مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

الزلزال الأميركي .. هل أصبحت قضيتنا عالمية ..؟

د.طه حامد الدليمي 

ربما لم أجد حيرة تكتنفني إزاء أي مقال كتبته كهذا المقال.. الأفكار تتزاحم؛ فبأي فكرة أبدأ؟ وأيَّها آخذ أم أيها أدع؟ والأحداث تتوالى بسرعة يصعب معها ملاحقتها كشريط الأخبار أسفل الشاشة لا أكاد أبلغ ثلثيه حتى يفوتني الثلث الأخير؛ فكأنني ما قرأت شيئاً!

أمس شرعت بكتابة مقال حتى إذا بلغت ثلثيه، تبين لي أنه لا شيء إزاء (الثلث) الباقي! وتوقفت أنظر من شاهق إلى أطلاله فأخجلني وجهه أن أُسفِر عنه أمام حضراتكم!

الحيرة هي اللون الذي يصبغ كلماتي كلها! والله المستعان.

دعني أضع بين يديك فكرتين، في رأيي أن المشكلة – باختصار مُرَكّز وشديد – مركبة منهما: الديمقراطية والأقلوية. أم تريد أن تكون البداية من الحدث؟ لكن ليس قبل أن أقول لك شيئاً يصدمك!

لقد أصبحت قضيتنا عالمية ..!

تتهمني بأنني أعاني من الإفراط  في التفاؤل؟ لا بأس؛ قد أكون كذلك، لكن هي تركيبتي الداخلية، حتى في علاقتي بربي تبارك اسمه؛ فالرجاء هو العنوان الأبرز لتجسيد هذه العلاقة، وأتفاعل مع آيات الحب والرحمة والجنة أكثر بكثير من آيات الخوف والعذاب والنار!

في يوم من أيام تموز 2003 بعد الاحتلال بثلاثة أشهر، كنت في جامع (أم القرى) أحضر صلاة جمعة موحدة اشتركت فيها معظم جوامع بغداد. خرجنا بعد الصلاة إلى ساحات الجامع. كان الجو شديد الحرارة، والناس تحتشد وقناة (الجزيرة)تنقل الحدث. ما يهمني من ذلك كله لافتة كتب عليها (نحن الأكثرية الصامتة). التفتّ إلى من حولي وقلت رغم كل عواصف الألم التي تجتاحني: “لقد تقدمت قضيتنا ثلاثين سنة”. وتقولون: كيف؟ وأجيب باختصار: كانت الأكثرية إلى يومنا ذلك صامتة حتى عن التصريح بأنها أكثرية شعب العراق. لقد أنطقها الحدث بسخونته المفرطة! ولولاه ظلت صامتة عقوداً من الزمن الله وحده يعلم كم ستطول،مهما خطبنا وحاضرنا وصرخنا على صفيحنا (الأخخي) البارد.

ما زلت أرقب الحدث وهو يتوسع وقضيتنا تتوسع معه منذ 18 سنة، فأبتسم رغم الألم، وأقول: ها هي قضيتنا تكبر وتعمق؛ فأبشروا. أما أن تتوسع حتى تعبر المحيط فتصل أميركا فأعترف أن هذا لم أكن لأطاله ولو بخيال ذي خمسة أجنحة!

“لا حرية تعبير في أمريكا بعد الآن.. لقد ماتت مع شركات التقنية الكبرى. ‏يمكن لخامنئي والعديد من الأنظمة الديكتاتورية امتلاك حسابات على تويتر بدون مشكلة على الرغم من تهديدها بالإبادة الجماعية لدول بأكملها”.

أتدرون ابن مَن قائل هذه العبارة؟! إنه ابن دونالد ترامب! قالها بعد حظر تويتر حساب أبيه! ثم أرأيتم أنه لم يذكر أي رئيس في العالم لأي سلطة دكتاتورية سوى خامنئي كمقابل لأبيه في توفر حرية التعبير للأول وكبتها للثاني! وهذه نقطة مفصلية في طريق التحولات الاستراتيجية. لقد صار العدو الأول لنا عدواً أول للرئيس الأول في العالم! هنا تتصاعد قيمة الثلاثين فتبلغ بإذن الله تعالى أضعافاً مضاعفة؛ فأبشروا. ولا مجال للخوض في الكيفية التي تتضاعف بها الأعداد.

قد تقولون: إنني أحلم. ربما. ولا غرابة؛ فالسجين مغرم بالرؤى يراها أو تُرى له!

أطراف الحدث

قبل أن أدع الديمقراطية لأتفرغ للحديث عن (عقدة الأقلوية)، لا بد أن أتناول ولو طرفاً واحداً من أطراف الحدث. لكن والله حيرة؛ فبأي طرف من تلك الأطراف أمسك؟

في يوم 3/11/2020 يوم الاقتراع على انتخاب الرئيس وما تلاه من أيام بلغت لحد الآن خمسة أسابيع، أخذت تتكشف للديمقراطية سوءات لم يشهدها العالم من قبل.

كان التزوير أول سوءة كُشف عنها الغطاء منذ ذلك اليوم! شيءغريب.. تزوير علني يحصل في انتخابات تجري في أميركا أم الديمقراطية! بل تزوير مفضوح وعالمي اشتركت فيه الصين وألمانيا وإيطاليا وغيرها من الدول، وموثق بالصوت والصورة وشهادة الناخبين وغيرهم من المطلعين من مختلف الدول والمناصب والتخصصات.

في يوم 6/1/2021 شهدت الساحة حدثاً غير مسبوق في تاريخ أميركا! كانت الحشود التي دعاها ترامب للتظاهر عند مبنى الكابيتول (مقر الكونغرس) تغص بها الطرقات لتشكيل نوع من الضغط على المجتمعين منعاً لاتخاذ قرار مجحف بحق الرئيس. لكن الأمر تطور فدخل بعض المعتصمين المبنى وعبثوا بمحتوياته ونهبوا بعضها، وهرب النواب كل بطريقته الخاصة.

استنكر الرئيس ما جرى ودعا في تغريدة له على (تويتر) إلى ضبط النفس وضرورة سلمية التظاهر. لكن إدارة الموقع أعلنت حظر ترامب عن (التغريد) مدة (12) ساعة بحجة أنه يدعو إلى العنف. ثم تلا ذلك حظر دائم!

وتتابعت مواقع التواصل العالمية فأخذت بحظره تباعاً في سابقة غريبة، ولم يبق له سوى موقع (تيليغرام)! هذا يعني أن رئيس أكبر دولة في العالم قد جرت عملية تكميم لفمه منعاً له من التعبير عن رأيه! أهذه ديمقراطيتك أيها الغرب؟ فكيف هي ديمقراطيتك مع ضعاف العالم الثالث! أتوقف هنا عن ذكر تفاصيل الحدث؛ لقد تأخرت كثيراً عن أهم نقطة في الموضوع.

أمريكا الديمقراطية وعقدة ( الأقلوية )

تعاني الأقليات في أي محيط ذي أغلبية، من الشعور بالأقلوية تجاهه.

يتطور هذا الشعور الطبيعي نحو الأسوأ متى ما وجدت الأقلية أن الأغلبية تمثل تحدياً لها في سبيل الوصول إلى أهداف أكبر من حجمها. وعندما تصر على الوصول إلى تلك الأهداف تجد طاقة الخير التي تملكها غير كافية لذلك؛ فتلجأ إلى تثوير طاقات الشر التي لديها. ثم يتطور الأمر مع الزمن فيتحول الشعور القديم إلى عقدة ذات قدرة على التوالد، وتمسي العقدة مجموعة عقد متشابكة يصعب حلها.

تمتاز الأقليات المعقدة بخصائص كثيرة أهمها أنها:

– حاقدة تشعر بالغبن والمظلومية تجاه الأغلبية، وتسعى للثأر منها بأي ثمن.

-تعمل متماسكة فيما بينها رغم تباينها؛ وذلك بفعل الحاجة إلى بعضها؛ فتتضاعف قوتها.

– تظل عقدة (الأقلوية) تلازمها في جميع حالاتها؛ فالعقدة تتغذى من الداخل لا من الخارج.. حتى لو حصلت على جميع حقوقها وزيادة، أو صارت لأي سبب أغلبية، أو انتقلت إلى محيط يشابهها. أو تملكت فصارت هي الحاكم ووجدت الأمور ممهدة أمامها.

من هنا يبرز لنا قانون اجتماسياسي (Sociopolitical)، لم أجد له حضوراً حتى الآن في قاموس السياسة أو الاجتماع. هو أن الطوائف المصابة بـ(عقدة الأقلوية) لا تصلح للحكم، ولا يصح تمكينها من السلطة: لا على أساس الديمقراطية ولا غيرها؛ لأنها ستُوْقِع الظلم بالذين تحت سيطرتها بصورة شاذة تهدف إلى محوهم وتذويبهم ونفيهم من الوجود. وما يجري من قبل إيران وشيعتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن شاهد. كما أنه دليل على أن أسوأ حل في هذه البلدان هو الحل الديمقراطي؛ لأنه يفتح لها المجال للوصول إلى السلطة من أوسع أبوابه. وهو ما نوهت به قبل سنين، وأثبته كقاعدة في (منهاج المشروع السني) المنشور على موقع (التيار).

ننصف الأقليات  لكن .. لا نسمح بتوليها السلطة

إن هذا يقودنا إلى تقرير أمر ذي أهمية بالغة. ذلك أنه مهما بلغ نظام الحكم من درجات في سلّم الديمقراطية عليه أن يحل هذه المعضلة دستورياً بإنصاف الأقليات ومنحها حقوقها، لكن مع منع تشريع أي قانون يمَكِّنها من الوصول إلى السلطة: لا باسم الديمقراطية ولا أي ذريعة غيرها. إن ديمقراطية الغرب سطحية في نظرتها، كمية في معيارها. وما قررناه هنا يتجاوز السطح إلى العمق، والكم إلى النوع.

لقد سقطت أمريكا – وأسقطتنا معها – في المطب الخطير للديمقراطية. كما أن أنظمة الحكم السابقة والجمهور السني العريض لم ينتبه إلى المطب؛ فكانت عملية السقوط يسيرة.

لكن الأحداث التي انتهت بزلزال الانتخاب دفع أمريكا للانتباه إلى خطر اليسار الأقلوي وضرورة بعث وترسيخ وتفعيل فكر اليمين (الشعبوي). وإن للزلزال تداعياته الوشيكة والبعيدة. وما زال بيننا وبين يوم 20 يناير/كانون الثاني عشرة أيام أراها حبلى بالمفاجآت!

وبين هذا وذاك سينتهي عدونا المشترك الذي جاء اسمه المقرف على لسان ابن ترامب عاجلاً أم آجلاً بكل ما يحمل هذا الاسم من رمزية إلى الشر تجاوزت المحلية إلى العالمية.

بعد كل هذا هل ألام على القول بأن قضيتنا تقدمت عقوداً إلى الأمام؟

2021/01/10

 

اظهر المزيد

‫15 تعليقات

  1. السلام عليكم/ اصبح مرض الاقلوية مرض عالمي يجب دراسته دراسة جدية ، وأنا متأكد أن الدكتور طه أول من تطرق إليه بصورة وافية ، هناك انسجام بين الخطوات التي تتخذها الاقليات وتكاد تكون متشابهه بين الدول المتقدمه والمتاخرة ، والكوارث التي حلت بكل الامم بسبب هذه النزهة.

  2. أكبر فيك الثقة بالله والروح المعنوية العالية والتفاؤل الإيماني الرفيع …
    هذه هي جوهرة القيادة في الوقت العصيب تتجلى فيها لأليء الأفكار وتبرق لها ضياء الأقمار..
    كان رسول (صلى الله عليه وسلم) قد حوصر والمسلمون في معركة الأحزاب فضرب حجرا أعجز المسلمين كسره وهو يبشرهم مع كل ضربة بفتح في الشام والعراق واليمن حتى ضاقت شرايين النفاق وقالوا لايستطيع أحدنا قضاء حاجته من الرعب وهو يبشر بفتح كذا وكذا..
    لاشك أن الأقدار تكشف حقائق زيف هذا العالم الاقلوي الذي دخل تحت عباءة الديمقراطية كما فعلت الموالي بأمة العرب المسلمين وماحلله جنابكم لايحتاج لمزيد كلام… جزيت خيرا وحفظك الله وسددك.

  3. جزاك الله خيرا د.طه حامد الدليمي …. مقالة الزلزال الاميركي _هل اصبحت قضيتنا عالمية ؟ … من خلال قراتي للمقال اصبحت لدي افكار مترابطة وذلك عند حديثك عن عقدة النقص ومدى تأثيرها في د اخل من يحملها فا اليسار الديمقراطي تكونت لدية هذه العقدة لانه مكون من اقليات فيزداد عنده الحقد والشر مهما ملك كما عندنا نحن في المشرق العربي الشيعة المجوس فإنهم لديهم هذا الحقد والانتقام والإجتثاث لانهم اقليه وليسوا اصحاب حضارة فا عندهم عقدة الانتقام من السنة العرب …. اما ما قالة ابن الرئيس ترامب “لا حرية تعبير في أمريكا بعد الآن.. لقد ماتت مع شركات التقنية الكبرى. ‏يمكن لخامنئي والعديد من الأنظمة الديكتاتورية امتلاك حسابات على تويتر بدون مشكلة على الرغم من تهديدها بالإبادة الجماعية لدول بأكملها”.
    فهاذا الرابط المشترك على ان قضيتنا اصبحت عالمية وان عدونا واحد هي إيران ورئيس الشر علي خامنئي .

  4. اولا نبارك لك علاقتك بربك (علاقه الرجاء والتفاءل) فقد كان عليه الصلاه والسلام يبشر أصحابه بملك فارس والروم وهم قله ضعفاء، وبعد سنين معدوده تم ماكان يعدهم به
    اماهذه الالتفات من حضرتكم ورؤيه الحدث وتحليل فليس بجديد عليكم
    فجزاك الله خير يادكتور قد بعثت في أنفسنا امل جديد

  5. سلم الله يمينكم يا دكتور ..
    هذا المقال العميق جدا يرتكز على الفهم والإيمان.. فهم يفسر الواقع تفسيرا صحيحا واضحا بعيدا عن شطط العاطفة وضجيج الاعلام المؤدلج حسب رؤية صناع الفوضى ..
    وايمان مبني على ثقة وتفاؤل بالحق جل وعلا .. فجاء رغم تسارع وتيرة الاحداث وتضخم المعلومة وتراكم الاخبار؛ جاء ليربط بدقة بين الامس واليوم وغدا .. استفادة مما مضى و اهتماما بالواقع وقراءة له واستشرافا للمستقبل .. وذاك هو ديدن القادة ..
    بارك الله فيكم دكتور وزادكم من فضله ..

  6. لا والله ماتنلام .الله يعلي شانك ويحقق مرادك بحكم اهل السنه لانفسهم ويصبح مشروعك حقيقه على ارض الواقع.مقال رائع يمثل الواقع

  7. في حقيقة الأمر، تمثل الديمقراطية لعبة محصلتها صفر، وأداة تعمل على تفاقم الصراعات الإجتماعية. فهي تقسِّم المجتمع بين الأغلبيات والأقليات. وهذه الأخيرة، سوف تجد مناصبها، ومصالحها، وحقوقها عُرضة للقمع الدائم.
    وبالنتيجة، تجنح الديمقراطية إلى إحداث البلبلة والتعصب والظلم. مقال مهم يبين بعض الغموض الذي يكتنف المشهد ويضع النقاط على الحروف ويرينا ضوء في آخر النفق تحياتي

  8. إن أخطر مانواجهه شيخنا الجليل هو تلك الاقلية الناتجة عن المنهجية اليسارية والخطاب الديني الذي يتبناه الإسلام السياسي بقيادة الإخوان المسلمين ومن سايرهم..
    فنحن أمام..
    ١/ بؤس المنهج اليساري وتوحشه
    ٢/ الطوباوية الدينية وغيبوبتها
    ورغم كل الشعارات الرنانة الا ان الهدف هو السيطرة السياسية على المجتمعات العربية فقط..

  9. تحية لكم دكتور ولجميع الإخوة المعلقين والعاملين في التيار السني
    قبل أن أقرأ المقال الرائع
    دار في عقلي هذا السؤال
    معقوله الإرهابي العالمي (خامنئي) حر طليق
    ورىيس أقوى دولة عالمية أمريكا (ترامب) الذي يبحث عن السلام في منطقة مطارد ومغلق كل شيء في وجهه
    هل نرى الصين هي من تقود العالم
    نعم يا دكتور قضيتنا أصبحت عالميه ولله الحمد

  10. مقال رائع لصاحب الفكر الرائع بين ربط الاحداث بدقة عالية في وقت المشاكل المتراكمة يتضح لنا الكلام الصائب الذي يخص قضيتنا الاساسية والمعادلة الراجحة أمام واقعنا الحالي ، هكذا يربي القائد الأجيال …فبين الألم والأمل عِصارة الفكرة وحب العمل، جزاك الله خيرا شيخنا الفاضل

  11. مقال رائع فيه تفصيل مهم لما يجري من صراع وتنافس داخل أمريكا ودور ايران الخبيثة في زرع المكائد والفوضى الخلاقة بين الشعوب لتتمكن من فرض سيطرتها والحفاظ على مصالحها داخل الشرق الاوسط
    جزاك الله خيراً شيخناالفاضل

  12. سدد الله خطاكم على هذا التحليل في زمن الحيرة،
    حيرة الأحداث التي تعصف بالعالم بحيث إذا أخرج يداه لم يكد يراها، ربنا لاتظلنا بعد إذهديتنا،
    وفتح الأبواب لمشروعنا ومكنا مادام الخير فيه

اترك رداً على أنس الاندلسي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى