مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

مَنْ بَدَأَ الحَرْبَ …..العرَاقُ .. أمْ إِيران ؟

د. طه حامد الدليمي

على طاولة الجدل يجلس ثلاثة: خبيث وساذَج وطيب.

واقعاً.. على كل الاحتمالات يبقى جانب من الحقيقة قابعاً في الظل لا يلتفت إليه أحد. وإذا كان الخبيث يخفي عن عمد، والساذَج مطيةَ الخبيث، فإن الطيب بسبب من العقلية الجمعية الدفاعية، التي غرسها (المنهج الترضوي) بيننا وأشاعها في أوساطنا، ينتقل ببصره من الضد إلى الضد، فيفوته ذلك الجزء من الحقيقة. ولو تلبث قليلاً فالتفت إلى الظل لأبصره شاخصاً يلوِّح له ذلك الجزء بوضوح.

وهكذا كثر الحديث.. وطال الجدل.. أيهما بدأ بشن تلك الحرب التي دامت ثماني سنين على الآخر: إيران؟ أم العراق؟ وباستمرار يطرق هذا الموضوع. وباستمرار يكون الجواب الطاغي على الشاشة الحاضرة مخالفاً للحقيقة!

يقول الأول راكباً مَطيته العشواء: العراق بدأ (العدوان) على إيران. فيجيبه الثالث: كلا إن إيران هي التي ابتدأت العدوان. يذكرني هذا بصديق لي كان يزورني وأزوره. فإذا زارني يعجبه كثيراً أن يمزح مع أطفالي. وكان من مزاحه أنه يقول لأحد صغاري: “عبد الله! صحيح أمك دليمية”؟ يقولها بلهجة توحي له بأن ما يقوله بحق والدته تهمة لا يمكن قبولها. فيجيبه عبد الله بعنف، وهو يرد (التهمة) بمثلها: “انت أمك دليمية”. وكان – رحمه الله – يضحك لها من كل خاطره. وكلما زارنا كررها، وتتكرر اللعبة على صغيري ذي السنوات الثلاث من العمر.

الشيء الذي أستغربه أن القول بأن العراق هو البادئ بالحرب، قد لا أعدو الحقيقة إن قلت: إنه اليوم على كل لسان من العرب والعجم، على اختلاف مواقعهم الوظيفية وتفاوت مستوياتهم العلمية والثقافية، حتى صار أشبه بالمسلَّمات التاريخية. والأمر لا يحتاج إلى زمن طويل لكي يختفي الصوت الثالث تاركاً المحل إلى صاحب المطية العشواء! وهذا ما دعاني لأن أكتب هذه الورقات خدمة لما أعتقد أنه الحقيقة. ولكي لا يأتي الجيل الذي بعدنا فيكون حاله كحال القرن الذي جايلنا، بل الأجيال التي سبقتنا.

هنا يعن لي أن أسأل قبل كل شيء: هل قتال إيران تهمة تستحق الدفاع والرد؟ أم حلة شرف، وسربال مجد لا ينبغي لصاحبه أن يرضى بأن ينزع عنه، أو يتبرأ هو منه؟ هل محاولة استرداد صاحب الحق حقه من ظالمه – ولو بحد السلاح – تهمة أو عيب يستحق النفي؟ أم ذلك واجب يستدعي الفخر؟

إن كان العراق هو الذي بدأ الحرب فهذا شرف نصونه، ومجد لا نتخلى عنه، وواجب نفخر به، وتأريخ ناصع في سجل عراقنا وأمتنا. فإيران على مدار تأريخها تعتدي علينا، وما تركت حضارة من حضاراتنا إلا ودمرتها. أكد وسومر وآشور وبابل والحضر وبغداد الأمس واليوم كلها دمرت على يد إيران. واستمرت إيران في اعتداءاتها، واغتصاب مساحات شاسعة من حدود العراق الشرقية، وكلما اغتصبت أرضاً، عملت على أن تجعل حكومة العراق في نهاية المطاف تتنازل عنها بمعاهدة ظالمة. ثم تزحف بعدها على أرض أخرى. وهكذا، وبهذه الطريقة استولت إيران على الكثير من مدن العراق وأراضيه على الحدود الشرقية، مثل (سيف سعد) و (زين القوس) وغيرها من المدن العراقية، لتستولي أخيراً على نصف شط العرب طبقاً لـ(معاهدة الجزائر) التي وقعها شاه إيران مع نائب الرئيس العراقي في سنة (1975) – وفيها صارت المنطقتان سالفتا الذكر منطقتين منزوعتي السلاح بالنسبة للطرفين – يوم استغلت إيران ظروف التمرد الكردي في شمال العراق لتفوز بمثل هذه الجائزة طبقاً لتلك المعاهدة الجائرة. والناظر في خريطة العراق يرى جانبها الذي من قبل إيران متآكلاً ينبعج من وسطه إلى الداخل باتجاه بغداد. ولم يكن هذا هو شكل الخريطة من بداية الأمر.

وإذا كانت إيران تغتصب في الماضي القريب والبعيد أراضٍ عراقية، فهل يسقط حق العراق باسترجاعها نظراً لتقادم الزمن؟ أو يمسي ما أخذ بالإلجاء والحيل حقاً يحتجن؟

ثم إن إيران تحتل منذ سنة (1925) قطراً عربياً تقارب مساحته ثلثي مساحة العراق هو الأحواز، تتعشق أرضه السهلة – بلا أي حاجز طبيعي من جبل وغيره – مع السهل الرسوبي للعراق من العمارة حتى جنوب الخليج العربي. وتحتل منذ سنة (1971) جزراً عربية في الخليج. فهل إذا رفع عربي راية المطالبة بحقه وحق أمته يكون ظالماً؟ وإذا سكت من سكت لسبب وآخر، أيعاب على من نطق، ولو كان ما كان في زمن الصمت والتردي والتراجع ؟ أم يحسب له فعله هذا في مثل هذا حسنة مضاعفة؟ أرجو من القارئ أن يفهم أني إزاء قراءة موقف، لا تقييم شخص. واللبيب يكتفي من الإشارة ببعضها.

نعم أيها الضيف، إن أمي دليمية، وأتشرف بذلك. ويا أيها الطيبون، ارفعوا رؤوسكم فليس ثمة إلا ما يشرف، ويزهو بالفخر والشموخ والاعتزاز.

هناك من العراقيين – ومن العرب أيضاً – من يقول: إن العراق هو الذي بدأ الحرب. مثلاً صلاح عمر العلي – وهو بعثي من تكريت، كان المندوب الدائم للعراق في الأمم المتحدة – يتحدث عن لقاء في إحد المؤتمرات الدولية جمع بينه وبين الرئيس صدام حسين ووزير خارجية إيران، بعد اشتداد الأزمة الحدودية بين الطرفين قبيل نشوب الحرب، وكيف أنه – بعد انتهاء ذلك اللقاء – عبر للرئيس عن ارتياحه واستبشاره بالحديث الذي دار بينه وبين المسؤول الإيراني؛ لأنه قرأ من خلاله زوال شبح الحرب. لكنه فوجئ به يقول له: “لقد أفسدتك الدبلوماسية كثيراً يا صلاح! هذه فرصتنا التأريخية لاسترجاع حقوقنا من إيران”. وبصرف النظر عن السياق الذي جاءت فيه العبارة المنسوبة للرئيس، وحيثيات الحديث التي لا يمكن إنزال الألفاظ على معانيها دون استحضارها وربطه بها، فإني لا أرى في هذا إلا أن صدام حسين كان في وعيه السياسي والتأريخي متقدماً على أصحابه بمراتب كثيرة، الذين إلى الآن لم يتمكنوا من فهم الأمور على حقيقتها! على أن هذا التخلف عميق جداً في أذهان أهل السنة، علمانيهم وإسلاميهم، لا ينفرد به صلاح وحده. وهو أحد أسباب ضعفنا.

في لقاءات الإعلامي الإخواني المصري أحمد منصور الأخيرة على قناة الجزيرة في برنامجه (شاهد على العصر) مع السياسي العراقي الشيعي حامد الجبوري، الذي كان أحد أعضاء الحزب والسلطة الحاكمة في العراق على مدى ربع قرن (1968 – 1993)، أثير موضوع من بدأ الحرب؟ كان أحمد يركز كثيراً على أن صدام هو البادئ بها، ولم يكن يملك لتأييد كلامه سوى الدعوى المجردة، أو قلب الحقائق، أو الإضافة والحذف. وكان حامد يجيب بأن هذه هي الحقيقة.

أثار الجبوري استغرابي في الحلقة التي خصصت لردود الجمهور، حين أجاب على اعتراض أحد المشاهدين بأن طائرة إيرانية أسقطت في يوم (4/9/1980) في ديالى، دليلاً على أن البادئ بالحرب هو إيران، فكان رد الجبوري: “الحرب لا يبدأ توقيتها بالهجوم الجوي، وإنما بالهجوم البري”! ولا أدري بماذا سيجيب لو أن دولة ما هاجمت بالطائرات فقط دولة أخرى مدة أربعين يوماً، ماذا يسمى هذا في الاصطلاح العسكري والقانون الدولي: حرباً؟ أم ضرباً؟ أم ماذا؟ أم إن للجبوري عالمه الخاص ومصطلحاته التي لا يعلمها إلا هو؟! إذن يمكن لأي دولة أن تشن هجوماً جوياً متكرراً على أي دولة أخرى جارة لها، وتظل تنتظر حتى ينفد صبر الأخيرة لترد عليها بهجوم بري لتكون هذه هي البادئة بالحرب! أهذا منطق معقول؟!

في عام (1991) شن التحالف الغربي على العراق حرباً استمرت من ليلة (17/1) إلى يوم (27/2) واحداً وأربعين يوماً، كان نصيب المعارك البرية منها (3) أيام فقط. فإن لم تكن الـ(38) يوماً الأخرى، التي هي مدة الهجوم الجوي، حرباً فماذا تكون إذن؟ وبماذا نسميها؟ وأي اسم أو تعريف نمنحها؟! ومع ذلك فإن إيران خاضت هجومات برية متعددة ضد القوات والمدن العراقية، منها احتلالها لمنطقتي (زين القوس) و (سيف سعد) في (4/9)، وتحريرهما من قبل الجيش العراقي في يومي (8/9) و (10/9) على التوالي.

سؤال هنا، يطرح نفسه: كم من العراقيين والعرب – بسوء نية أو سذاجة – يقولون: إن العراق هو الذي اعتدى أولاً، وليس إيران! لكن هل سمعتم إيرانياً واحداً يقول: إن إيران هي التي بدأت الحرب على العراق؟ فماذا تسمون هذا: إنصافاً؟ أم غفلة؟ أم سذاجة؟ أم أم استحقاقات (اقتصادية)؟ أم غير ذلك؟

في هذه الأوراق القليلة جواب مختصر ولكنه يجيب بكل وضوح وتفصيل عن السؤال الذي يقول: من بدأ الحرب في أيلول/1980 : العراق أم إيران؟

والله تعالى وحده الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

رابط البحث:

مَنْ بَدَأَ الحَرْبَ …..العرَاقُ .. أمْ إِيران ؟

السبت

19/7/2008

 

اظهر المزيد

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى