ديوان القادسيةقصص وخواطرمقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

نخلات حمد

قصة قصيرة

د. طه حامد الدليمي

 

مع غروب الشمس، والنجماتُ لما يبدأْنَ طقسهن اليومي الممتع في النزول إلى الفرات يستحممْنَ في مياهه المنعشة، ويتأملن تسريحاتهن الجميلة على مرآته المتموجة الساحرة.. كنت مع العائلة قادماً من الشام، أدخل بسيارتي تلك القرية التي اتخذ أبو العباس من حاضرتها عاصمة لدولته الناشئة، وسماها الإنكليز بعد ألف عام (جنة آدم).

لعل البعض يتساءل: أيُّ قرية تلك؟ وأيَّ حاضرة تقصد؟

لا داعي للعجلة أيها الأحبة، الجواب في طريقه إليكم. سيكون عندكم بعد هنيهة.

استقبلني صديقي حمد، بشوق جارف، يؤججه طولُ الزمن وبُعد المسافات. بعد العَشاء جلسنا نسمر قليلاً في الحديقة التي تحتل بزهوٍ مدخل الدار، يخفق في أبهائها فوق رؤوسنا سعف النخيل. ومع أرتال الهواء القادم من حضن المِروحة كانت شتلات ورد ضمن تشكيلة منوعة من الزرع والشجر وعرائش العنب تحيط بنا من الجوانب الأربعة تتمايل سكرى، وتُبادِلُنا الحديث، ولكن بلمسات من عطر.

كان ذلك قبل ثماني سنين وشهرين وثلاثة أيام إلا عشر ساعات.

ها! يبدو أن جِلسة الورد لا بد أن يَخِزَكَ فيها سنُّ شوك! فبينما نحن نتناول الأوضاع التي آل إليها البلد اعترضني الأستاذ حمد مدرس التاريخ في ثانوية القرية قائلاً:

– لَلأسف يبدو أن حضرتك لا تفرق بين العرب والعجم! ألا ترى كم يختلف جواد عن حكيم؟ هل تعرف جواد؟

– أخو حارث، مو؟

– كأنك تسخر يا أبو عمر!

– أبو خالد، أنت تعرف جيداً أنه لا فرق بين الصديق والأخ. وجواد صديق حارث. بل إن حارث لا يفتر عن القول: هؤلاء إخوتنا؟ وجواد، أنت تدري، من كبراء إخوته (إياهم).

ظل أستاذ حمد ساكتاً كأنه تفاجأ بلهجتي الساخرة. استرجعتُ لغة الجِد وعدت أقول:

– أخ حمد، حضرتك إنسان مثقف ومتخصص في التاريخ، لا أظنه يفوتك أن الدين…

لم يتركني حمد هذه المرة أكمل عبارتي حتى بادرني فقال:

– نعم، الدين واحد والأصول واحدة، كلنا عرب، عرب يا أخي!

– أمّا أن الدين واحد فهذه قضية أخرى، لكنني قصدت شيئاً آخر.

وقاطعني ثانية بشيء من الانفعال:

– وما هو هذا الشيء؟

– صبرَك عليّ أستاذي العزيز، لقد أردت أن أقول: إن العقيدة شيء عابر للقوميات؛ لا فرق إذن بين عربي وفارسي ما دامت عقيدة الطرفين واحدة، والواقعُ شاهدٌ. ثم ما الفرق بين جواد الذي يدعي العروبة وحكيم الفارسي الأصل سوى الدعاوى؟ وحتى هذه هما فيها سواء.

– يعني تريد أن تقول لي: جرائم المليشيات مو؟

– هذه وأشياء أَخرى لا تقِلُّ عنها.

– أخي العزيز، هذه يقوم بها الفرس المتغلغلون داخل الصف، وذوو النفوس المريضة من الذين اشترتهم إيران، وليس العرب الأقحاح.

**

تقدم الليل كثيراً.. وآنَ  للجنادب أن تعيد تشكيل جوقها الموسيقي الحافل وتوزيعَه في زوايا الحديقة وخفاياها البعيدة، والأخ حمد ما زال يحدثني عن الأخوة والعشيرة والدين والدم، موزِّعاً كلمة (الواحد) عليها بالتساوي! ونظرت فإذا النسيم يهب بارداً والورود ازدادت تمايلاً، والنخلات تعلو وتهبط بسعفاتها، كأنها أطباق خوص تستأذننا لتقدم لنا فيها بعض عذوقها المتراكبة.

استأذنت محدثي وخرجت أتمشى في البستان.. أغيِّر الجو، وأروّح عن النفس ما اختزنته من عناء السفر وعنت الجدل، وأُطلق للعين حريتها للتنقل بين ظلال الشجر وهي تتنازع الأماكن مع ضيِّ القمر.

كان السكون يوشح بجلاله جمال المكان.

 توغلت قليلاً فإذا صوت حمامة في قلب شجرة صفصاف، يمزق وشاح السكون بنغمة جذلى.. أجبرتني على أن أتوقف عندها لحظات. رفعت رأسي أحاول أن أرى ولو شبحاً لهذا الكائن الذي ينثر أزهار الفرح بين دخان الهموم.. أو أثراً لعشه. وحاولت فلم تقع عيني من ذلك على شيء. فمضيت هائماً على وجهي، ولم أُفِقْ إلا وأنا مع الفراتِ وجهاً لوجه.

ووقفت على الشاطئ.

كان السكون يبسط ظله على النهر أيضاً، يقطعه بين الفينة والأخرى أصوات لأسماك تتلبط في الماء أو تتقافز على بعد خطوات، تاركة دوامات ترتعش كأنها تشكو البرد وقد فضحها ضي القمر، ما أسرعَ ما يبتلعها التيار، ثم ما أسرع ما تعود مع تلبطات السمك، وخلجات الماء. وهنا وهناك على صفحة النهر يبدو من بعيد نور خافت لقنديل، وضعه صياد على دفة زورق.

بعد ساعة لا أدري أطالت أم قصرت عدت من حيث أتيت. دخلت البستان، وحين وصلت الصفصافة توقفت عندها والمكان مشتمل بالسكون فلا نغمة ولا نأمة. رفعت رأسي أمعن النظر بين الغصون فإذا شيء يشبه كرة صغيرة يتهزهز، ثم تدحرج منه شبح صغير نمَّ القمر عنه وهو يبتسم: “إنه الحمامة”!

لا أدري لمَ تَلبَّسني في تلك اللحظة حزن شديد!

مددت عنقي إليها وفيَّ رغبة عميقة بالشكوى إلى أي مخلوق في رأسه أذنان! وشدني المنظر حتى شعرت كأنني صرت جزءاً منه، أو كأنني تلاشيت فيه. وقلت:

– أيتها الحمامة! ما عاد لك، ولا لي، أهل هنا، ولا رفيق. لا ولا من أحد هنا يفهمنا أو يسمع لنا. هيا نرحل قبل فوات الأوان. الفرس قادمون.. قادمون ولا بد! والناس هنا لا يشعرون، لا يشعرون! إنه الطوفان، ولا عاصم من أمر الله.. لا جبل يأوي ولا نخل يحمي ولا شجر يذود.

وتململ شبح الحمامة عدة مرات على طول الغصن، وهبت نسمات أخذتْ تعلو بها وتهبط. وصفقت بجناحيها ثم انطلقت بهديل كأنه أنين نايٍ حزين، أو آهات راحل إلى المجهول يخشى أن لا يعود!

وسألت نفسي: “أيعقل أنها أدركت ما قلت فاستحالت نغمتها الجذلى إلى أُخرى، شجية حزينة.. باذخة الحزن؟”. وتذكرت صديقي الدكتور أمجد الجبوري، يوم زارني منذ شهرين وقال لي: قبل أيام شعرت بضيق شديد استولي على صدري مما آلت إليه حال بغداد. لم أجد في البيت مَن أشكو إليه فخرجت إلى الحديقة، سحبت كرسياً قريباً وجلست إلى شجرة ليمون ثم طفقت أبثها ما في صدري من لوعة، وأنفث إليها ما فيه من حرارة. قال الدكتور أمجد: أقسم لك بالله يا أبا عمر، لقد مررت بها صباحاً وأنا خارج إلى المستشفى فوجدتها قد يبست، وما بينها وبين شكواي سوى سويعات قليلة.

وامتزجتُ في المشهد ثانية حتى تلاشيت فيه، وكأنني سمعتها تقول:

– ونترك لهم الوطن؟!”.

وقلت أناجيها دون تأخير:

– كلا فإن الخارج من أجل الداخل داخلٌ أيتها الحمامة، وكم هنا في الداخل ممن يودون لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم! أيتها الحمامة، إن هي إلا أيام يسمونها سنين ثم نعود لنطردهم من ديارنا.

وصفقت الحمامة بجناحيها ثانية فإذا هي تطير، وحوّمتْ فوق الأشجار وبين النخيل، وعادت إلي، ثم حوّمت كما في المرة الأولى.. ثم عادت إلي.

ترى!

هل شعرت الحمامة بحالي كما شعرتْ شجرة أمجد بحاله؟ وفهمتْ كلامي كما فهمَتْ شجرتُه كلامه؟ فما الذي تريد أن تقول؟ “اقتنعتُ بكلامكَ وها قد أزمعت الرحيل”؟

كان القمر قد توارى خلف الجدار الغربي للدار، وزاد هبوب النسيم فأطفأتُ المروحة وأسلمت نفسي للفراش الذي مدوه منذ ساعات في الحديقة. كان بارداً لذيذ البرودة، ألصقت به جسدي أريد أن أحتضنه، ثم بعد قليل أسلمته ظهري ووضعت كفيّ تحت رأسي وشبكت بينهما. لم يغازل النوم تلك الليلةَ جفوني. ظللت أتأمل تلك النخلات كأنني أتزود منهن نظرة الرحيل الأخيرة. حتى رأيت أذان الفجر يداعب خدود السكون.

نهضت من فراشي.. توضأت ثم خرجت أريد مسجد (الحسين) القريب وما زالت ظلمة الليل تغلف الوجود.. وقنبرة غارقة في ترتيل تسبيحاتها اليومية في قلب السماء، أسمع تراتيلها ولا أراها.

وفي طريق العودة قلت: لم لا أذهب وأرى ما فعلت حمامتي؟ وقفت عند الصفصافة، لا شيء. هززتُ ساق الصفصافة.. هززته ثانية. عادت الشجرة إلى ما كانت عليه ولم يتململ العش. ناديت: “حمامتي، حمامتي!” فلم ترد. وكررت النداء مرتين وثلاثة ولم أسمع شيئاً.. حتى تسلقت الصفصافة فإذا العش تلهو به الريح!

**

على صينية الفطور في الحديقة تحت النخلات، قال لي الأستاذ حمد:

– يبدو أنك لم تقتنع بكلامي الليلةَ يا دكتور؟

وسألت نفسي قبل أن أجيبه: “هل أدركتِ البهيمة ما لم يدركه أستاذ التاريخ؟ ألهذا يقرأنا التاريخ في كل مرة؛ لأننا لم نحسن قراءته ولو مرة؟”.

وقلت لحمد:

– هل ترى هذه النخلات التي تخفق فوق رؤوسنا؟

– نعم أراها.. ما لها؟

– قسماً بالله يا أهل الفلوجة، إن بقيتم، على أفكاركم هذه فلن يمر وقت طويل حتى يدخل (الإخوة) دياركم ويسلبوك نخلاتك هذه!

**

بعد ثماني سنين وشهر وواحد وعشرين يوماً إلا ست ساعات، أي قبل عشرين يوماً من الآن، كنت للتو خارجاً من صلاة الجمعة عندما قال لي صديقي رعد:

– تدري؟

– أدري أيش؟

– نخلات حمد راحن!

وكان يبتسم بمرارة. لم أفهم المقصود لأول وهلة، فكرر قائلاً:

– راحن نخلات حمد! راحن!

وهززت رأسي مستفهماً “أي نخلات؟ وأي حمد؟”. قال:

– أمس دخل الأوغاد قرية (الصقلاوية)، واستولوا على نخلات حمد!

قلت:

– تقصد (إخوة حارث)؟

قال:

– وهل غيرهم؟

وتذكرت حمد والنخلات وفراشي البارد تحتها على بعد نظرة من ضيّ القمر، والبستان والنهر والحمامة والصفصافة وشجرة الليمون والليل والنسمات والسكون، ونفثت آهة بطول المسافة التي تفصل بيننا قبل أن أقول:

– أليسوا إخوتهم؟

وهز رعد رأسه موافقاً وساخراً دون كلام. قلت:

ومن سُلِّط عليه أخوه فما ظُلم([1])!

6/12/2017

                                                                                                                                                                                                                              ___________________________

[1]– في كتابه (جنة عدن) ذكر مهندس الري الانجليزي وليام ويكوكس، الذي استقدمته الدولة العثمانية قبيل غروبها لإصلاح الري في العراق، أن جنة آدم المذكورة في الكتب المقدسة كانت في قرية (الصقلاوية) في الفلوجة. وبصرف النظر عما ذكره هذا المهندس، فإن ريف الصقلاوية جنة من الجنان حقاً..!

اظهر المزيد

‫10 تعليقات

  1. قصه جميله جدا
    ما فهمته من هذه القصه ان حمد يمثل أهل السنه الذين يظنون ان ليس هنالك فرق بين الشيعه والسنه وهذا ما يحصل بالذين لا يفرقون بينهم وهذا الذي ينالوه من مقتل و ذبح وسلب خيراتها و ديارهم و بلدهم باكمله و جزاك الله خيرا شيخنا 🌾.

  2. هذه المقالة قرأتها من سنين واتذكر قرأتها ووسادتي ابتلت من دموعي جعلتني كل ما ارى نخلات بيتنا اتذكرها لا ادري لماذا اثرت بي بشكل كبير لا ادري اهو جمال السرد ام صدق محتواها ام كليهما

  3. طوفان اخوة حارث
    حتى هو لم يسلم منه!!
    مماجعله يهرب الى مصر
    بسبب وحشيتهم وجرمهم
    وكلمة اخوة جعلت ديار اهل السنة
    مرتع الفرس وافاعيها المسمومة…
    مقالةرائعة تمثل واقع أهل السنة وماحصل لهم من اخوةالشيعة.

  4. جزاك الله خيرا//د.طه حامد الدليمي
    هذا حمد يمثل اهل السُنة الوطنجية الذين لم يحمدو عاقبة قولهم نحن والشيعة واحد وياريت بس نخلات حمد ذهبت لكن نخل العراق كله حرق وقلع ودمر وصدر الى غير ارضه مع من لم يحمدو عاقبة قولهم ، وحين بثثت ماهمك للحمامة لربمى شعرت بذلك الهم الثقيل وحين قلت – كلا فإن الخارج من أجل الداخل داخلٌ أيتها الحمامة، وكم هنا في الداخل ممن يودون لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم! أيتها الحمامة، إن هي إلا أيام يسمونها سنين ثم نعود لنطردهم من ديارنا ، سلمت شيخنا الفاضل قصة فيها عبر وشجن وخلاصة القول من لم يقل الحق فاسياط القدر كفيله بان تريه الحق .
    #شمعة_مضيئة

  5. ذهبت نخلات حمد وغيرها، ولولا ذهابهن لما استوعب السنة الدرس، ولا ادري لماذا لا نعقل قبل الحدث، رغم كل شيء اصبح واضحاً.

  6. على بعد نظرة من ضيّ القمر.
    من أجمل العبارات الأدبية التي قرأتها في حياتي وأكثرها تعبيراً عن الصورة حينما تستلقي وتنظر للقمر.
    جزاك الله خيراً

  7. أهل السنة طغت عليهم الطيبة إلى حد
    السذاجة
    والاطمئنان للافاعي الفارسية لغاية
    الثقة المطلقة
    و تاهو في أمواج الوطنية إلى حد
    الغرق في مستنقعات التشيع..
    هذه ثقافة حمد أمامه أخوة الشيعة
    كل المحاولات بائت بالفشل الذريع للتقرب بكل الوسائل أمام ثقافة التشيع الفارسي

  8. لله درك يا دكتور…
    قصة تثير الشجون… وتجعل القارئ يحلق بين ذلك الجمال الادبي، وكذلك جمال الوصف الصوري وبعدها… يعجب حد الذهول من تاثر البهائم والشجر والطبيعة من التاربخ ولا يتاثر اصحاب الفكر الوطني…!!!
    ليس نخلات حمد لم يسلمن من اخوة حارث فحسب…. بل هو حارث نفسه لم يسلم من اخوته.. ارادوا قتله… وقتل من اهله ما قتل ومات في الغربة. الا تكفي كل هذه الشواهد التي تمر بنا كل يوم!!!

    وعبارتك هذه تخط بماء من ذهب :
    “هل أدركتِ البهيمة ما لم يدركه أستاذ التاريخ؟ ألهذا يقرأنا التاريخ في كل مرة؛ لأننا لم نحسن قراءته ولو مرة؟”.
    حفظك الله يا دكتور واطال الله في عمرك.

  9. من زمان والنذير يطلق صيحات الخطر الذي يحيط بأهلنا ، ولكن لايسمعون،
    لقد أصمتهم الأماني وغشت اعينهم تهاويل الملالي إلامن رحم وماأفاقو إلا وهم تحت سياط القدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى