مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

الوالي الأموي قرة بن شريك القيسي..ما كتبه المؤرخون عنه فضيحة مدوية من فضائح التاريخ

 

د.طه حامد الدليمي

 

قرة بن شريك القيسي أو العبسي (يعود في نسبه الأعلى إلى عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان العبسي)، عينه الخليفة الوليد بن عبد الملك والياً على مصر سنة (90هـ/709م) بعد عزل أخيه عبد الله بن عبد الملك. وبقي والياً عليها حتى وفاته سنة (96هـ/714م).

عندما نقرأ ما كتبه المؤرخون المسلمون (مثل الذهبي وابن الأثير والسيوطي) ونقارنه بما أفصح عنه خبء الأرض من وثائق كتبت في عهده على ورق البردي.. نجد البون شاسعاً والشق واسعاً بين ما كتب عنه من منقول الأخبار، وبين ما نطقت به الوثائق والآثار.

إن الفرق بين الصورة التي ترسمها الأخبار عن الوالي قرة بن شريك والصورة الأُخرى التي قدمتها الوثائق، تمثل فضيحة مكتملة العناصر من الفضائح المدوية للتاريخ، تدعونا لأن نعيد النظر فيما نجده من مكتوباته، ولا نتسامح باعتمادها لمجرد تحسين أو تصحيح العلماء دون إضافة شروط موضوعية أُخرى، يأتي السند في آخرها، أو في موضعه الذي يستحقه من الترتيب التسلسلي في مجال التوثيق.

 

ماذا قالت كتب التاريخ عن الوالي العادل قرة بن شريك القيسي

قال الذهبي في (تاريخ الإسلام) متحدثاً عن والي مصر قرة بن شريك القيسي: أمير مصر من قبل الوليد. وكان ظالما فاسقا جباراً.

قال أبو سعيد بن يونس: كان خليعاً، مات على إمرة مصر في سنة ست وتسعين، بعد أن وليها سبع سنين. أمره الوليد ببناء جامع الفسطاط والزيادة فيه. قال: وقيل: إنه كان إذا انصرف الصناع من بناء الجامع دخله فدعا بالخمر والطبل والمزمار ويقول: لنا الليل ولهم النهار. وكان من أظلم خلق الله. همت الإباضية باغتياله، وتبايعوا على ذلك، فعلم بهم، فقتلهم. قال ابن شوذب وغيره: قال عمر بن عبد العزيز: الوليد بالشام، والحجاج بالعراق، وعثمان بن حيان المري بالحجاز، وقرة بن شريك بمصر! امتلأت الأرض – والله – جوراً. ويروى أن نعي الحجاج وقرة وردا على الوليد في يوم واحد، وليس بشيء، فإن قرة عاش بعد الحجاج ستة أشهر([1]).

شيء مضحك – وضحكت فعلاً – حين رأيت الذهبي لم يهمه من الخبر كله على بشاعته سوى مسألة فرعية حد التفاهة قياساً إلى ما فيه من طامات.. الخطأ في تاريخ الوفاة!

ثم ما هذا الحرص على تكرار قول سيئ في والٍ مسلم، منسوب إلى عمر بن عبد العزيز دون تثبت ولا سند.. أربع مرات: ثلاث منها باللفظ السابق نفسه([2])، ومرة بهذا اللفظ: قال ابن شوذب: قال عمر بن عبد العزيز: أظلم مني من ولى عثمان بن حيان الحجاز، ينطق بالأشعار على منبر رسول اللهe، أو ولى قرة بن شريك مصر. أعرابي جافٍ أظهر فيها المعازف، والله المستعان([3]). والظاهر أن كلمة (والله المستعان) من قول الذهبي! فإن كان كذلك فهذه إشارة على أنه نقل الخبر مُثْبتاً وموثقاً له!

وبمثل ما في (تاريخ الذهبي) أو أشد، تجد القول في ذم قرة بن شريك عند ابن عساكر (ت: 571هـ) في (تاريخ دمشق ومختصره)([4]). وكذلك (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة) ليوسف بن تغري بردي (ت: 874هـ)([5]). و(حلية الأولياء وطبقات الأصفياء) لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت: 430هـ). و(حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة) لعبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (ت: 911هـ)، وغيرهم وغيرهم.

لكنني وجدت الأمر مختلفاً في بعض كتب التاريخ خصوصاً المتقدمة منها. وذلك يبين من النظر إلى تواريخ وفيات مؤلفيها، مثل كتاب (فتوح مصر والمغرب) لأبي القاسم المصري عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم (ت: 257هـ)([6]). وكتاب (تسمية ولاة مصر) لأبي عمر محمد بن يوسف بن يعقوب الكندي (ت: 350هـ)([7])، وكتابه الآخر (كتاب الولاة وكتاب القضاة للكندي)، وكتاب (المسالك والممالك) لأبي عبيد عبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكري الأندلسي (ت: 487هـ).. إذ لم أجد فيها أياً من تلك السفاسف التي حوتها الكتب التي ذُكرت قبلها؟

إن بين الوالي ابن شريك وبين أقرب مؤلف كتاب من الكتب التي راجعتها تضمن الذم، أي ابن تغري بردي، (336) سنة. أما أبعدهم، أي السيوطي فبينه وبين ابن شريك (815) سنة. وهذا يعطينا فكرة لا بأس بها عن المدة التي احتاجتها تلك العبارات الهابطة لتكتب أو تتسلل إلى تلك الكتب. بينما الكتب الأقرب زماناً إليه، وهي ثلاثة، كانت نظيفة من تلك السفاسف. والأمر في حاجة إلى استقراء أكثر، كما هو في حاجة إلى معرفة ودراسة الأقطار التي كان يسكنها المؤلفون، والنظر في قربها وبعدها عن مصدر التحريف، أقصد إيران؛ فربما نخرج بنتائج مهمة.

ولخير الدين الزركلي (ت: 1396هـ) تفسير وجيه لما ذكره المتحاملون في قرة بن شريك فيقول: ومؤرخوه في العصر العباسي وما بعده يرمونه بالفسق والظلم، ويأتون بقول ينسبونه إلى عمر بن عبد العزيز: “الوليد بالشام، والحجاج بالعراق، وعثمان المزني بالحجاز، وقرة بمصر؟ امتلأت الدنيا والله جوراً”([8]).

لقد كشفت البرديات التي عثر عايها في مصر أخيراً زيف كل ما ذكر عن هذا الرجل العظيم، قرة بن شريك، من سوء. وأنه على العكس من ذلك – كان حاكماً حازماً عادلاً رحيماً ذا دين وخلق، بعيداً كل البعد عن سفاسف الأمور. وستجد تفاصيل ذلك في تكملة البحث في حقل (الدراسات والبحوث)، على الرابط التالي:

الوالي الأموي قرة بن شريك القيسي..ما كتبه المؤرخون عنه فضيحة مدوية من فضائح التاريخ

 

 

22/6/2020

 

[1]– تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام، 2/1158، شمس الدين الذهبي، تحقيق الدكتور بشار عوّاد معروف، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 2003م

[2]– تاريخ الإسلام، 1166، و3/97.

[3]– تاريخ الإسلام، 2/1041، مصدر سابق.

[4]– تاريخ دمشق، 49/305 فما بعدها، ابن عساكر أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله (ت: 571هـ)، تحقيق عمرو بن غرامة العمروي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1415هـ – 1995م.

[5]– النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، 1/217 فما بعدها، أبو المحاسن، جمال الدين يوسف بن تغري بردي (ت: 874هـ)، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دار الكتب، مصر.

[6]– فتوح مصر والمغرب، ص158، أبو القاسم المصري عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، مكتبة الثقافة الدينية، 1415هـ.

[7]– تسمية ولاة مصر، ص84-86، أبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب الكندي المصري، تحقيق دكتور حسين نصار، دار صاد، بيروت.

[8]– الأعلام، 5/194، خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس، الزركلي الدمشقي، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشرة، 2002م.

اظهر المزيد

‫12 تعليقات

  1. شر البلية ما يضحك تجد العربي المستعجم بثقافة شيعيى خوارجية شعوبية يطعن بالولاة المسلمين وان العدو الاستشراقي يكون أقرب للانصاف والعدل

  2. اشكر شيخنا الفاضل على هذه المعلومات التي كشفت حجم التزوير الذي طال عظماؤناأس

  3. تسلل الأعاجم كلصوص -في وضح النهار- إلى دواوين التاريخ والحديث.. لكن من سيكشفهم وقد “تجلببوا” بالدين وبدا للامة أنهم جزء من رواة الحقيقة وموثقي التاريخ..
    لقد البسوا تاريخنا ثوبا مرقعا لا يليق بأمة العرب ولا بقادة الإسلام ..
    لكن -والحمدلله أولا وآخرا- لقد ظن الأعاجم أنهم قد أطبقوا على تاريخنا قبضتهم .. وما ظنهم إلا كـ سراب بقيعة .. لقد بعث الله لهذا الخبث تيارا يأتي على زرعهم الخبيث فيجتثه من جذوره ..
    بارك الله هذا الجهد العظيم وأعانك شيخنا الكريم …

  4. أستمرت الدولة الأموية بالفتوحات في زمن تاريخ الجيل السابق التي نشرة الدين الاسلامي في ربوع الأرض وهذا الحدث يغيض الفرس ومن سارة على دربهم لتشويه سيرة القادة من الصالحين والمصلحين في هذه الدولة الذين ألحقوا بالفرس الخسائر الجسيمة لأنقاذ الشعوب من ظلمهم كان لهم النصيب من الطعن المتلاحق والتشويه ،
    و الكلام عن( الوالي الأموي قرة)لا يليق بأنسان عاقل فاهم فكيف بمن كان والي على مصر في زمن الدولة الأموية الراشدة العادلة بهذه االاتهامات الباطلة الخبيثة الفارسية التي دخلت إلى مصادر كتبنا ووضعت فيها السموم عن طريق الروايات والأحاديث للطعن برموز الدولة الاموية
    ثم تسللوا الى كبار الصحابة أبوبكر وعمر وعثمان وزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة وحفصة ،
    والحمد لله الذي رزقنا الله بالفكر الجديد لتصدي لهذه الألغام الفارسية وجزاكم الله خير الجزاء شيخنا الفاضل

  5. نعم شيخي العزيز نحن لاننسى بأن هنالك الكثير من التزوير في التاريخ والطعن في شخصيات عظيمة قد حكمت بعدل وخاصة الطعن يكون في الأمويين الذين لقنو الفرس درس عظيم لذلك هم يطعنون بهم والفرس يحقدون على العرب لانهم اهل حضارة وتاريخ عظيم وحتى لو كانت كتب عربية فكم من كتاب قد زور وكتبت فيه الدسائس والأكاذيب
    ونشكرلك جهدك شيخنا العزيز على تبيان تلك الحقائق الزائفة فهاذا جهد عظيم ونحن نفخر بأننا نقرأ لك هذا المقال المليئ بالحقائق الواضحة
    جزاك الله خيرا .
    ………………………………..
    🌸الحمد لله رب العالمين 🌿

  6. بوركت على هذا البيان يادكتور
    بتنا نتساءل ، كم من نزيه ظلمه كتبت التاريخ!
    وكم من مواقف شوهت وزورت ،وفقك الله وسددك

  7. هذا المقال يؤكد على ضرورة أعادة قراءة التاريخ بعين فاحصة وذهن واع يقرأ ما بين السطور وما خلفها ولا يكتفي بماظهر .. فكما يقال ” الشيطان يكمن في التفاصيل”

  8. عندما نطلع على الحقائق ونرى حجم التزوير والتحريف الذي طال تاريخنا
    نقف موقف المذهول وأكثر مايزيد الغرابة تجد العرب المستعجمين أشد علينا من الاعاجم نفسهم.
    جزاك الله شيخنا عن الامه وعن بحثك لكشف خبايا التاريخ والتنقيب عن الحقيقة خير الجزاء فبعد تنويرك لنا أصبحنا نقف ونفكر عند كل معلومة نقرأها وما عادت عقولنا تمتص كل مايلى عليها.

  9. لم أكن يوما أثق بكتب السير والأخبار فكل منشأها على الاخبار السماعية ولم يكن هناك من يؤكد او ينفي شيء جازما بما فيها الذهبي عفا الله عنه وعنا

  10. يوماً بعد يوم يتأكد لي حجم الزيف والتزوير والأكاذيب التي تسللت لكتب التاريخ لتغدوا بعد ذلك تاريخاً لنا!!!
    فكيف يمكن أن نقبل مثل هذه الترهات التي تلصق بالقرن الثاني من خيرة القرون ونعتبرها حقائق ومسلمات دون تمحيص وتدقيق.
    الآن، صار لزاماً علينا أن نقف مرات ومرات في كل تاريخ يسيء لتاريخنا الناصع فأعداؤنا لم يتمكنوا من قرآننا لكننا يجب أن نعترف أنهم تمكنوا مما هو دونه ودونه والتاريخ أحداها.

  11. والله يا دكتور الذي أوردته يدمي القلب يجعلنا نقلب الكتب من جديد في كل موروث تاريخي أو حديثي فهذا التاريخ مزيف بالكذب والدجل والخرافة والله حتى الشيعة لم يفعلوا الموبقات بهذه الوقاحة التي عملها قرة
    نعم الذي يقرأ هذا التاريخ وعن هؤلاء الأمراء لا يأتي في ظنه إلا عن أمة فاجرة أنتجت مثل هؤلاء فكيف أجاز الذهبي ومن مثله من العلماء أن يرووا مثل هذه الخرافات والتفاهات حقا إنهم ليسوا بعلماء
    العالم يجب أن يكون ربانيا والرباني يقف عند قوله تعالىوَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
    والله لولا مقام الموقع في نفسي من منزلة لتكلمت بأشد من هذا الكلام ٠٠٠ تحياتي

  12. توجهت السهام على الدولة الأموية أمراءَ وولاة.
    وهذه السهام التي بُريت بأيدٍ شعوبية واغتر بها بها المؤرخون والذين يغتر بهم عموم من يقرأ إلا من يستبصر ويبحث باسلوب البحث العلمي الوقَّاف عند الحقائق ولا ترهبه الأسماء الكبيرة التي كتبت.
    ويوماً جلست بين المغرب والعشاء وحضرت محاضرة عند ثاني شخصية علمية في السودان.
    ويحمل عنوان دكتور!
    وهو من هو عند الدعاة والمفكرين اليوم!
    وقد ذكر سليمان بن عبد الملك بشين وبرواية منكرة.
    ولما انتهت الصلاة وانسحب هو إلى غرفته في الجامع دخلت عليه، وعرفته بنفسي، وبدأت اذكر له سند الرواية المهلهل، كما ذكرت له علل متن الرواية.
    فما كان منه إلا أن قال: غرني الذهبي بها!
    وكم اغتر غيره؟!

اترك رداً على الوليد إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى