نحن والفرس .. من يتجنى على من ؟
د.طه حامد الدليمي
يرى بعض الفضلاء تهجماً منا بغير حق، وتجنياً على الفرس يستدعي المراجعة، طارحاً أمام نقدي لهم جملة اعتراضات تتلخص في أن الفرس أمة كبيرة منهم الصالحون ومنهم دون ذلك، وكان لهم تاريخ عظيم في خدمة الإسلام لا سيما في مجال العلم. وما يزال كثير منهم سنة في أفغانستان وطاجاكستان وبعض مناطق إيران. وليس من مصلحة المسلمين إضاعة إخوانهم وتركهم للرافضة، بل السعي لهدايتم ونصحهم هو المطلوب.
ويضيف بعضٌ آخر من الإخوة جملة ملاحظات تتلخص في:
- أن نسبة التشيع إلى الفرس تعني أن التشيع أصلاً خرج من الرحم الفارسي، بينما هو يرى أن أصل التشيع مأخوذ من اليهود على أساس أن أول من ابتدعه عبد الله بن سبا اليهودي.
- أن إيران كانت قبل مجيء الصفويين سنية على مذهب الشافعي، وأن إسماعيل الصفوي لم يكن فارسي الأصل، ومع هذا كان من أشد الناس فتكاً بأهل السنة.
- أن لدينا بعداً قومياً في الطرح، وأننا بذلك نحول الصراع مع الشيعة إلى صراع قومي ضد الفرس فقط دون بقية القوميات.
وأنا إذ أشكر لأصحاب هذه الآراء نصحهم وغيرتهم، وحرصهم على الحق، وتوخيهم الحقيقة، أقول: لقد عايشت الشخصية الشيعية ميدانياً، ودرست أمها الشخصية الفارسية بعمق، وتوصلت إلى نتائج خطيرة، بل هي غاية في الخطورة والأهمية، لا أرى إمكانية لعلاج معضلة التشيع من دون معرفتها أو وضعها على طاولة التشريح والتشخيص. تتلخص هذه النتائج في أن النفسية الجمعية للشخصية الشيعية الفارسية تعاني من تركيبة متشابكة من العقد لم تجتمع كماً ونوعاً في شخصية أخرى كما اجتمعت في هذه الشخصية. وسجلت ذلك في دراستي هذه (التشيع عقدة نفسية لا عقيدة دينية). فأنا صاحب اختصاص في موضوع التشيع، وصاحب الاختصاص يرى في موضوع اختصاصه ما لا يراه غيره ممن لم يتفرغ له كتفرغه، وهو فرق جوهري بينه وبين الآخرين. ورؤيتي المختلفة هذه هي أحد الفروق الاختصاصية، ولا أريد في مقابلها إلا الوقوف عند هذه الحقيقة قبل التسرع بردها؛ حتى لا يغمط صاحب الاختصاص حقه، أو نظلم العلم مستحقه.
وجوابي عن الإشكالات المثارة ألخصه في النقاط التالية:
- لكل شعب خصائصه وأخلاقه .. والاستثناء للبعض من أفراده وارد
إننا إزاء أخلاق شعوب وصفات أقوام وخصائص أمم. إن لكل شعب خصائص وصفات لا تجتمع في سواه. على أن هذه الأخلاق – وإن توفرت في المجموع – قد تفوت أفراداً من المجموع قلوا أو كثروا. فمن المؤكد جزماً أن في كل أمة أفراداً يخرجون عن الوصف العام للأمة. فرب انجليزي في أصله تجده عربياً في خلقه، وعربي في أرومته تجده عجمياً في سلوكه. والله تعالى حين ذم أهل الكتاب استثنى فقال: (لَيْسُوا سَوَاءً) (آل عمران:113). وهكذا الحال مع الفرس، فليس كل الفرس فرساً في أخلاقهم، ولا كل العرب عرباً. فعندما نقول: الفرس كذا وكذا، فإن هذا من العام المخصوص.
- صعوبة تغيير أخلاق الشعوب
إن أخلاق الشعوب وخصائصهم تمتاز بالثبات، وعدم الاستجابة السريعة للمؤثرات الخارجية التي تضغط باتجاه تغييرها، سواء كانت هذه المؤثرات ديناً أم مادة أم إعلاماً أم احتلالاً. فالشعب العربي مسلم، وكذلك الشعب التركي، والأفغاني أيضاً. وكل هؤلاء يقرأون كتاباً واحداً، ومصادر التشريع لديهم واحدة. ولكن هل استطاع الدين الواحد أن يغير من خصائص وأخلاق كل شعب من هذه الشعوب الثلاثة بما يزيل الفوارق بينها ويصهرها بحيث تبدو كأنها شعب واحد لا يمكن أن تقول من خلال السلوك الخاص: هذا عربي وهذا تركي وهذا أفغاني؟ أبداً، فقد ظل العربي عربياً في صفاته زينها وشينها، والتركي تركياً، وكذلك الأفغاني، وهكذا الشعوب جميعاً.
الدين لا يغير خصائص الشعوب، إنما يحسن منها بحسب استعدادها.
لقد دخل الإسلام إفريقيا فلم ينسلخ الزنوج من زنجيتهم وإن طرأ عليها بعض التغيير. بل لم يتمكن شعب كالشعب السوداني مثلاً – وهو شعب معظمه عربي – من التخلص من ميله الطبعي كإفريقي للرقص، على العكس فقد طوع الشعب الدين ليتلاءم مع هذه الخصيصة فكانت الطرق الصوفية أفضل حل للمواءمة بين الشرع والطبع. والرئيس السوداني، وإن كان عربياً، لا يمنعه منصب الرئاسة، بما له من مكانة ويقتضيه من هيبة من ممارسة الرقص بملابس وزيادات مضحكة بالنسبة لنا؛ لأن الطبيعة الإفريقية المحبة للرقص تفرض نفسها، والأهم من ذلك لا يمكن قيادة الشعوب إلا بما يتوافق وتقاليدها، ويتناسب وأخلاقها، ويساير طبائعها.
العربي يمتاز بالكرم، والأوربي بالبخل والحرص: فهل الانجليزي أو الأسباني المسلم تمكن الدين من نقله إلى مستوى العربي في كرمه؟ بل العربي الذي يعايش هذه المجتمعات يبدأ بالتأقلم معها ويحاول تغيير طبيعته العربية بما يمكن شرعاً ويتناسب وأخلاقها. ما الذي يمكن أن يفعل الدين للكردي في عناده، والمصري في لينه، والبدوي في شدته، والعراقي في حدته؟ بل إن الشعب الواحد تتعدد أخلاق مكوناته من منطقة إلى أخرى. فكرم ابن الضلوعية لا يدانيه كرم ابن نينوى وإن كان كلاهما مسلمين. وتحضر الموصلي وانضباطه وطاعته للقانون لا يشبهه فيه الفلوجي. ولا تنس أنني أتكلم على مستوى العموم لا الأفراد. فالاستثناء الفردي وارد. نعم الدين يهذب ويصلح ويدفع باتجاه الخير، ولكن لا يغير خصائص الشعوب والأمم إلا بمقدار. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) رواه مسلم. وإذن تحول الفرس من المجوسية إلى الإسلام لا يلزم منه تحولهم عن أخلاقهم وخصائصهم كشعب. سيما وأن التاريخ يحدثنا أن هذا التحول لم يمر بفترة حضانة واختمار مناسبة تسمح لكثير من هذه الأخلاق أن تتغير على الصعيد الجمعي، على العكس من العرب الذين احتضنت بيئتهم بذرة الإسلام قرابة ربع قرن حتى نما وترعرع واستوى على سوقه، واستقر بينهم ليكون جزءاً من حياتهم.
إن تغيير أخلاق الشعوب وسلوكياتهم وعاداتهم أصعب من تغيير أفكارهم وأديانهم، بل تغيير أشكال لباس شعب من الشعوب أصعب من تغيير دينه ومعتقده! فكيف بأخلاقه؟! إن الأخلاق أعمق غوراً وتغلغلاً في دخيلة النفس من الفكر والمعتقد، هذا على المستوى الفردي، فالأمر على المستوى الجمعي أعمق وأثبت وأصعب على التغيير. وقد جربنا ميدانياً تغيير عقائد الناس، فلما خبرنا أخلاقهم وجدناها لم تتغير إلا في ظاهرها بما يتناسب والتغيير العقائدي، أما في الباطن فما زالت على حالها الذي تكونت عليه بما يتناسب والمجتمع الذي نمت فيه وتغذت على مؤثراته ودوافعه.
- الشعب الفارسي أكثر الشعوب استعصاء على التغيير
فكيف إذا أضفت إلى ذلك أن الشعب الفارسي هو أكثر الشعوب استعصاءً على التغيير، وأن كل الأمم التي غزت بلاد فارس واستوطنتها تغيرت بما يتوافق وطبيعة أهلها، وليس العكس؟! وإليك هذا الشاهد ملخصاً من كلام باحث فرنسي متخصص في شؤون الساحة الإيرانية. كان صديقاً للشاه والدكتور مصدق، هو أدور سابيليه في كتابه (إيران مستودع البارود) تحت عنوان (إيران من الجانب الآخر):
“إن هضاب إيران المرتفعة طالما خضعت أراضيها إلى نير الاحتلال الأجنبي، ولا تزال تتردد فوق أراضيها أصداء وقع حوافر الفرسان الطورانيين والمقدونيين والعرب والمغول والأتراك والأفغان، غير أن حضارتها لم تتوقف عن مواصلة سيرها. كانت إيران تشبه أشجار الحور البيضاء في تبريز تنحني أمام العواصف ولكنها لا تتحطم. وكان الغزاة يتأثرون بهذه القيم الحضارية للبلاد المحتلة ويحاولون الإفادة منها. وفي حوالي القرن السابع انهارت الإمبراطورية الساسانية في الداخل عند الفتح العربي وأصبحت إيران ولاية تابعة للخلافة بعد فرض العقيدة الإسلامية في كل البلاد. وبدا لأول وهلة بان الفكر الفارسي قد طمست آثاره ولم يعد له وجود أو استمرار في هذه المرة. ولكن الحقيقة لم تكن كذلك. وأخذت الثقافة الفارسية تتسلل إلى داخل البيئة الإسلامية حتى أصبحت هذه الثقافة وكأنها جزء من الفكر الإسلامي. وعلى خلاف الشعوب الأخرى لم يمتزج الفرس بوشائج الصلة الوثيقة مع العرب حملة الراية الإسلامية، بل حافظ الفرس على شخصيتهم الذاتية حتى في ظل الإسلام. ففي مقابل المذهب السني الشائع بين العرب اخترعوا المذهب الشيعي. وعندما كان مجموع المسلمين يخضعون لسلطان الخليفة فان الإيرانيين اتخذوا من المذهب الشيعي ذريعة لمناهضة شرعية الخلافة باعتبار عدم جواز الإمامة إلا حصراً بسلالة علي. واستعان الفرس بالتكتل الشيعي لتحقيق مآربهم. إن الفرس مسلمون، ولكنهم يختلفون عن المسلمين الآخرين. ومن هذا المنطلق استطاعوا الاستمرار على تحصين أنفسهم ضد الانصهار. لقد اتبع الإيرانيون التعاليم الدينية التي جاء بها العرب (الأجانب) الفاتحون، ولكنهم لم يلبثوا أن أجروا عليها التعديلات لكي يجعلوها ملائمة لأهوائهم وتقاليدهم. إن الفتح وفرض السيطرة لم يغير من الطبيعة الذاتية للشخصية الفارسية. إن الشعب الإيراني لا يتقبل بسهولة تغيير ما ألفه في حياته اليومية من تقاليد تمتد جذورها إلى ما قبل خمسة آلاف سنة”. إ.هـ.
إن الغدر طبع فارسي قال عنه الفاروق: “احذروا الفرس فإنهم غدرة مكرة”. فكيف يمكن تحويل شعب بكامله عن هذا الخلق الأصيل المتأصل في طبيعته؟ لقد دخل الفارسي الإسلام وفي طبعه هذا الخلق، واستمر وهو عليه. وكذلك بقية الأخلاق والخصائص والصفات: الحقد الأسود، الرغبة بالانتقام، التعصب، التعالي والاستكبار، الشك، الخداع، الصفاقة والوقاحة، نكران الجميل، العدوانية، الكذب والنفاقية، الشعور العميق بالمظلومية، العقلية الخرافية. كيف يمكن اقتلاع هذه الخصال من طبيعة شعب راسخة فيه منذ آلاف السنين؟! لا يتصور ذلك ممكناً إلا من خانته الرؤية العلمية للموضوع. نعم ربما خفف الدين من غلواء هذه السجايا عند بعض الأفراد، أو انمحت منهم تماماً فحملوا الرسالة بصدق وإخلاص ومودة ووفاء، أما على المستوى الجمعي للمجتمع فواهم جداً من تصور أن هذه الأخلاق قد زالت من طبيعة الشعب الفارسي. إن طبائع الشعوب تبقى عصية على التغيير إلا بنسب ضئيلة غير مؤثرة. إلا إذا افترضنا أن الشعب المعين تهيأت له مؤثرات وحواضن خاصة واستمرت عصراً طويلاً، وكان الشعب سهلاً قابلاً للتغير. وهذا ما لم يحصل لبلاد فارس. ومع الأسف فالعكس هو الحاصل بالنسبة للفرس حتى أعْدَوا غيرهم من الشعوب التي عايشتهم واختلطت بهم، فكانوا ناقلين لجراثيم المرض بدلاً من أن يتعافوا هم منها.
- تاريخ الفرس تاريخ تآمر على الأمة
بعد كل هذا يمسي الحديث عن كون شعوب إيران كانوا في حقبة معينة من أهل السنة يتبعون المذهب الشافعي، أو لا مذهب لهم: حديثاً لا قيمة له في المعادلة سوى أنه مجرد إشكال فرعي يحتاج إلى تفسير وتوضيح لا يهم أن نصيب فيه أو نخطئ، لا نقطة اعتراض جوهرية لا يمكن التسلسل في الكلام قبل تجاوزها. خصوصاً إذا استحضرنا عنصر التاريخ لنجد أن إيران طيلة هذه الحقبة لم تهدأ ثائرتها في التآمر على الأمة، أو في سبيل البحث عن وسيلة للخلاص من الارتباط بها والتبعية لها. فبعد سنتين من معركة نهاوند وزوال الدولة الفارسية قتل الفرس أمير العرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه على يد رجلهم أبو لؤلؤة فيروز النهاوندي صاحب المزار المشهور المنسوب إليه في مدينة كاشان الفارسية. وبعد سنوات معدودات أثار العجم فتنة عمياء قلبوا بها نظام الحكم وقتلوا رأس النظام محاولين أن يكون خلفه مجرد واجهة لتنفيذ إرادتهم، وسرعان ما ألحقوه بصاحبه في مؤامرة استهدفت قادة العرب الثلاثة: معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص إضافة إلى أمير المؤمنين علي رضي الله عنهم جميعاً. وكانت عناصر التنفيذ الثلاثة كلهم فرساً من الموالي المتسترة بالإسلام. وقد ثارت فارس على حكم علي في فترة حكمه على قصرها ثلاث مرات، ولم يتمكن من ضبطها إلا بعد أن ولى عليها زياد بن أبي سفيان رضي الله عنهما. وهكذا لم يقر للفرس قرار حتى قضوا على دولة الأمويين في المشرق، ثم استمرت مؤامراتهم تترى حتى ارتكبوا الجريمة العظمى بإدخال المغول إلى عاصمة دولة الإسلام وقضوا بذلك على الخلافة. والمسلسل مستمر إلى اليوم. والسؤال هنا: هل كان الفرس في تلك الأزمنة سنة أم شيعة؟ صفويين أم فرساً؟ هذا كله وغيره حصل في زمان إيران السنية، وقبل مجيء الصفويين بقرنين ونصف! فأين كان سنة الفرس من هذه الأحداث العظام والخطوب الجسام؟
- الشعوب تمثلها نخبها الوطنية والدينية لا دهماؤها وعوامها
لقد دخل المجتمع الإيراني في الإسلام بفعل الفتح الإسلامي، وكان طابعه التسنن كناتج تلقائي لمجتمع يعيش في ظل دولة إسلامية سنية، ولأن موجات استيطان عربية كبيرة غزت الهضبة الإيرانية، ولأن جماهير الشعوب وعوامها ودهماءها ظاهرها على الدوام مع الحاكم تهتف له وتصفق وتعلن ولاءها. والشعوب لا تقاس بعوامها ودهمائها. انظر كم من عوام السنة في العراق ودهمائهم سارعوا لخدمة الاحتلال والانخراط في مؤسساته العسكرية والمدنية! أفهؤلاء – وإن كثروا – يمثلون الشعب العراقي؟! إن الذي يمثل الشعب نخبه الوطنية، خصوصاً النخبة المتدينة منهم، فهؤلاء – وإن قلوا أو تعرضوا للقهر والتهميش في فترة من الفترات – هم الذين يمثلون الشعب، وفيهم تجتمع خصائصه. وهؤلاء هم عنصر الشد وعامل الإثارة ومركز الاستقطاب. وفي جيناتهم تجد المادة الوراثية الخالصة. فإذا أردت أن تعرف أي أمة فابحث عن نخبها، وعن أهل الدين فيهم على وجه الخصوص. الشعب الفارسي لا تجده في عوامه الذين سلموا للأمر الواقع، إنما تجده في خلاصته الذين يحومون حول بيوت النار، وفي أبناء الملوك الموتورين، والأمراء المطاردين، وفي العلماء والمفكرين، وفي القادة السياسيين والعسكريين، وفي الشيوخ والدهاقين، وفي الكتاب والأدباء والخطباء والشعراء الذين يحنون إلى ماضي أمجادهم، وينوحون على مفاخرهم المفقودة، وأيام عزهم الغابر، ويؤججون مشاعر العامة باتجاهها، ويثورونهم على الوضع القائم على أساسها.
وما عدا هؤلاء فغثاء – بالنسبة إليهم – وناتج عرضي لحركة الحياة عند كل شعب، أو أفراد صالحون مغلوبون على أمرهم، لن يتمكنوا في نهاية المطاف من وقف مسيرة الحياة باتجاه ما تفرضه قوى الشد في مركز النخبة. ومن الطبيعي أن يخرج من أصلاب هذا الغثاء، وأولئك الأفراد نخب تعبد الله على بينة. كما أنه من الطبيعي لدى كل شعب أن تجد مجموعة من النخبة تخالف الخط العام لسير المجتمع في فكره وخلقه وعوائده. فحينما نتوجه بالنقد إلى الفرس إنما نقصد تلك النخب التي فيها لا في سواها تتمثل الشخصية الفارسية بكل مكوناتها وعناصرها الفاسدة والصالحة. أما غير هؤلاء فلا يمثلون الشعب، ولا نعنيهم بقولنا؛ لأنهم لا يمثلون الخط العام لسيره وسيرورته.
- الحاكم الدخيل يتمثل أخلاق الشعب وعوائده أكثر من الأصيل
أما الاعتراض بأن بعض الحكام الذين تولوا قيادة إيران – كالصفويين مثلاً – لم يكونوا فرساً في أصلهم: فالجواب عنه ما يلي، وهو مذكور في كتابي آنف الذكر: (الفارسية) وباء يمكن أن ينتقل بالحث والعدوى، فيصيب أجناساً أخرى عاشرت الفرس وتأثرت بهم، أو أفراداً عاشوا بينهم، لا سيما من وصل منهم إلى رأس السلطة في إيران؛ لأن الحاكم يجد نفسه – كي يقود شعباً من الشعوب – مضطراً بطبيعة الحال إلى أن تتمثل فيه جميع الخصائص النفسية والعادات والعوائد الاجتماعية لذلك الشعب، وإلا لن يتمكن من قيادته.
وكما أن رجلاً جاءت به الأقدار ليكون حاكماً أو شيخاً لقبيلة غير قبيلته لا يمكن له أن يقود القبيلة بتقاليد وأعراف غير تقاليدها وأعرافها، وإنما عليه – لكي يستمر في قيادتها – أن يتقمص روحها وشخصيتها، ويتمثل سلوكها، ويعبر عن أمالها وتطلعاتها، وإلا رفضته وفقد السيطرة على قيادها. بل إن هذا الحاكم أو الشيخ الدخيل عادة ما يكون متطرفاً في كل ذلك إلى الحد الذي يتفوق فيه على ابن القبيلة الأصيل؛ لأن عقدة الشعور بالغربة أو الدخالة كثيراً ما تدفع الدخلاء إلى هذا التطرف أو التصرف ليغطوا به على هذا الشعور الذي لن يشفوا منه مهما تطرفوا، وكيف تصرفوا! وهكذا فإن كل من كان من غير الفرس على رأس السلطة في إيران تقمص الشخصية الفارسية بكل خصائصها وعقدها رغم أنه لم يكن فارسياً في أصله وعنصره. إنه يحكم إيران بروحية الفرس ونفسيتهم وأعرافهم وتقاليدهم. بل إن تلك الخصائص تتمثل في الدخيل بدرجة أشد ظاهراً مما عند الأصيل بسبب الشعور بالغربة والدخالة. وهذا ما يدفعه إلى استعراض تلك الخصائص والصفات والتظاهر بها والتشدد فيها كي يغطي على ذلك الشعور. وهو السر الذي يفسر سلوك الصفويين المتطرف، حتى بات التشيع المنحرف يعرف بهم وينسب إليهم. وإلى هذا المعنى أشار البروفسور عماد عبد السلام رؤوف بقوله (الصراع العراقي الفارسي، المقدمة، ص18): “ومع أن سلالات غير فارسية حكمت إيران في بعض العهود إلا أن سياستها لم تكن لتختلف عن السياسة الفارسية التقليدية التي ذكرنا. فالافشاريون والزنديون والقاجاريون مثلا وهم ليسوا فرساً لم يكونوا ليصبحوا (شاهات) لإيران لو لم يلتزموا (بالعقدة الفارسية) فيحذون حذو أسلافهم في معاداة الأمة العربية”. وبهذا يتبين أن قاعدة الاعتراض معكوسة؛ فالحاكم الدخيل أشد تظاهراً بأخلاق الشعب واستعراضاً لها وتمثلاً لها من الأصيل.
- علماء الفرس وغيرهم نتاج حضارة عربية إسلامية
ينسب البعض علماء الأمة من أصل فارسي الذين ظهروا في العصر العربي الإسلامي إلى الحضارة الفارسية. وهذه نظرة تفكيكية سطحية قاصرة؛ لأنها تنسى أن هؤلاء هم نتاج الحضارة العربية التي سادت وانتصرت، وليس الفارسية التي هزمت وتوارت. ولأنها لا تدرك أن كون الحضارة منسوبة إلى قومية أو ديانة معينة لا يعني خلوها من العناصر الأخرى التي امتزجت بها ففقدت خصائصها الأصلية، أو ضعفت هذه الخصائص بذوبانها أو تأثرها أو خضوعها لعناصر الحضارة الجديدة.
إن كثيراً من كبار علماء أمريكا وأوربا من العرب، لكن الحضارة التي يشاركون في بنائها هناك ليست عربية، ولا يمكن أن تسمى كذلك، ولا يصح نسبتهم إلى حضارة مشتق اسمها من قوميتهم أو ديانتهم الأصلية. إنهم نتاج الحضارة الغربية، ولولا احتضان هذه الحضارة لهم لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من مراتب في سلم العلم والإنجاز الحضاري. وهكذا فلولا الحضارة العربية الإسلامية ما ظهر مثل البخاري أو أبي حنيفة أو سيبويه، ولا الفارابي أو ابن سينا، ولا غيرهم بالطريقة نفسها التي ظهروا فيها وقدموا من خلالها خدماتهم للبشرية جمعاء. ولا بأس مع هذا أن يظل العالم على المستوى الشخصي يحمل خصائصه العرقية كلاً أو بعضاً؛ ما دام يعبر عن جهده ضمن منظومة حضارية أخرى. كما هو حال الكثيرين من علماء العرب وهم يساهمون في بناء الحضارة الغربية.
هذا على فرض صحة نسبة هؤلاء العلماء إلى العنصر الفارسي. والحقيقة أن معظم من نسبوا إلى الفرس إما عرب وإما من غير القومية الفارسية، سرقهم الفرس فضموهم إليه.
فأبو حنيفة – مثلاً – وابن سيرين عربيان([1])، والبخاري يرجح أنه عربي، لكنه على فرض أنه ليس بعربي فهو ليس فارسياً: لا نسباً ولا أرضاً. أما النسب فلا أثر يدل على أن البخاري فارسي؛ فهي دعوى فارغة لا أكثر. وأما الأرض فبخارى إحدى مدن الدولة المعروفة اليوم بدولة (أوزبكستان)، وهي إحدى دول بلاد (ما وراء النهر). والنهر هو نهر (سيحون/سيردريا وجيحون/أموردريا). وأما الدول فهي: (طاجيكستان، وتركمانستان، وقرقيزستان، وأوزبكستان، وكازاخستان). وبلاد ما وراء النهر ليست من بلاد فارس وإن احتلها الفرس في بعض فترات التاريخ.
وهذا يكشف عن القصد الفارسي المسبق في تفريس العلوم، فإن وجدوا فارسياً جعلوه إماماً وغضوا الطرف عن الآخرين. فإن لم يجدوا نسبوا أحد المبرزين في العلم المعين إلى الفارسية ليتم لهم المراد. والمشكلة أن عامة من جاء من بعد ذلك رددوا دعاوى الفرس – دون تمحيص – على أنها حقائق مسَلّمة.
هكذا سرق الفرس الحارث بن سريج الخراساني وأبا فروة الرهاوي وإبراهيم بن أدهم البلخي ونسبوهم إلى العجم، وهم من بني تميم. كما اعتبروا أبا أيوب المراغي وابن شاذوان النيسابوري وابن زنجويه النسائي من العجم، بينما هم من الأزد. وعدوا أيضاً أبا حفص البلخي والخليل بن عمرو البغوي وحبيش الطوسي من العجم، وهم من قبيلة ثقيف. ومثل ذلك يقال عن ألوف من أعلام العرب الذين ينتسبون إلى البلدان الأعجمية، وهم من العرب)([2]). وكذلك أبو عيسى الترمذي، وهو عربي من سُليم. وأبو داود السجستاني عربي من الأزد)([3]). بل أصحاب كتب الحديث التسعة كلهم عرب. وقد حققت ذلك في كتابي (عروبة علماء الإسلام وزيوفة الحضارة الفارسية).
وهكذا سرقوا كتاب النحو المعروف بـ(الكتاب) ونسبوه إلى سيبويه. ومعظم ما فيه من إملاءات الخليل بن أحمد الفراهيدي على تلاميذه. جمعت من بعد ونسبت إلى سيبويه!
يقول ابن النديم: (قرأت بخط أبي العباس ثعلب (أحمد بن يحيى ت 291هـ): (اجتمع على صنعة كتاب سيبويه اثنان وأربعون إنساناً، منهم سيبويه، والأصول والمسائل للخليل)([4]). وجاء في أوائل (الكتاب): (وأصل ما جاء به سيبويه عن الخليل… وعن أبي إسحاق: إذا قال سيبويه بعد قول الخليل: “وقال غيره”، فإنّما يعنى نفسه، لأنه أجلَّ الخليل عن أن يذكر نفسه معه… وعن نصر بن علي يحكي عن أبيه قال: قال لي سيبويه حين أراد أن يضع كتابه: تعال حتى نتعاونَ على إحياء علم الخليل)([5]).
تفريس علماء الإسلام
وتمادى الفرس فوضعوا لكل علم من العلوم أماماً نسبوه إليهم – بالزعم أو الحقيقة – لا ينازعه أحد. فإمام اللغة سيبويه، وإمام التفسير مجاهد بن جبر، وإمام الفقه: أبو حنيفة. وإمام تأويل الرؤيا: محمد بن سيرين. وإمام التصوف: الحسن البصري. وإمام الحديث: محمد بن إسماعيل البخاري… وهكذا. ولا أقصد أن مثل البخاري أو أبي حنيفة أو ابن سيرين لم يكونوا أئمة علم، وإنما أقصد أنهم نُسبوا إلى الفرس ليتوصل بهذا التزوير إلى المقصود، وهم ليسوا كذلك.
هل تعلم ؟!
بل اكتشفنا ما هو أغرب..
أن معظم علماء الإسلام في جميع حقول العلم والأدب والفن هم من العرب!
وأنه ليس لدى الفرس حضارة أصيلة، قاموا بإنتاجها ذاتياً. إنهم يستوردون أو يسرقون حضارة غيرهم؛ ليستهلكوها لا ليصنعوها. ثم يخربوا أو يزيفوا ما تبقى منها!
وأن الفرس أمة أمية بحكم القانون الرسمي للدولة! فتعلم القراءة والكتابة يقتصر في قانونهم على طبقتي الملوك ورجال الدين. وأن نسبة الذين يجيدون القراءة والكتابة في المجتمع الفارسي ما كانت تتجاوز 1%!
وليس للفرس خط للكتابة خاص بهم! كتبوا قديماً بالخطر المسماري بمختلف مراحله، ثم تحولوا إلى الخط العربي! وإن اللغة الرسمية للدولة الفارسية كانت عربية سريانية/آرامية! وأن قرابة 90% من مفردات اللغة الفارسية عربية الأصل! وإن أول بيت شعر قاله فارسي باللغة الفارسية كان في سنة 180هـ!
بل لا يوجد في تاريخ الفرس عالم واحد ولا كتاب واحد في أي حقل من حقول العلم والأدب والفن، وضعوه طوال 1170 سنة حكموا خلالها المنطقة قبل الإسلام! والتحدي مفتوح لمن يثبت لنا عكس ذلك.
جهد إيجابي يعادله جهد سلبي
نحن لا يغمط هذا من حق الشعوب في مساهمتهم في بناء الحضارة العربية الإسلامية، ولكن بشرط أن يوضع هذا كله ضمن هذا الإطار، وينظر إليه بهذا المنظار. وكون الطابع السني هو الغالب على هؤلاء المفكرين والعلماء وغيرهم من المجاهدين والعاملين والمشاركين في صنع الحضارة الإسلامية شيء طبيعي بسبب أن الحضارة الغالبة هي حضارة إسلامية سنية بامتياز. هذه ملاحظة جوهرية مهمة جداً.
يضاف إلى ملاحظة توازيها في الأهمية وتقابلها في المعادلة، هي أن هذا الجهد الإيجابي للفرس كان إلى جانبه جهد سلبي خطير لا يقل عنه أثراً – إن لم يزد عليه – يتمثل في المؤامرات السياسية والعسكرية والثقافية والدينية وغيرها من المناشط الحياتية والاجتماعية في الفترة التي كانت إيران ذات طابع سني ظاهري. ومن شواهده تلك الجيوش الجرارة من العلماء والرواة والأدباء والشعراء الذين كتبوا وقعدوا ووضعوا أركان التشيع، ومصادره الأصلية. إن محمد بن الحسن الطوسي الملقب بشيخ الطائفة واضع آخر مصدرين من المصادر الأربعة التي تأسس عليها التشيع كانت سنة وفاته (460 هـ) بينما لم يبدأ حكم الصفويين لإيران إلا في سنة (906 هـ)! أي بعد أربعة قرون ونصف.
في تلك الفترة تأسست أول مدرسة حوزوية شيعية في النجف، أسسها الطوسي هذا. دعك من المؤلفات والكتب والأنشطة الأخرى والركام الكثيف للأحاديث المحرفة التي تصدى لها المحدثون. أضف إلى ذلك الكم الهائل من الضخ الشعوبي برجاله ومؤلفاته ونشاطاته وتحكمه في القرار السياسي والعسكري والتثقيف الاجتماعي. وكمثال سريع لا يمثل إلا نقطة في مستنقع نأخذ مثلاً أبا القاسم الفردوسي الذي تنسب إليه (الشاهنامة)، أكبر موسوعة شعوبية تؤرخ للفرس، فقد ظهر هذا الشعوبي الخطير في القرن الرابع الهجري، أي قبل الصفويين بستة قرون. وقد كان هذا الدور بكل تشعباته من الخطورة بحيث تمكن أخيراً من إسقاط الخلافة العربية الإسلامية سنة (656 هـ)، أي قبل مجيء الصفويين بقرنين ونصف! وقبلها بأكثر من خمسة قرون شارك مشاركة فاعلة في إسقاط الخلافة الإسلامية الأموية. فنسبة الشر الفارسي كله للصفويين، وتبرئة الفرس منه بإطلاق لا ينطلق من أساس علمي رصين، ولا يقبل إلا عند النظرة السطحية غير المعمقة. وهي نظرة غير واعية تنطلق من زاوية طائفية ضيقة، وتهمل بقية الزوايا وعناصر التأثير؛ فما دامت الجهة سنية فالخير كل الخير فيها، وما دامت غير ذلك فينسب إليها الشر كله.
جهد سلبي ذو حجم كبير وخطير
إذا نظرنا إلى حجم المؤامرة العلمية الثقافية الفارسية نجدها من العظم بحيث لا يمكن أن يشفع للتغاضي عنها أو تسميتها بغير اسمها ونسبتها إلى أهلها بحجة أن الفرس أعطوا للأمة – من ضمن ما أعطوا – علماء ومفكرين شاركوا في صنع الحضارة الإسلامية. بل إن بعض أولئك الفقهاء والعلماء الفرس الذين احتضنهم المجتمع العربي والإسلامي كانوا لا يفترون – عن قصد أو بدوافع نفسية غير واعية – عن شحن المجتمع بالحقد على أمرائه وخلفائه، وإثارتهم ضدهم رغم إحسان حكام العرب إليهم ومنحهم الحرية في أن يقولوا ما يريدون. لقد استغلوا هذه الحرية في سبيل تشكيك الشعوب بحكامها، وعزلهم عنهم مستغلين ثقة العامة بهم وتقديرهم لهم. ولا أريد أن أسمي أحداً لأن العقول غير مستعدة لمثل هذه الصدمة، وسماع البحث في موضوع كهذا ظل مطموراً لم يبحث إلى الآن في غفلة تامة عن علماء كانوا يتآمرون على الأمة أو يسيئون إليها دون قصد بسبب نفسيتهم الفارسية المعقدة، ما زالوا إلى اليوم لا يذكرون إلا بالتقدير والتبجيل، وربما يسفر البحث – لو تم ولا أراه – عن وضع كثيرين منهم في قفص الاتهام.
مؤامرة ذات ثلاث شعب
لقد حرص الفرس أن تكون مؤامرتهم على الدولة العربية الإسلامية ذات ثلاث شعب أو اتجاهات رئيسة: الاتجاه العلمي، والاتجاه السياسي، والاتجاه العسكري. وكان أقربها نيلاً، وأسرعها تأثيراً بالمجتمع خصوصاً عوامه، وأسلسها مروراً، وأخفاها مقصداً: العمل بثوب العلماء وطلبة العلم والزهاد والوعاظ والأدباء والمفكرين.
وهذا يفسر كثرة طلبة العلم من الموالي الذين التفوا حول علماء الصحابة على عهد التابعين فمن بعدهم. حتى كادوا بعد مدة أن يسلبوا العرب قيادة العلم. فلما لم يتمكنوا بالدرجة المؤشرة كهدف نهائي، صاروا يخترعون الأكاذيب في تضخيم دور الفرس في هذه الناحية، ومن ذلك نسبة إمامة أي علم في كل أصناف العلوم إلى علماء فرس. أليس من المضحك المبكي، ومن السذاجة والغفلة المهينة أن ينسب علم العربية إلى شخص فارسي؟! ألا ينتبه إلى هذه الخدعة التي بصقوا بها على وجوهنا؟! هل عقر رحم العربية أن ينتج لنا وليداً عربياً تكون له إمامة اللغة؟ لو سلمنا جدلاً لكل العلوم أن يكون إمامها فارسياً لا يجمل بنا ولا يليق، ومن العار أن نرضى بأن يكون إمام لغتنا فارسياً.
قد يرد هنا إشكال عن حديث (لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجل أو رجال من فارس). فقد سبق الجواب عنه في آخر الفصل الرابع من الكتاب. فيرجع إليه من احتاجه.
- الفرس هم مخترعو التشيع ومنظرو فكرته وحملة رايته
أما القول بأن مخترع التشيع يهودي هو عبد الله بن سبأ، وليس فارسياً، ففيه مجازفة وتبسيط للأمور إلى حد كبير. فعبد الله بن سبأ – إضافة إلى يهوديته – فارسي من بقايا الفرس الذين كانوا يحكمون اليمن قبل الإسلام بعد أن استنصر بهم سيف بن ذي يزن لطرد الأحباش والخلاص من الوصاية الرومانية. ثم إن الفرس لم يكونوا ينتظرون ابن سبأ ولا غيره حتى يبدأوا مؤامرتهم ويواصلوا السير بها قدماً. إنما كان لهم منهجهم وبرنامجهم وجهودهم الخاصة. ابن سبأ واحد من أفراد فريق فارسي كبير. ولو افترضنا أن هذا الرجل لم يخلقه الله فإن حركة التآمر الفارسية موجودة به وبغيره. وهذا لا ينفي ولا يمنع استفادة الفرس من كل جهد من سواهم يخدم قضيتهم. لقد حمل الفرس لواء التآمر على دولة العرب والمسلمين، وسخروا كل طاقاتهم في هذا السبيل، وأبسط وأوضح مثال على هذا المصادر الأساسية الأربعة التي عليها مدار التشيع: فإن مؤلفيها الثلاثة جميعاً من الفرس: الكليني والقمي والطوسي. وكانت جهود الفرس في هذا المجال ظاهرة متميزة حتى عرف التشيع بهم وعرفوا به.
- لا بد من إدخال عنصر العروبة في معادلة الصراع مع التشيع
أما إشكالية البعد القومي في الطرح، وتحويل الصراع ضد الشيعة إلى صراع قومي ضد الفرس، فجوابي عنه ما يلي:
أنا لا أسمي هذا بعداً قومياً، وإنما بعداً عروبياً؛ لأن التسمية الأولى فيها إيهام بأن المتحدث ينطلق من أساس قومي، بينما أنا أنطلق من أساس ديني إسلامي. والعروبة من الإسلام، وكره العرب نفاق وزندقة. وقد بينت نظرتي إلى العروبة في مقالة مطولة موجودة في إرشيف موقعنا (القادسية) أسميتها (العروبة بين المضمون الإسلامي والمضمون العلماني). ولشيخ الإسلام كلام دقيق في العرب والعروبة في كتابه (الاقتضاء)، كما أن للإمام حسن البنا نظرته الدقيقة للعروبة، والتي لا تختلف عن نظرة شيخ الإسلام، وأنا على دينهما في هذا الموضوع. مع علمي أن عموم الإسلاميين الذين جاءوا بعد البنا كانوا قاصري النظرة بالنسبة للعروبة، بعضهم وقعوا في الفخ الإيراني ترغيباً وترهيباً، انفعاليين في علاقتهم مع القوميين، وأن القوميين في نظرتهم للفرس أدق وأصح وأصوب. وأنا أعتبر نفسي أخذت بحسنة هؤلاء وحسنة هؤلاء. إن صراعنا مع الشيعة في جانب منه صراع بين فرس وعرب، وليس بين مسلمين ومجوس فقط. فالفرس يحاربوننا كعرب كما يحاربوننا كمسلمين؛ فإخراج العنصر القومي من المعادلة تقصير فاضح لا تنجح المواجهة من دونه. وهذه الحسنة التي تميزت بها طروحاتنا هي التي توهم القارئ العجل بأنني قومي الوجهة، وذلك لأن الطروحات الدينية للحركات (الإسلامية) تخلو منها فيظهر الفرق، ومنه ينبع الوهم. لقد كان التقصير في هذه الناحية في أوساطنا الدينية إلى حد أن إخواننا الناصحين يتحسسون أي إشارة إلى فضل العرب والدفاع عن العروبة، ويعتبرون ذلك اتجاهاً قومياً في التفكير، في الوقت الذي يدافعون فيه عن الفرس، ولا يرضون الإشارة إلى عللهم وخطرهم على الإسلام والمسلمين، والعروبة والعرب والعراقيين! دون أن يشعروا بهذه الشعوبية التي تغلغلت في غفلة منهم إلى نفوسهم فصاروا مدافعين عن الفرس، كارهين للدفاع عن العرب!
- فقهنا ينطلق من واقع مؤلم لا نظريات مجردة
أخيراً أقول: إنني أنطلق في حديثي عن التشيع وعلاقة الفرس السيئة به من واقع مؤلم ندوس فيه على الجمر، ولست واعظاً تقليدياً لا أعرف ما قضيتي، كل ما أبغيه إثارة حماس السامعين فأبرز شيئاً وأخفي غيره حسب متطلبات الحال، ولا أنا في مجلس صلح يجوز لي فيه الكذب والمعاريض من أجل الإصلاح. إن زعل هذا وعدم رضا ذاك لا يغير من الحقيقة شيئاً، الحقيقة التي يجب أن ندركها كما هي لا كما نريد ونشتهي، بعد إجراء حسابات ربح وخسارة، فنقول ما يفرضه الموقف من قول، لا ما تفرضه الحقيقة وتنطق به الوقائع.
إن الشعب الفارسي – على رغم ما يمكن أن ينسب إليه من حسنات بحق أو بباطل – هو أكثر شعب على وجه الأرض تآمر علينا نحن العراقيين وما جاورنا من العرب كالأحوازيين، وآذانا وسبب لنا من الكوارث والمواجع والمقاتل والاحتلالات المتكررة منذ فجر التاريخ وما قبله بآلاف السنين وإلى اليوم. والمنطق والعقل يفرض عليّ أن أبحث طويلاً في السر الذي جعل هذا الشعب يتصرف معي هكذا، وأتأمل كثيراً في سبل دفع الضرر الحاصل تجاهي من شعبٍ هذه هي نوعية العلاقة الرابطة بينه وبيني، قبل أن أفكر في كيفية الاستفادة منه. والشرع الحكيم يقدم دفع المضرة على جلب المصلحة. ناهيك عن أن يستبد بي الذوق الناعم الرفيع فأفكر وأديم التفكير في أعلى (أتكيت) أتصرف على أساسه حتى لا أجرح شعور شخص ينتمي إلى هذا العرق، لم أجده سعى لرفع سكينة أخيه عن رقبتي، أو حاول رد سفاء قومه عني! ليفكروا بي أولاً حتى أمنحهم جزءاً من وقتي أفكر فيه بشأنهم، وأداري رقة مشاعرهم.
فإن تدنُ مني تدنُ منكَ مودتي وإن تنأَ عني تلقَني عنكَ نائيا
ألسنا – نحن أبناء هذا الجيل – نذبح منذ أن فتحنا أعيننا على الحياة سنة 1980 على يد الفرس وإلى اليوم؟ فأين أولئك الفرس المنصفون الذين ينبغي أن يفكروا بمصيبتي، ويرفعوا أصواتهم بالنكير على أبناء جلدتهم من أجلي؟ تقول لي: مغلوبون على أمرهم؟ وأقول لك: كلامي عن الغالبين وليس عن هؤلاء المغلوبين. لقد بلغت جرائمهم معي حداً لا يمكن السكوت معه من أجل حفنة غثاء لا يسمن ولا يغني من جوع. فبحثي عن أسباب هذه المصيبة الغائرة في أعماقي كعراقي ينطلق من هذه الحقيقة، ولست باحثاً أكاديمياً عنده فائض وقت يريد تبديده في بحث علمي باعثه الترف.
على أنني أقول: لسنا اليوم في مرحلة التفكير في كسب الآخرين وضمهم إلى صفنا، بقدر ما نحن في مرحلة إيجاد هذا الصف وتقويته وتحصينه، واستغلال طاقاته، ومن شرط نجاحنا في مهمتنا إبراز العدو الحقيقي في الساحة التي أتحرك فيها، وتسميته باسمه الصريح. وبغير هذا لا يمكن للطاقات أن تتفجر، فضلاً أن تكون في اتجاهها الصحيح نحو هدفها السديد. عندها فقط يصح منهجياً التفكير في استغلال طاقات الغير أو مداراتهم كسباً لهم أو تجنباً لإثارتهم. إن الوهم بأننا في مرحلة الكسب خطأ ستراتيجي خطير هو أهم معوق في طريق نهوض أهل السنة ولملمة صفوفهم، وسببه التثقيف (الوطني) الذي مارسه المنبر السياسي والديني على مدى الأجيال المتأخرة في زمن الهزائم المتلاحقة، ويجد صدى وقبولاً لدى البعيدين عن معايشة الميدان، ولدى أولئك الحالمين وغير الواقعيين وإن كانوا في داخل المعمعة بسبب من تلك الثقافة البائسة.
إننا ما زلنا نعيش وهم التصرف على أساس أن أمة واحدة موجودة في الواقع، وأننا في زمن دولة الخلافة الجامعة لكل الأمم والشعوب. بينما هذا كله لا أثر له خارج الذهن. فالعمل على أساسه كواقع لا يزيدنا إلا خسارة وابتعاداً عن الهدف. لا بأس أن نحلم ونطمح، لكن من دون أن نبني طابوقة واحدة على حلم لا وجود له إلا في عالم الخيال. إذا عشنا أحلامنا كحقيقة من أجل تغيير الواقع سيأتي يوم يمسي فيه ذلك الواقع الذي لم نكن راضين به حلماً نتمناه ولا نلقاه. لسنا في مرحلة كسب الغير، وإنما نحن في مرحلة التكوين الذاتي، وهي مرحلة تحتاج منا أن نلتفت إلى الداخل فنبنيه. مرحلة لا نحتاج فيها ضرورة إلى جهود الآخرين؛ لأنها أساساً غير قابلة للتوظيف؛ لعدم وجود الدولة الجامعة، فضلاً عن كونها غير ضرورية، والله تعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11).
وأخيراً يذكرني قول أخي الناصح الذي أوردته في بداية المقال: “إن الفرس أمة كبيرة منهم الصالحون ومنهم دون ذلك”.. يذكرني بقوله تعالى عن اليهود: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الأعراف:168). والراجح أنه استورد هذا الوصف من هذه الآية. فأقول: مع كون اليهود على الوصف المذكور المشترك، لكن وجود الصالحين فيهم لم يمنع القرآن الكريم من القسوة في ذمهم، والإيغال في بيان مخازيهم، وفضح أخلاقهم، وبيان عقائدهم وعقدهم، والتشديد في التحذير منهم. وكذلك نحن فاعلون حتى يكف (الصالحون) عنا سفهاءهم، وما هم بفاعلين. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
2020/7/2
[1]– عروبة العلماء المنسوبين إلى البلدان الأعجمية في المشرق الإسلامي، 1/43، الدكتور ناجي معروف. منشورات وزارة الإعلام – الجمهورية العراقية، سلسلة كتب التراث (35)، مطبعة الشعب – بغداد، الطبعة الأولى، 1394هـ – 1974م.
[2]– عروبة العلماء، 1/68.
[3]– عروبة العلماء، 1/55.
[4]– الفهرست، ص74، ابن النديم أبو الفرج محمد بن إسحاق بن محمد الوراق البغدادي المعتزلي الشيعي (ت 438هـ)، تحقيق إبراهيم رمضان، دار المعرفة بيروت – لبنان، الطبعة الثانية 1417هـ – 1997م.
[5]– الكتاب، 1/6، عمرو بن عثمان بن قنبر الملقب سيبويه، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1408هـ – 1988م. وقد حققت الأمر بتوسع أكثر في كتابي (عروبة علماء الإسلام).
لا نفد المداد شيخنا.. بحث قيم جداً من أخصائي الأمراض والعُقد النفسية الفارسية الشيعية.
في هذا البحث بين شيخنا الفاضل الدكتور طه حامد الدليمي من الجاني حقيقة ومن المجني عليه، ووضع الأمور في نصابها فلا يأتي أحد ذا عينين ليقول بعد هذا الكلام ما يخالفه إلا إن كانت عيناه مغطاة بأذنيه.