لمحة عن شيوخ الدين
د. طه حامد الدليمي
لم يكن حال الأعم الأغلب من شيوخ الدين وأئمة المساجد وخطبائها أفضل من حال هذا النموذج (شيخ صالح). ولقد تم تدجينهم بوسائل شتى، منها قلة الراتب، وضعف التأثير الرسمي، والتشكيك بالولاء للدولة.
والأهم من هذا وذاك عدم توفر الأهلية في شيوخ المؤسسة الدينية من جوانبها الثلاثة: العلمي والإيماني والاجتماعي. فمعظم شيوخ الدين تجدهم من ذوي الذكاء المنخفض؛ فهم جامدو الفكر، تقليديون يجترون ما يلقى إليهم بما فيه مما فيه. لم يتلقوا التربية الإيمانية الكافية التي تثبتهم على الحق عند الفتن. وإذا كان الدين – الذي لا يقبل الله تعالى ديناً غيره – نصفين: نصف إيمان ونصف نصرة([1])، فإن شيوخ الدين ممسوح من بالهم واهتمامهم تماماً نصف الدين الذي هو (النصرة). وأما النصف الآخر الذي هو (الإيمان) فعليه – عند معظمهم – ملاحظات حتى من الناحية العلمية، وأما الناحية الخلقية والسلوكية فخبرها لا يخفى على القارئ؛ فماذا بقي لهم من الدين؟ وهل يعلمون هم بذلك؟ أم هم من الصنف الذي قيل فيه: “لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري”([2])؟
ومن خلال خبرتي وعلاقتي بوزارة الأوقاف ومديرياتها ودوائرها اكتشفت أنها من أفسد المؤسسات الرسمية في البلد! ولهذا الفساد المستشري في شرايينها انعكاساته الضاغطة على ما تبقى لدى هؤلاء الشيوخ من عناصر خير في النفوس. كما أن للوضع المعاشي المتدني تأثيره عليهم، فترى الواحد منهم همه في بيت ملحق بأي مسجد، يتهاوش عليه مع آخرين. وهمه في رحلة حج يذهب فيها كمرشد ليحصل على لعاعة من الدنيا على شكل منحة قيمتها لا تتجاوز ألف دولار ينافس عليها غيره، وقد يمسح اسماً من المرشحين ليضع اسمه مكانه طمعاً في ذلك. حتى قلت يوماً: بعض الشيوخ يبحث عن جامع فيه بيت، والبعض الآخر إنما يبحث عن بيت فيه جامع!
أما القلة الملتزمة فكانت تعاني من هذا الوضع السيئ ما الله به عليم.
فقدان القضية ( النصرة )
لكن المشكلة أن هذه القلة الصالحة لا قضية لها. ولا تكاد تجد أحداً منهم يعرف ما (القضية)، وإذا عرف فلا يدرك أن الشيعة هم العدو الأول، وهم المشكلة الكبرى التي هي أساس (القضية). ومنهم من يدرك لكنه يعاني مما يمكن أن أسميه (فوبيا) جمعية من الشيعة. وقد تكلمت عن هذه الظاهرة سنة 1998 في إحدى الخطب([3])، وكانت بعنوان (كيف عالج الإسلام عقدة الخوف من العجم)، بينت أن جذورها ممتدة إلى ما قبل الإسلام، وكان أثرها واضحاً في نفوس العرب الذين أسلموا؛ فكانوا يندفعون أفواجاً لحرب الروم، لكنهم يَكْتَــنّون عن حرب الفرس ويكرهون هذا الوجه!
وفي رأيي أن ذلك ناتج عن اختلاف الشخصيتين الفارسية والرومانية.
فقد كان ظلم الروم كظلم باقي البشر لبعضهم. أما ظلم الفرس فكان اجتثاثياً ثأرياً يغذيه حقد يتأجج على الدوام ولا ينطفئ على مر الأيام مهما كانت درجة الانتقام الذي يوقعونه بأعدائهم! والسر في ذلك أن ظلم الفرس ينطلق من عقد وعلل نفسية جمعية لا من أسباب واقعية ارتدادية. حتى إن التاريخ ليروي لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس على منبر رسول الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام يدعو الناس ويثير هممهم للتوجه إلى العراق لمقاتلة الفرس فلم يستجب له من أحد! فغضب منهم حتى ارتفع صوت من خلف الصفوف: “أنا لها”، فإذا هو أبو عبيد بن مسعود الثقفي فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لقد وليتك”. فلما رأى الناس ذلك تتابعوا للتطوع خلف قيادة أبي عبيد الثقفي.
ولكن طال الأمد بالعرب فعادوا إلى عقدتهم القديمة من العجم. واستنسخت الحال نفسها مع الشيعة، فتجد خطيب المسجد – مثلاً – يصول ويجول ويهدد ويرعد ضد الأمريكان واليهود، وينتقد عقائد اليهود والنصارى، رغم أن خطرها على العراق لا يكاد يذكر، لكنه يجعل أصبعيه في أذنيه ويستغشي ثيابه ويصر ويستكبر استكباراً عن ذكر الشيعة وعقائدهم وخطرهم الذي ما ترك خضراء ولا غبراء إلا أتى عليها.
لم يكن هذا شأن السنة في المناطق التي يغلب عليها التشيع وحدهم حتى يمكن التماس شيء من العذر لهم، إنما هذا شأن الجميع حتى من كان منهم في الأنبار أو الموصل، وهي مناطق سنية محضة. وكنت أعاني من خطباء المحمودية، وهي مدينة سنية بنسبة تفوق الـ(90٪)! أحاول توجيه أنظارهم وإثارة نخوتهم، ولكن عبثاً. قال لي يوماً خطيب جامع المصطفى في المحمودية يبشرني: اليوم تكلمت عن فضائل عمر بن الخطاب! ولخبرتي المتراكمة بالشيوخ وحيلهم في الكلام واتباع أساليب التورية لم يعبرني الخبر دون أن أسأله: هل كان موضوع الخطبة عن عمر أم كان موضوعها شيئاً آخر لكن أوردت قولاً من أقواله شاهداً تعضد به موضوعك؟ فأجاب على استحياء: لقد كان الموضوع (تربية الطفل في الإسلام). فأجبته: الشبابيك ليست طريقاً لدخول العمالقة!
هذا والمحمودية منطقة سنية، كما أسلفت!
هكذا كنا نعاني من الطرفين: الشيعة والسنة كليهما. ومنذ سنة 1998 أعلنت لمن معي: أن صراعنا القادم مع السنة لا مع الشيعة: النخبة بأهوائها وآيدلوجياتها المتحجرة، والجمهور بجهله وتقليده للنخبة.
وهكذا كان. والقصة طويلة، ولها موضع آخر.
8/3/2015
[1]– قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (آل عمران:81-83). ثم قال: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85).
[2]– الناس – كما قيل – أربعة: يدري ويدري أنه يدري، فذلك عالم فاتبعوه. ويدري ولا يدري أن يدري، فذلك غافل فأيقظوه. ولا يدري ويدري أنه لا يدري، فذلك جاهل فعلموه. ولا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فذلك أحمق فاجتنبوه!
[3]– في جامع (التيسير) بتاريخ 30/10/1998.