مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

دور معاجم اللغة المتأخرة في تكريس التشيع الثقافي في الأمة

د.طه حامد الدليمي

الأصل في فهم القرآن الكريم:

  1. أن نفسر القرآن بالقرآن.
  2. طبقاً للغة العرب.

ثم إن ورد حديث صحيح السند ليس فيه إشكال ديني أو لغوي ولا يتعارض مع صريح العلم فلا بأس بالاستشهاد به. ومن المعلوم بداهة أن القرآن نزل بلغة العرب، والرسول صلى الله عليه وسلم تكلم بهذه اللغة وكان أفصح من نطق بها. فيلزم من هذا أن أي نص منسوب له صلى الله عليه وسلم يخالف القرآن أو لغة العرب فليس بحديث صحيح، ولا يصح نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. وأن هذه المخالفة بشقيها من علامات ضعف الحديث وعلة من علله. وهذه العلة – حسب علمي – أمر مسكوت عنه لا يكاد يُذكر في كتب الحديث! فإن أكثر ما يشغل بال المحدثين والفقهاء هو أمر الأحكام الفقهية والبدع الشرعية.

لكن الملاحظ ضعف التقيد بهذا الشرط الذي لا يصح التسامح فيه. وغاية ما يُهم الخائضين في مثل هذه الأمور أن يثبتوا بأي طريق صحة سند الحديث أو ضعفه. فإذا تهيأ لهم ذلك بنوا عليه حكمهم، وإن كان في خلاف اللغة.

هكذا فعل معظم علماء أهل السنة؛ فعبرت إليهم المعاني المجوسية محشاة في داخل حديث الكساء وأمثاله من الأحاديث الضعيفة التي صححت خارج نطاق الضوابط العلمية المحكمة. ولو داروا حول المعنى اللغوي للَفظ (أهل البيت) لعلموا أن حديث الكساء لا يصح الاحتجاج به لسبب واضح ويسير، هو نسبة لفظ مخالف للغة العرب إلى أفصح من نطق بلغة العرب.

انحراف لفظ أهل البيت في الحديث والمعاجم المتأخرة عن لغة القرآن والعرب

وانظر كيف انحرف لفظ (أهل البيت) عن معناه في غياب الرقيب!

جاء هذا اللفظ الكريم في كتاب الله تعالى، ومعناه – طبقاً للغة العرب التي هي لغة القرآن– الزوجة، ثم سكنة البيت الملازمون له. ولا علاقة للأقارب – كالعم وابن العم – بهذا اللفظ البتة؛ لأنهم، ليسوا من سكنة البيت. هكذا بكل بساطة.

وعلى هذا الأساس يكون قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب33)، متعلقاً بالنبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته وأولاده: بنين وبنات. ويتفق تماماً مع النص الثاني الذي جاء خطاباً من الملائكة لزوجة سيدنا إبراهيم عليه السلام: (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) (هود:73). والنص الثالث الذي جاء بلفظ (أهل بيت) بالتنكير: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ) (القصص:12)، والمقصود الأول به هو الأم، ثم سكنة البيت الآخرون من إخوانه وأخواته. ولا علاقة للأقارب خارج البيت بمفهوم النص في الآيات الثلاث.

وهذا مطابق للغة العرب؛ فالعرب لا تضيف كلمة (أهل) إلى شيء إلا مع الملازمة بينهما. فأهل كل شيء هم الملازمون له المعروفون به، مثل: أهل المدينة، أهل القرية، أهل يثرب، أهل الذكر، أهل العلم، أهل القرآن، أهل التقوى، أهل الجنة، أهل النار. فليس كل من مر بمدينة أو قرية أو تعلم شيئاً من العلم أو اتقى مرة وعصى مرة ينسب إلى ما أضيف إليه. وليس من سكن قرية يحسب على سكان القرية المجاورة، ولو كان ساكنها أخاه. وكذا (أهل البيت).

هذا ما قررته المعاجم القديمة للغة وأولها (معجم العين) للخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 174هـ). قال الفراهيدي (العين:4/89): (والسكْن: السكان. والسَّكْنُ: العيال). وقال أيضاً: (أهل: أَهْلُ الرَجل: زوجهُ، وأخصّ الناس به. والتَّأَهُّل: التَّزوُّج. وأهل البيت: سكانه، وأهلُ الإسلام: من يدين به). وكذا قال ابن فارس (ت:395هـ) مكرراً قول الفراهيدي ولم يزد على أن قال (مقاييس اللغة:1/150): قال الخليل: أهل الرجل زوجه. والتأهل التزوج. وأهل الرجل أخص الناس به. وأهل البيت: سكانه. وأهل الإسلام: من يدين به.إ.هـ.

ومن هذا الباب يقال: فلان أهل كذا أو كذا. قال الله عز وجل: (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى، وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ): جاء في التفسير أنه جل وعز أهلٌ لأن يتقى فلا يعصى، وهو أهل لمغفرة من اتقاه).

ولم يخالف في هذا التفسير أو القاعدة حتى المعاجم المتأخرة التي التاثت بالتشيع، مثل (لسان العرب) لابن منظور (ت:711هـ)، و(تاج العروس) للزبيدي (ت:1205) ؛ فقد ورد فيه: (وأهل الأمر: ولاته. والأهل للبيت: سكانه. ومن ذلك: أهل القرى: سكانها. الأهل للمذهب: من يدين به ويعتقده). لكن هذه المعاجم المتأخرة حين تأتي إلى علي وأهل بيته تدخله وإياهم في معنى اللفظ، رغم ما في الأمر من تناقض!

المعاجم المتأخرة

مؤلفو القواميس والمعاجم المتأخرون لا يعتمد عليهم في بيان هذه الأمور بدقة لتأثرهم بالثقافات المترشحة عن الصراعات الدينية، وتشيّع بعضهم تشيعاً ثقافياً، بل وحتى عقائدياً بدرجة أو أخرى؛ فاختلت في كتبهم هذه المفاهيم.

فابن منظور في (لسان العرب) زاد على الفراهيدي فقال: وأَهْلُ البيت: سُكَّانه. وأَهل الرجل: أَخَصُّ الناس به. وأَهْلُ بيت النبي صلى الله عليه وسلم: أَزواجُه وبَناته وصِهْرُه، أَعني عليًّا عليه السلام. والزبيدي محمد مرتضى الحسيني في (تاج العروس) قدم الأقارب فجعلهم الأصل على الزوجة في مفهوم (أهل الرجل) وقال: من المجاز: الأهل للرجل زوجته. وأهل النبي: أزواجه وصهره علي.إ.هـ. ولم يجعل عمه وبقية أبناء عمه وأصهاره الآخرين كذلك! مع أن حقيقة الأهل هي الزوجة. ولهذا تجد المفهوم عند هؤلاء مضطرباً غير محدد حين يخرج من نطاق الزوجات. وخرجت القضية من نطاق اللغة إلى نطاق العقائد.

هكذا انقفل عقل المسلم وطبع على هذا المعنى المبتدع الذي لا تعرفه لغة العرب ولم يأت به كتاب الله، بحيث صار شيئاً مألوفاً، بل مقطوعاً به، لدى المصلي أن معنى قوله (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد) الصلة عليه وعلى أقربائه.

وهذا هو الذي جعل عامة أهل السنة يدخلون الصحابة في الصلاة على النبي خارج عبادة الصلاة أحياناً فيقولون: (اللهم صل على محمد وآله وصحبه). وهذا اللفظ يقترن مع سابقة ذهنية لدى المتلقي هي أن أقارب النبي صلى الله عليه وسلم يدخلون في مفهوم (أهل البيت)، هذا إن لم يقصروه على علي رضي الله عنه وحده، بل قد لا يخطر على بال البعض أن زوجاته رضي الله عنهن يدخلن في هذا المفهوم. وتسأل أي عالم عن الآية ليجيبك بأنها نزلت في أمهات المؤمنين. ثم يضيف قائلاً: لكن دل الحديث على أنها تشمل أقاربه صلى الله عليه وسلم. وقد صار هذا الأمر مسَلماً به بحيث لا تكاد تجد له معارضاً. ثم يقترن هذا كله بما تسلل من لوثة شيعية إلى معاجم اللغة المتأخرة، حتى إنهم ليخصون علياً دون غيره من الأقارب.

وبهذا أحيط بفهم الجمهور وأغلق عليهم الفضاء من جميع الجهات.

ولك أن تسأل: لماذا هذا التخصيص لعلي وحده دون بقية أقارب النبي صلى الله عليه وسلم كأعمامه وأبنائهم وأصهاره الآخرين؟ ولا جواب يستند إلى اللغة ليكون حجة علمية مقنعة. اللهم إلا قول الزبيدي عن الراغب، والمناوي متابعة للراغب: (أهل الرجل في الأصل: من يجمعه وإياهم مسكن واحد، ثم تجوز به، فقيل: أهل بيته: من يجمعه وإياهم نسب أو ما ذكر، وتعورف في أسرة النبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً). فالدليل ليس أكثر من التجوز والعرف. وليس هذا بحجة ما لم يكن ذلك معروفاً في لغة العرب على عهد تنزل القرآن.

والتَجَوَّز، كما في (لسان العرب): تَجَوَّز في هذا الأمر ما لم يَتَجَوَّز في غيره: احتمله وأَغْمَض فيه… وتَجاوَزَ الله عنه أَي عفا. وقولهم: اللهم تَجَوَّز عني وتَجاوَزْ عني بمعنى. وفي الحديث: (كنت أُبايِع الناسَ وكان من خُلُقي الجَواز)، أَي التساهل والتسامح في البيع والاقْتِضاء… والتَّجَوُّز في الدراهم أَن يَجُوزَها. وتَجَوَّز الدراهمَ: قَبِلَها على ما بها… وتجوز في كلامه: أَي تكلم بالمَجاز.

وهذا يعني أن تفسير (أهل البيت) بالأقارب – فضلاً عن تخصيصه بعلي وذريته – شيء تسامح فيه الناس وتعارفوا عليه لا أكثر، وليس هو من أصل اللغة، الذي يعني (من يجمعه وإياهم مسكن واحد).

ولقد تسللت إلى حمى السنة كلمة (نسب) بدل كلمة (سكن)، واستقرت ثمت بهدوء دون أن تثير من حولها جلبة أو حسحسة أو اعتراض، أو تَلفت انتباه أحد من علماء اللغة ورعاتها وحراسها؛ فاحتجنا إلى من يرعى الراعي ويسهر على الحارس! بل أقول: لقد تسلل السم إلى الملح فأفسده. وإذا فسد الملح فسد سائر الطعام. لقد أضيف سم النسب وأخذ في الواقع يزاحم السكن، فبأي حق كان هذا؟!

أرأيتم هذا الشق في جدار السنة، وهذا الفتق في نسيجها؟!

أرأيت كيف تنحرف الألفاظ وتتغير العقائد ويسقط الناس في شرَك التشيع وغيره من الأديان والعقائد الباطلة، وأفخاخ الولاءات والسياسات الخطيرة!

وتسأل أيضاً: لمَ يخصص علي بلقب (عليه السلام) دون أمثاله من الأقارب والأصهار والأصحاب وفيهم من هو خير منه كالشيخين وعثمان رضي الله عنهم جميعاً؟ ولا جواب سوى اللوثات الشيعية التي ترسخت بتلك الأحاديث وتكرست بالإعلام والإشاعة!

2020/9/8

 

اظهر المزيد

‫5 تعليقات

  1. العمل المعجمي تعددت مناهجه التأليفية، فضلاً عن اتخاذ المعاجم مدارس – تأليفية – أربع، وليس غريباً أن نجدها في أول مراحل تأليفها غير ما هي عليه بعد أن تأثرت بمشارب عقائدية، وفرق كلامية جثمت على إيمان الناس بخواصهم قبل عوامهم. وهذا المؤثر بل الدافع جنح بهم للانتصار لمتبنيات فكرية وعقائدية.
    وهذا ما اعتور النحويين كما اعتور المعجميين، خذ مثلاً نظرية العامل لم يكن في أصلها اعتراضات وسار النحاة الأوائل يعدونها من نظريات النحو التي يعللون فيها تغير الحركة الإعرابية، لكن ابن جني وابن مضاء القرطبي وخصوصاً الأخير نفوها نفياً قاطعاً!
    لِمَ؟
    لأنه معتزليٌ…
    ولم لا يحرِّف العجمي المتأثر بالتشيع كلمات في اصل دلالتها ليست كما جاءت!
    لقد تفاوت أصحاب المعاجم في عمق الإدراك اللغوي حالهم حال كثير من حيثية التفاضل والأكثرية العلمية.
    وهذا عامل ثانٍ.
    وقد ادعى كثير على كثير منهم السرقات العلمية، بل السطو على جهد سابقيهم مع زيادات!
    طيب ما الزيادات هذي التي أضافها الساطي؟!
    نحن أمام تشكيك علمي يبنبغي ان يدرس ترجمة كل صاحب معجم لوضعه في خانته العقائدية ومشربه الفكري.
    الذي أخلص إليه في التعليق أن المعاجم سرى عليها بليل التعجم والتفرس لصالح لي الدلالة المعجمية في اصل جذرها اللغوي.
    بوركت من قلم…

  2. من أصعب ما يقع به مؤلفو القواميس هو جهلهم باللغات العربية القديمة ايضا وأعط لذلك مثالا فهم ينسبون الاعجمية لبعض المقردات القرانية ككلمة سندس حتى زعموا ان أصلها أعجمية واصلها فارسي وحين كان البحث وجد ان أصل الكلمة موجود في الالواح التي كتبت بالخط المسندي الجنوبي العربي

  3. ثنائيتان يقع فيه مؤلفوالمعاجم المتأخرين هو الاخذ من مجتمع تأثر بالموالي وهو المجتمع العباسي والاغفال والتغافل عن اللغة العربية القديمة كالاكادية والبابلية والجنوبية المسندية ولهذا قال من قال يوجد في القرآن الكريم مفردات اعجمية ولما نسبوا للقرآن الكريم الاعجمية عوقبوا باعجمية في مفاهيمهم.

  4. ولازال المورد الأول (القرآن) الذي جاء بلسان عربي مبين، يحفظنا من كل هذا التزوير، ومهما ساءت الأمور سيبقى الحصن الذي نلوذ به لتجديد هذا الركام الضخم من التراث وتنقيته مما علق به من شوائب.. ولهذا السبب روجت تلك المقولات التي تحاول أن تجعل بعض الكتب موازية للقرآن وقد نجحت إلى حد كبير فقد صارت الامة تقدس هذه الدواوين.. وترى أنها منزهة عن الخطأ..!!

  5. للاسف الشديد نرى ابتعاد كثيرا من الناس عن مفهوم القرآن الكريم وبيان لغته السامية الواضحة الجميلة وخصوصا أصحاب المؤلفات وأهل المعجمات ولو كان لديهم الحرص كما يدعي الابن لأبيه لما وقعنا في هذا الإشكال وماتعرضنا لهذا الغزو اللغوي وتفكيك اللغة عن أصلها الثابت وهو القرآن الكريم الذي نزل بلغة العرب وبلسانهم نطق فهم أقرب إليه من حيث الفهم والقصد، ولكن عندما ابتعد عنه أهله شاعت ثقافة فكريةتتلاعب بالألفاظ لمقاصد دنيوية ومنها دينية ولو تناول الجميع مادتهم الدسمة من القرآن دون أن يضعوا لها التلميع والتطعيم لوجدوا أنها تغنيهم عن كل الموائد الفكرية التي اختلفو فيها ولايزال اختلافهم قائم… هذا وان معظم مشاكلنا مع علمائنا تقع بسببين،مقصود لم يفهم ومفهوم لم يقصد. فهذه هي المشكلة الكبيرة التي شرعت وفتحت الابواب أمام اللغات البديلة والموضوعة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى