: وهؤلاء من ينفق عليهم؟ وتبين لي أنه حزبي يريد أن يكون له عمل خاص يزايد به عند من يزايد به عندهم! وعلى الطريق الدولي بين الفلوجة والمحمودية سقطت دمعة. ورأيت خالي فشكوت إليه الحال فلم يكتف بالتبرع بمبلغ مناسب من ماله، إنما ذهب فجمع لي مبلغاً آخر من معارفه وأقربائه، يحرض الواحد منهم بقوله: لو جاءك ضيف ألا تذبح له خروفاً؟ طيب أنا ضيفك. ولكن بدل أن تذبح لي خروفاً تبرع لله بجزء من ثمنه.

وكان خفيف الظل مرحاً، تعجبه النكتة والمواقف الطريفة ويرويها لجلسائه. رجع يوماً من الحلة، وفي الطريق عند مدينة المحاويل شاهد خيمة كبيرة منصوبة، فسأل عنها؟ فقيل له: هذا مجلس عزاء (عبيد شراثي).. هل تدري كيف مات؟ قال: لا. فقال محدثه: كانت له حمارة أتعبته بمشاكساتها فأراد أن ينتقم منها فجاء بها إلى جانب الطريق ينتظر بها لوري يدهسها. وما إن رأى أحد اللوريات الكبار مقبلاً حتى تهيأ فأمسك برقبتها ومؤخرتها ثم دفعها أمامه بكل ما في جسمه من قوة. لكن مرارة الموت جعلت الحمارة تلتم على نفسها وتروغ فإذا به ينزلق عبر ظهرها ويسقط أمام اللوري فيدهسه هو وتسلم الحمارة! كان رحمه الله يرويها ويضحك ويقول: “هههه راح فدوة لمطيته!”، أي ذهب فداء لحمارته.

 

خميس سبع السعيدي

أديت النشاط نفسه في المحمودية قبل ذلك وبعده مع أقارب لي كنت أدرسهم العقيدة في أحد شروح كتاب (التوحيد الذي هو حق الله على العبيد) وأظنه كان (إبطال التنديد شرح كتاب التوحيد) وتفسير بعض الآيات وحفظ بعض الأحاديث، أذهب إليهم أسبوعياً مع صاحب لي من رواد المساجد العريقين يوم كانت المساجد شبه خالية، ومن العاملين بالدعوة إلى الله تعالى، هو خميس سبع السعيدي (أبو بلال) في سيارته (البيكب)، يتركني عند أخوالي ويذهب هو إلى أخواله أيضاً وكانوا يسكنون المنطقة نفسها.. (بزايز اللطيفية)/شاخة 3. قضينا في ذلك عدة سنوات.. وكنا نتدارس التفسير بيننا أنا وهو في كتاب (التفسير القيم).

واتبعت الطريقة نفسها مع غيرهم.

رحمك الله يا أبا بلال، كانت سنين جميلة عشناها معاً.. دعوة، أخوة، وفاء، هموم، أحلام، آمال، وكم قطعنا من مسافات في سيارتك (البيكب)، وتبادلنا من زيارات، وسافرنا هنا وهناك. عزائي وقد غادرت وجودنا الفاني أن ألقاك في ذلك العالم الخالد وقد كتب الله جل في علاه ما عملناه معاً من عمل حسن، وتجاوز عما اقترفناه أو اختلت به النوايا، وزادنا من فضله. وليس ببعيد عن كرمه أن يبدل سيئاتنا حسنات، وحسناتنا رحمات.

ختمت حياة صاحبي خميس بأن قتل على يد الأمريكان. ليلتها كان راجعاً من حفلة عرس لأحد إخوته فأطلق جنود أمريكان النار عليهم وكانت معه عائلته فأصابوا بعضهم بجروح، أما هو فقتل مكانه، وذلك في خريف 2005. وكأن الله أراد أن يأتي به إليه شهيداً فقد كان عند احتلال العراق يعاني من مرض (الشلل الارتعاشي Parkinsonism) الذي أصيب به قبل بضع سنين من وقوع الكارثة؛ فلم يكن قادراً على حمل السلاح، وقد زرته عدة مرات تلك الأيام في بيته في الريف على طرف من مدينة المحمودية يسار الطريق الذاهب إلى (جرف الصخر). ومن حسنت بدايته حسنت خاتمته. كان شخصاً نادر المثال في صفاء نفسه ونقاء وده، وحبه للدين، وملازمته للمسجد منذ شبابه في عهود جدباء يتابع فيها الشاب الذي يداوم على الصلاة في المسجد من قبل رجال الأمن، ويكون ذلك علامة ليست في صالحه. ومن المألوف أن يكتب عنه تقرير من أي شخص ويرفع إلى الجهات الأمنية على أنه من رواد الصلاة في المسجد! واستمر هذا الوضع حتى منتصف الثمانينيات، وبعدها بدأ ينفرج شيئاً فشيئاً.

25/10/2014

 

 

 

[1]–  رواهُ الترمذي وقالَ: حَديثٌ حَسنٌ.

[2]– يوجد في جبلة نهران باسم (الخربانة): أحدهما، وهو الرئيس وعرضه أضعاف الآخر، يتفرع من نهر المشروع باتجاه الجنوب من عند الجسر الذي يؤدي إلى مركز المدينة، وتنبثق عنه عدة أنهر. كنا نسكن في نهايات أول فرع من فروعه ويتجه غرباً على بعد حوالي خمس كيلات من منبعه الذي يبعد عن مركز الناحية حوالي ثلاث كيلات. والثاني أصغر من النهر الكبير ويبعد عنه إلى الشرق منه حوالي ثلاث كيلات. يسكن أخوالي في القطعة قبل الأخيرة من نهايته.

اظهر المزيد

‫3 تعليقات

  1. رحم الله من ذكرتهم جميعا واطال الله في عمرك وبارك فيه
    حياتك يا شيخي ترهم فلم لانها مليئة بالاحداث الشيقة

  2. الله. الله…
    رحم الله الحاج اسماعيل…ورحم الله الحاج ابو بلال.. حفظك الله يا دكتور وامد الله في عمرك وبارك فيه…
    ألم السنين… حين الى الماضي… ذكريات جميلة ومؤلمة في نفس الوقت.. .. كلها قد اودعتها بين الحروف والكلمات… لقد نفشت ذاكرة قلوبنا فشتاقت وتهللت العيون…. بل هناك اشارات وآهات.. وقصص وحكيات تركتها بلا عنوان قد لا يدركها الا من عاش معها في تلك الايام الجميلة بوجودكم ووجود تلك الثلة الطيبة . لقد تطايرت كثير من الصور وانا امر على كلمات هذا المقال كانها يوم امس قد سجلها الكريم عنده سبحانه ، ورحم الله ابن الجوزي على قولة :ان مشقة الطاعة تذهب ويبقى ثوابها، وان لذة المعاصي تذهب ويبقى عقابها..
    الحمد على نعمه وفضلة وتوفيقة… حفظك الله ..

  3. رحم الله حجي اسماعيل.ورحم الله ابو بلال.. حفظك الله يا دكتور وامد الله في عمرك.
    ذكريات جميلة… كلها قد اودعتها بين الحروف والكلمات… لقد نفشت ذاكرة قلوبنا فشتاقت وتهللت العيون بالدمع … بل هناك اشارات وآهات.. وقصص وحكيات تركتها بلا عنوان يدركها من عاش معها في تلك الايام الجميلة . لقد تطايرت كثير من الصور وانا امر على كلمات هذا المقال كانها يوم امس قد سجلها الكريم عنده سبحانه، ورحم الله ابن الجوزي على قولة :ان مشقة الطاعة تذهب ويبقى ثوابها، وان لذة المعاصي تذهب ويبقى عقابها..
    الحمد لله على نعمة الايمان وفضلة وتوفيقة… حفظك الله ..

اترك رداً على كسار الشمري إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى