الأيام الخواليديوان القادسية

أعواد المنابر

 

د. طه حامد الدليمي  

 

التكليف بالخطابة

حصلت على كتاب تكليف بالخطابة من وزارة الأوقاف حوالي سنة 1992 بعد أن اجتزت امتحان التأهيل أمام لجنة كانت تعقد دورياً في مقر الوزارة لهذا الغرض، أذكر منهم الشيخ عمر الديبكي والشيخ عبد الله الشيخلي والشيخ عبد الله حسين الكبيسي. وقد حصل يوم الامتحان موقف طريف يستحق التوقف.

أديت الخطبة أمام اللجنة، كانت لغتي سليمة تماماً بحيث بان الارتياح على وجوه الأعضاء، وأغناهم ذلك – على غير العادة المتبعة – عن توجيه أي سؤال لغوي. لكن المشكلة في موضوع الفقه، إذ لا بد أن يكون حسب المذهب الحنفي أو الشافعي؛ فماذا أفعل وأنا لم أدرس الفقه المذهبي، بل كنت أقرأ كتب الفقه المقارن التي تتبع الدليل دون التزام فقه معين؟ وأعتبر نفسي (متبِعاً) لا (مقلِّداً)، وهو توجه تكرهه المؤسسة الدينية الرسمية وتحارب أصحابه معتبرين إياهم (وهابية) أو (سلفية). ولكن لا بد مما ليس منه بد فجاء السؤال المعهود: على أي مذهب أنت؟ فبم أجيب وكل الأجوبة ليست في صالحي: إن قلت: لا أقلد رسبت، وإن قلت: حنفي أو شافعي سئلت طبقاً للجواب فرسبت. فماذا أفعل؟

تذكرت في تلك اللحظة الحرجة كلمة قالها يوماً الشيخ سامي. قال: من الخطأ أن يسمى العامي باسم مذهب معين فيقال له مثلاً: فلان حنفي المذهب؛ لأنه لا يعلم شيئاً عن فقه المذهب. إنما هو منتسب للمذهب. فقلت لهم: أنا منتسب لمذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله. قال لي الشيخ عمر: ما هذا! ما معنى منتسب؟ فأجبته: أنا أرى أن المقلد لا مذهب له، وأنا مقلد، لهذا لا أجرؤ على الادعاء بأنني حنفي المذهب، إنما أنا أتشرف بمجرد الانتساب إلى مذهب الإمام أبي حنيفة. ثم أضفت للاحتياط قائلاً: والدليل أنكم لو سألتموني الآن عن كثير من مسائل المذهب الحنفي لما أحسنت الجواب؛ لهذا أقول: أنا منتسب للمذهب الحنفي، ولا أدعي أنني حنفي المذهب. فتعالت أصوات أعضاء اللجنة: بارك الله فيك.. بارك الله فيك! اذهب راشداً الله يوفقك. وخرجت وأنا لا أكاد أصدق كيف تم المشهد! وسمعت بعضهم يقول لبعض: ما شاء الله طبيب ويتكلم بهذا الكلام!

 

في الهواء الطلق

مارست الخطابة في الهواء الطلق سنين!

لم تكن لدي سيارة؛ فكنت كثيراً ما أقطع الطرق والدروب الطويلة مشياً، وفي أكثر الأحيان أكون وحدي، فكانت لي وسائلي التي تعينني على التعامل مع طول الطريق وفقدان الرفيق، إحداها اختيار موضوع وافتراض نفسي في تلك اللحظة واقفاً على منبر مسجد ألقي خطبة في ذلك الموضوع، وأرفع صوتي وأخفضه وآتي من الحركات والانفعالات ما يناسب الحال. من المؤكد أن بعض مشاهير الخطباء كان في بالي مثل الشيخ محمود غريب والشيخ عبد الحميد كشك، والشيخ سامي رشيد.

ولا أدري متى: أفي تلك الفترة أم بعدها، قرأت عن (ديمستين) أحد خُطباء الإغريق المشهورين أنه لم يكن في البَدء يمتلك الشجاعة والدُّرْبة الكافية. بل كان الناس يسخرون منه ويهزأون به إذا نطق أو تكلم فضلاً عن أن يكون خطيباً. فاتخذ أستاذاً يعلمه الخطابة ويصلح عيبه. فنصحه بالعكوف على القراءات المختلفة، وجاهد في إصلاح لسانه حتى رووا أنه كان يحلق نصف رأسه حتى لا يخرج من بيته أو يقابل الناس! وأقام في منزله شهراً يتمرن على الخطابة والإشارة. وكان يذهب إلى شاطئ البحر ويضع في فمه حصاة ويخطب على هدير الموج كأنه جمهور عظيم؛ فكان أن صلح لسانه.. فانظر معي إلى عزمه وحرصه على التعلم وصبره وجلده ثم كانت النتيجة أن أصبح خطيباً بارعاً مشهوراً تمكن من إثبات اسمه في صفحة التاريخ.

فكانت تلك الخطب التي ألقيها بيني وبين نفسي دورات تدريبية ذاتية عفوية كنت فيها المدرب والمتدرب، هيأتني للدور القادم. وقد استمررت عليها حتى اليوم وإن بصورة أُخرى؛ فما من كلمة أو محاضرة أو برنامج تلفزيوني إلا وسبقته بتمرينات أمارسها في الغرفة وحدي، أتخيل وأرتب فيها الكلمات والمعاني ونفسي والجمهور. وكانت التِّقنية الفاعلة الثانية هي النقاش والتباحث في الموضوع المعين مع آخرين حتى ولو لم يكونوا من أهل الشأن؛ فأن العقول تتلاقح وتتوالد من بعضها، يحكمها قانون (الزوجية) الكوني العجيب!

أذكر أن مدارس المحمودية على اختلاف مستوياتها الابتدائية والمتوسطة والثانوية كانت في تلك العهود تعقد أواخر العام الدراسي احتفالات ومسابقات موسمية متنوعة، بين رياضية وخطابية وفنية. فاختارني مدرس اللغة العربية – وكنت في الصف الثاني المتوسط – مرشحاً لخوض مسابقة الخطابة بين مدارس القضاء المتوسطة ممثلاً لمتوسطة المحمودية. قابلني معاون المدير الأستاذ عدنان المؤذن لهذا الغرض وسلمني كتاباً طويلاً عريضاً جميل الجلد فيه مقالات متنوعة للأديبة اللبنانية (مَي زبادة)، وقال لي اختر موضوعاً منها يكون مادة للتدريب. فاخترت موضوعاً عنوانه (اشتراكية) أو – ربما – هو أشار به عليّ. وجلسنا بعد يوم أو يومين في مكتب المعاون، وما إن بدأت بإلقاء المادة وقلت: “اشتراكية” حتى استوقفني وقال: لا، قل “اشتراكية”، ونطقها بإيقاع خاص وهو يحرك يده، وطلب مني أن أفعل مثل ما فعل نطقاً وحركة. وفعلت. لكنه ظل يستعيدها مني مرات وفي كل مرة لا أفلح في أدائها كما يريد. وكررنا الجلسة في يوم آخر. كان يعروني الحياء ويظهر على وجهي الارتباك، فيخرج صوتي محنطاً، وربما أخذتني الرُّحَضاء.

وعندما أرسل طرفي الآن عبر الزمن وأتفكر في سبب ذلك مع شطارتي وتمكني من اللغة وتحصيلي الأدبي نسبة إلى غيري في ذلك العمر وتلك المرحلة من الدراسة لا أجد سوى أن ذلك نتاج سجية ملازمة لي هي كرهي للتصنع وخجلي من التمثيل وكأنني أنكر نفسي إن بدت على غير ما هي عليه. وقد شعرت بالمعاناة نفسها يوم اضطرتني بعض الظروف لأن أكون أنا والكاميرا والمصور في حجرة واحدة ولا رابع غير الله جل في علاه. كان يمكنني أن أتقمص دور الخطيب أو المحاضر على طريقة الممثل، وكان يخطر ذلك في بالي، لكنني كنت أزدري هذا الخاطر وأستعيبه، وحين أنظر إلى عظمة الأمر وقداسة الموضوع أجد في نفسي من الرفض ما لو تصنعت الأداء لاحتقرت نفسي. حتى إنني أصبت بالإحباط في أول الأمر وقلت: يا لَلخيبة! لن أتمكن من تحقيق هدفي في تسجيل محاضرات بيتية أقول فيها أشياء لا أستطيع قولها في المسجد أو في تجمع عام. ومع ذلك كررت المحاولة حتى تواءمت مع الجو بحيث ذهب عني الشعور بالكلفة وصارت الكلمات تخرج بعفوية تكفي لإيصالها إلى قلب وذهن المشاهد.. لقد نجحت! لكن يبدو أن الأستاذ عدنان قبل ذلك بربع قرن لم يقتنع بي كخطيب فاختار صديقي شامل سعدون بدلاً عني ليخوض المباراة وقد نجح وفاز! لكن بالمرتبة الثانية.

 

مسجد الرحمن في الشاخة/7 من ريف اللطيفية([1])

لم يكن في جعبتي من رصيد خبروي سوى ذلك التدريب الذي كنت أجريه على الطرق الطويلة في الأرياف أو بين أزقة المدن. وغير خطب جمعة قليلة أديتها مصادفة أملتها علي ظروف خاصة. لكنني كنت أمارس الوعظ في المناسبات في التجمعات العامة والاجتماعات الخاصة. لم يكن لدي سوى ما أسلفت يوم بدأت أمارس الخطابة في جامع الحاج محمد الجاسم الجنابي في الشاخة/7 بضعة أشهر لم تبلغ السنة، وكنت أحاضر فيه كلما وجدت فرصة، أطرح موضوعات تركز على الإيمان والحث على الدعوة وترشيد الفكر بعيداً عن التطرف. والوقت المختار بعد صلاة المغرب، نصلي في باحة المسجد في الصيف ويقصر الحضور على جيرانه القريبين منه، فكان العدد قليلاً لا يتجاوز العشرين. واستمررت على المحاضرة حتى بعد أن كلفت بالخطابة في جامع التيسير في المدينة. أما في أيام الجمع فيمتلئ المسجد حتى يصلي بعضهم في الرواق الخلفي، والعدد يتجاوز المئة.

نشأت أثناء ذلك وقبله علاقات طيبة مع كثير من رواد المسجد وأهل المنطقة. كانت الخطب تتناول العقيدة والإيمان والسيرة والأحداث والمناسبات التاريخية، تركز كثيراً على القرآن الكريم، وتستنير بالسنة ثم بالتراث، وتنطلق من الواقع؛ فلا أخطب في موضوعات فكرية بحتة لا مساس لها به. وإن كان الموضوع الرئيس فكرياً أو ذا علاقة بمناسبة أحرص على ربطه بالواقع.

خطبت مرة في بداية شوال عن معركة (أُحد) وعرجت على (الشورى) ومنزلتها في الإسلام، وكانت تلك الأيام قد جرت انتخابات رئاسية صورية في تونس كان المرشح الوحيد فيها هو الرئيس نفسه! فأجريت مقارنة بين الشورى الحقيقية وهذه الانتخابات الزائفة. وقلت: إذا كان المضمار لا يجري فيه سوى حمار واحد فمن المؤكد أن الفوز في السباق سيكون من حصة الحمار الوحيد. بعد انتهاء الخطبة سمعت ضوضاء في الرواق لم أتبين جَلِيَّتها حتى انتهيت من الصلاة. فتبين أن صگبان، وهو عميد متقاعد بعثي، لم يعجبه الكلام عن رئيس تونس واعتبره تعريضاً بالرئيس صدام. بعد يومين زارني في (عيادتي) مجموعة من أهل المنطقة فذكروا أن فتنة في القرية أثارها صگبان وهو يهدد ويوعد؛ وعلى هذا الأساس طلبوا مني أن لا أخطب الجمعة القادمة ريثما يتم تلافي الأزمة. شكرتهم وقلت لهم: أنا لا أستلم التوجيهات من صگبان وأمثاله، وسأخطب هذه الجمعة عندكم إن شاء الله. وإذا كان لديه اعتراض فالحل بأن نلتقي ونتفاهم، لا أن نتبادل التهم عبر المسافات. واتفقنا على موعد في بيت أخيه مصطفى. وذهبت إلى هناك لكنه لم يحضر!

وفي يوم الجمعة جعلت للموضوع هامشاً في نهاية الخطبة الثانية قلت فيه ما معناه: لقد تغير ذلك الزمان الذي ينظر فيه على أن العلاقة بين أهل الدين والدولة علاقة عداء. نحن لم نأت من المريخ ولا كوكب الزهرة، إنما نحن من عوائل معروفة، قدمت شهداء دفاعاً عن هذا البلد. ثم نحن في زمن يتبنى فيه رئيس الدولة (الحملة الإيمانية) في المجتمع! أم ترون الرئيس يكذب على الناس في ذلك؟ ثم يأتي فلان أو فلان يريد تخويفنا بتأويل بعيد لكلام قلناه ونقوله. ألا وإن المجنون هو الذي لا يحس بتغير الأزمنة والفصول فتجدون الواحد منهم يلبس (قبوطاً) في الشتاء، حتى إذا تغير الفصل لم يشعر أن الصيف قد حل، ويبقى مترتدياً ذلك القبوط في (عز) الحر وحمارّة القيظ ويسير في الشارع تحت الشمس والعرق يزخ من جسده والناس تسخر منه وهو لا يدري! أيها المجانين اخلعوا (قبابيطكم) فقد حل فصل الصيف!

وانتهت المشكلة عند هذا الحد؛ فالمواجهة المدروسة خير علاج لأي أزمة.

25/1/2015

 

[1]– الشاخة هي فرع النهر.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى