كليلة ودمنة .. الأصل العراقي الآشوري
د. طه حامد الدليمي
عندما افتتحت البحث عن (كليلة ودمنة) وعلاقة الفرس بالكتاب ما ظننتي سأطيل الحديث معه، لكن أثناء البحث تبينت خفايا وتكشفت خبايا كثيرة ذات قيمة لا يمكن التفريط بها؛ فآثرت أن أبقيها كما وجدتها ولا أقطع خطواتي في طريق البحث رغم أن الأمر، في أصله، لا يحتاج إلى معظمها؛ فبيان عدم علاقة الفرس بالكتاب والفخر به لا يستغرق سوى عدة سطور، سأبدأ بها ثم نشرع في رحلتنا الممتعة بين تلك الخفايا والخبايا القيمة.
إذا الأصل هندي ، واللغة عربية .. ما علاقة الكتاب بالفرس والفارسية ؟
الحقيقة المحورية، التي ينبغي تسليط الضوء عليها وتكون هي مركز الانطلاق، تجتمع في ملاحظتين فقط، هما:
1. أن أصل الكتاب هندي لا فارسي؛ طبقاً لقصته التي رواها عبد الله بن المقفع.
2. وترجم إلى اللغة العربية لا إلى اللغة الفارسية. حسب الدعوى والواقع.
ما علاقة الفرس بالكتاب إذن؟
قد يقال: أوليس مترجمه – أو مؤلفه – فارسياً؟
وأفضِّل أن يكون الجواب بمَثل؛ تقريباً للمقصود، دونما حاجة إلى إعادة وصقل أو شرح قد يُشكل على البعض، أو يطول: رجل عربي يقيم في فرنسا، اكتسب الجنسية الفرنسية، ترجم كتاباً ألماني الأصل إلى اللغة الفرنسية.. ما علاقة الكتاب بالعرب: هويةً ونسبةً؟ أيصح أن يقال لمثل هذا الكتاب: إنه كتاب عربي؟ وهل يحق للعرب أن يفخروا به ويعتبروه جزءاً من تراثهم وفكرهم؟ هذه هي الحقيقة المحورية والجوهرية للكتاب.
مؤلف الكتاب
مؤلف كتاب (كليلة ودمنة) هو عبد الله بن المقفع، اسمه قبل أن يسلم (روزبة بن داذويه). فارسي مجوسي أسلم على يد عيسى بن علي عم الخليفة أبي العباس السفاح.
قيل: إن أباه سرق مبلغاً من المال من خزانة كان مؤتمناً عليها؛ فعاقبه الحجاج بن يوسف بالضرب على يديه حتى تقفعتا، أي يبستا وتقبضتا. وقال ابن مكي في كتاب (تثقيف اللسان): يقولون ابن المقفَّع، والصواب بكسر الفاء؛ لأنه كان يعمل القفاع ويبيعها وهي قفاف الخوص. قتل على الزندقة سنة (142هـ) على يد سفيان بن معاوية والي المنصور على البصرة. وقيل في سبب قتله غير ذلك. إهـ. من واقع الخبرة أنا أرجح السبب الأول.
أما غيره من الأسباب؛ فما من مغموص بالشعوبية والزندقة تعرض للعقاب إلا وتجد له قصة أخرى غير القصة الحقيقية، تعتمد على شخصنة السبب يبرئونه بها. وكثيراً ما تجد في القصة امرأة لها دور محوري فيها. وهذا دليل شعوبيتها وأصلها الفارسي. فصراع الفرس: عامة وخاصة، ومؤامراتهم بسبب النساء والغلمان أمر شائع بينهم.
الشيء نفسه اتبعوه في قصة مقتل ابن المقفع. الذي تشير الشواهد – بما يكفي – إلى زندقته. خذ مثلاً قول الذهبي: (وكان ابن المقفع يتهم بالزندقة. وعن المهدي قال: ما وجدت كتاب زندقة إلا وأصله ابن المقفع)([1]). والخليفة المهدي هو الخبير بالزنادقة وأساليبهم وتتبعهم واستئصالهم. إضافة إلى أنه ينبغي علينا أن نضع في ميزان التقييم والتقويم أن كل الدلائل التاريخية والتجارب المعاصرة توجب علينا كأمة سنية ناهضة أن يكون الأصل عندنا في إيمان كل فارسي الشك حتى يثبت العكس. وإذا كان ثمت من يشهر سيف الحيادية في وجه البحث العلمي، فالحيادية – ونحن أهلها – يجب أن يشهر سيفها في وجوه الجميع، لا العرب وحدهم. هذا أولاً. وأما ثانياً: فليس من الحيادية أن تلغى كل معطيات التاريخ والواقع المعاصر ليجلس الجميع على خط شروع واحد، مع أن تلك المعطيات زحزحت كثيراً في خط الشروع.
المشكلة أن العرب راضون باقتراف هذه الحيادية الأحادية!
لكنَّ قومي وإن كانوا ذوي حَسَبٍ يَجزونَ مِن ظلمِ أهلِ الظلمِ مغفرةً كأنَّ ربَّكَ لمْ يَخلقْ لخشيتِهِ |
ليسوا مِنَ الشرِّ في شيءٍ وإن هانا ومِن إساءةِ أهلِ السوءِ إحسانا سواهمُ مِن جميعِ الناسِ إنسانا |
لماذا كتب عبد الله بن المقفع ( كليلة ودمنة ) ؟
لا أظن مثل ابن المقفع فاتته تلك الحقيقة الجوهرية (عدم علاقة الكتاب بالفرس: لا أصلاً ولا لغةً)؛ لهذا اتبع أسلوب (المروق إلى الدار من النافذة؛ إذ تعذر الدخول من الباب)، فماذا فعل؟
وضع للكتاب قصة غريبة صاغها بطريقة لا تدع القارئ ينتهي منها إلا ويكون أمام مشهد مدهش.. حرْصِ الفرس الشديد الذي لن تجد له مثيلاً عند باقي الأمم على العلم والأدب والحكمة، والسعي للحصول على مصادرها وكتبها مهما كلف ذلك من مال وجهد ووقت وحيلة ومخاطرة. هذه هي النافذة التي دخل منها ابن المقفع – وأدخل معه قومه – إلى دار الفخر بالكتاب والتباهي به أمام الأمم.
من الناحية النفسية تكشف القصة عن آلية استعراضية، أو – بتعبير آخر – صورة من صور (التعويض الزائد Overcompensation)([2]) سقط فيها ابن المقفع دون أن يشعر. وهي وسيلة معروفة في علم النفس يلجأ إليها المحروم من شيء حين لا يريد أن يبدو أمام الآخرين – لخلل في تركيبته النفسية – أنه محروم منه. وعلى قدر الشعور بالحرمان تكون درجة الاستعراض وصور التعويض الزائد. ولقد استعرض ابن المقفع حرص ملك الفرس على الحصول على الكتاب بما لا مزيد عليه! وترجمة ذلك بلغة علم النفس أن الفرس يشعرون بالحرمان من العلم بما لا مزيد عليه. وهي الحقيقة.
وفي الوقت نفسه لا أستبعد أنه قصد التعمية على المصدر الأصلي لحكايات الكتاب، وهو مصدر عربي عراقي آشوري؛ سعياً من الفرس لتغطية كل فضل للعرب، ونسبته إلى الفرس. ما الدليل على ما أقول؟ سيأتي بيانه لاحقاً عندما يأْني أوانه إن شاء الله.
وللكتاب مقاصد سياسية، وهي التي ركز عليها الباحثون، مع أنها ليست الأهم من ناحية التأثير الدائم والبعيد قياساً بما ذكرتُ آنفاً.
قصة الكتاب حسب مزاعم ابن المقفع .. باختصار
زعم ابن المقفع أن الكتاب من تأليف الفيلسوف الهندي (بيدبا)، كتبه لـ(دبشليم) ملك الهند، وقد ترجمه هو من الفهلوية إلى العربية. وجاء في مقدمة الكتاب تلك القصة، وهي تتناسب والعقلية الخرافية للشخصية الفارسية، بدأها بتمجيد كسرى أنوشروان ليظهره بمظهر الملوك العلماء الذين يهتمون بالعلم غاية الاهتمام. وكيف أمر وزيره بزرجمهر أن يبحث له عن رجل مناسب من أهل مملكته، فأتاه بطبيب يقال له بروزيه؛ فلما دخل عليه كفَّر([3]) وسجد بين يديه… إلخ، في قصة طويلة يرتحل فيها برزويه إلى بلاد الهند بحثاً عن الكتاب. وحين عثر على خبره وجده محفوظاً في خزانة الملك لا يمكن أن يطلع عليه أحد بأمر منه؛ وذلك أن بيدبا طلب منه أن يأمر بالمحافظة عليه قائلاً: إني أخاف أن يخرج من بلاد الهند، فيتناوله أهل فارس إذا علموا به؛ فأمر الملك ألا يخرج من بيت الحكمة.
اضطر برزويه – والحال هذه – إلى أن يمكث حيناً من الدهر يُعمل الحيلة بعد الحيلة، ويُقلب الفكرة على الفكرة، ويبني جسور العلاقات مع هذا وذاك من الشخصيات المقربة من ملك الهند… حتى توصل إلى مؤاخاة خازن الملك فأجابه إلى ما أراد وجاءه بالكتاب. فأكب على تفسيره ونقله من اللسان الهندي إلى اللسان الفارسي.
وتستمر القصة تسرد عجائب ما جرى لبرزويه من المصاعب والمخاوف ونفاد النفقة حتى عودته بالكتاب إلى فارس وما جرى له من تكريم من قبل ملكها([4]).
لقد كان التكريم باذخاً، والاحتفال بالكتاب مذهلاً. إضافة إلى ما تجشموه من مصاعب وبذلوه من أموال في سبيل الوصول والحصول على كتاب في الحكمة ذكر لهم أنه موجود في صقع من أصقاع الأرض لم يكونوا يعلمون في أي مكان منها هو! بمعنى أو مغزى آخر أن عناية الفرس بالعلم والأدب كبيرة جداً لا يمكن مضاهاتها.
تشكيك العلماء بصحة الكتاب
لم يكن الشك في الكتب المنسوبة للفرس، ومنها كتاب (كليلة ودمنة)، وليد عصر خاص له ظروفه وملابساته، بل ذلك هو طابع كل عصر قديماً وحديثاً.
لقد صرح الجاحظ (ت 255هـ) بأن الرسائل التي انتشرت في زمانه منسوبة إلى الفرس لا يمكن الوثوق بصحتها، وكشف عن السبب الذي يدعوه لذلك وهو ولع الفرس بالتزوير وصناعة الكتب ونسبتها إلى أنفسهم. وذكر مجموعة من المزورين بأسمائهم كان أولهم ابن المقفع فقال: (ونحن لانستطيع أن نعلم أن الرسائل التي في أيدي الناس للفرس أنها صحيحة غير مصنوعة، وقديمة غير مولدة؛ إذ كان مثل ابن المقفع وسهل بن هارون وأبي عبد الله وعبد الحميد وغيلان يستطيعون أن يولدوا مثل تلك الرسائل ويصنفوا مثل تلك السير)([5]).
يقول الدكتور محمد رجب النجار في كتابه (التراث القصصي في الأدب العربي): إن كاتباً عربياً قديماً هو ابن عمر اليمني (ت 400هـ) أنكر أيضا زعم وادعاء ابن المقفع بنقل الكتاب عن الفارسية، ومن ثم الهندية، فقال: إن ابن المقفع نسب هذا الكتاب إلى الفرس لغايات في نفسه – مادية ومعنوية – إبان الصراعات الشعوبية بين العرب والعجم. وذكر ابن عمر اليمني صراحة أن كليلة ودمنة هو من وضع ابن المقفع، وأن ما فعله على هذا الصعيد فعله سواه من الكتاب في العصر العباسي ([6]).
ومضى ابن خلكان (ت 681هـ) على سنن المشككين في الكتاب وذكر في أصل تأليفه احتمالين، أحدهما أن ابن المقفع هو من وضعه فقال: (ويقال: إن ابن المقفع هو الذي وضع كتاب “كليلة ودمنة”. وقيل: إنه لم يضعه وإنما كان باللغة الفارسية فعربه ونقله إلى العربية، وإن الكلام الذي في أول هذا الكتاب من كلامه)([7]).
وممن قال من المتأخرين بأن كليلة ودمنة من وضع ابن المقفع نفسه محمد كرد علي، وتبعه في هذا الرأي طائفة من المؤرخين والدارسين معتمدين، في ما ذهبوا إليه، على أن ابن المقفع قادر أن يقوم بمثل هذا العمل، وعلى أن في هذا الكتاب روحا إسلامية بينة، وعلى أنه لا يوجد في الهندية كتاب باسم كليلة ودمنة. واستمر الأمر على ما هو عليه من الشك والجدل حتى عصرنا الراهن. لكن امتاز هذا العصر ببروز علم الآثار وتطوره ووجود البعثات الآثارية التي طفقت تنقب وتبحث وتدرس وتقارن، وعثرت على كثير من الكنوز القديمة ومنها مخطوطات الكتب، ومن الكتب التي عثر على أصول لها قديمة كتاب (كليلة ودمنة)، كما مر بنا في الصفحات السابقة. وأصبحت هذه الأصول بمثابة مستمسكات قوية لدى المتأخرين تعين على حسم هذا الأمر بدرجة كبيرة.
افتقار الكتاب لأدلة الإثبات وأولها : الأصل المخطوط
كل ما ذكر عن الكتاب وأصله وقصة انتقاله من الهند إلى إيران، أمر مشكوك فيه، فاقد لأصل ثابت يمكن البناء عليه، سوى الدعوى.
1. عدم وجود مخطوط لنسخة الكتاب الفارسية
زعم ابن المقفع أن برزويه جلب نسخة للكتاب الهندي مترجماً إلى اللغة الفارسية القديمة (الفهلوية/البهلوية). وأنه – أي ابن المقفع – قام بنقل النسخة الفارسية إلى العربية.
لكن لم يجد الباحثون – حتى اليوم – أصلاً مخطوطاً يشهد للنسخة الفارسية بالصحة. ولم يجدوا بين أيديهم سوى النسخة العربية التي كتبها عبد الله بن المقفع، ومنها أخذ الكتاب طريقه إلى العالم.
إن كتاباً بلغ به القدْر إلى حد أن يحتفظ به ملك الهند في خزانته لا يطلع عليه أحد من العامة، وتجشم ملك الفرس ما تجشم من جهد وعناء ومال بلغ، كما جاء في مقدمة الكتاب، عشرين جراباً، كل جراب فيه عشرة آلاف دينار للحصول عليه.. لا بد أن يحرص عليه من بلغ حرصه على الأدب ذلك المبلغ الكبير فتبقى منه نسخ أو – على الأقل – نسخة محفوظة تتوارثها الأجيال خلفاً عن سلف ليتخذوا منها أساساً يعتمدون عليه في توثيقها. فكيف ضاع الأصل ولم يبق منه أثر؟ وكيف ولماذا حفظت نسخة الكتاب العربية، بينما ضاعت نسخته الفارسية، وهي الأصل؟! لا سيما وأن الترجمة التي زعمها ابن المقفع قد جرت في عهد النهضة العربية إبان العصر العباسي في القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي)، وفي بواكير اهتمام الدولة بجمع المخطوطات من الشرق والغرب وحفظها!
الغريب أن نسخة سريانية للأصل الفهلوي كتبت في وقت مقارب للنسخة الفهلوية المفترضة، عثر لها على أصل مخطوط مع أنها سبقت نسخة ابن المقفع بـ(180) عاماً.
2. عدم وجود مخطوط للأصل الهندي السنسكريتي ( البنجاتنترا )
لم يقتصر عدم وجود مخطوط لكتاب (كليلة ودمنة) على النسخة الفارسية فقط، إنما تعداه إلى الأصل الهندي من الأساس المسمى (بنجاتنترا) أي الأسفار الخمسة، فلم يعثر الباحثون على نسخة له باللغة السنسكريتية يحتفظ بها أهل الهند في خزائنهم، مع أن قصة الحصول على الكتاب ذكرت حرص ملك الهند الشديد على المحافظة على الكتاب، وبالغ في ذلك حتى منع العامة من الاطلاع عليه خوفاً من أن يصل إليه الفرس فيسرقوه، واحتفظ به في مكتبته الخاصة، كما جاء في تلك القصة!
3. نسخة سريانية لكتاب الأسفار الخمسة الهندية ( البنجاتنترا )
لكتاب الـ(بنجاتنترا) نسخة مكتوبة باللغة السريانية([8])، نقلت – كما يقال – عن البهلوية. قام بها رجل يدعى (بود) عام (570 م) سماها (قليلجْ ودَمْنجْ)([9]). اكتشفت هذه النسخة في مدريد وتركيا عام 1870([10]). قام بترجمته عن اللغة السريانية إلى اللغة الإنجليزية فرانكلين أدجرتون أستاذ الأدب السنسكريتي وفقه اللغة المقارن بجامعة ييل([11]). وترجمه عن الإنجليزية إلى العربية د. عبد الحميد يونس، مرجحاً أنه وضع ما بين عامي 100 قبل الميلاد و 500 بعد الميلاد.
يضم الكتاب خمسة أسفار فقط، وذلك واضح من اسمه الأصلي (بنجاتنترا = بنجا: خمسة، تنترا: فصول أو أسفار)، كل سفر يضم حكاية واحدة أصلية أو محورية على الأقل. وقد يستوعب أكثر من حكاية لها علاقة وثيقة بأحداث الحكاية الأصلية أو المحورية([12]). بينما تضمن الكتاب الذي تركه ابن المقفع أربعة عشر باباً، بدأها بأربعة أبواب، هي من اختراعه. علماً أن ابن المقفع نفسه لم يصرّح بترجمة الكتاب، إنما ذلك استنتاج ذكره القدماء بناء على قوله في أول سطر من تقديمه “هذا كتاب كليلة ودمنة، وهو مما وضعه علماء الهند”([13]).
احتوت تلك الأبواب الأربعة عشر عدداً ضخماً من الحكايات المحورية والفرعية التي تتشقق عنها كما تتشقق الأغصان عن ساق الشجرة. تزيد حكاياتها على ما في كتاب (الأسفار الخمسة) من حكايات بأكثر من النصف. علماً أن فصول الكتاب في بعض النسخ زادت حتى وصلت إلى (21) باباً.
في كتابه (كليلة ودمنة تأليفاً لا ترجمة) أجرى د. محمد رجب النجار، أستاذ الفولكلور بجامعة الكويت، مقارنات بين النسخة السريانية المترجمة عن الفهلوية لكتاب (الأسفار الخمسة) وبين النسخة العربية لكتاب (كليلة ودمنة) المترجمة عن الفهلوية أيضاً. وأنا أتكلم عن علاقة النسخ ببعضها طبقاً للدعوى الواردة عن ابن المقفع، وما أظهرته الآثار المكتشفة لاحقاً. أقتبس منها ما يلي بشيء من التصرف:
أ. إن الأبواب الأربعة للكتاب العربي، وأكثر من نصف الحكايات الواردة فيه غير واردة في الأصول الهندية أو السريانية. وهذا يعني بداهة أنها إضافات لابن المقفع.
ب. للكتاب العربي حكاية إطارية تضم داخلها جميع أبواب الكتاب وتربط بينها فنياً من أول الكتاب حتى نهايته، هي حكاية دبشليم المستبد وبيدبا الحكيم، كما هو الحال في (ألف ليلة وليلة) وحكاية شهريار وشهرزاد. على حين أن الأصول الأخرى ليس فيها حكاية إطارية، وإنما فيها مقدمة تشير إلى حاكم يريد قبل أن يموت تعليم أبنائه الثلاثة التدبير والسياسة، فيقترح أحد الوزراء تأليف (البانجاتنترا)، ويختفي الجميع بعد ذلك وتأتي أبواب الكتاب منفصلة لا رابط فنياً بينها.
جـ. إن ابن المقفع اذا كان قد أفاد من بعض حكايات النص الهندي، فإنه قام بتأويلها وإعادة تفسيرها. ومن هنا كان صاحب الفهرست موفقاً أكثر من غيره حين قال: إن ابن المقفع (فسّر) الكتاب، ولم يقل (ترجم). ويقصد بإعادة التفسير أو الخلق، في علم الفولكلور، إضفاء معان جديدة على قيم قديمة يحملها القصص المنقول أو الموروث. وهي عملية تقتضي هنا أن يقوم ابن المقفع فنياً، بإعادة بناء النص الأدبي، وإخضاعه سوسيولوجيا للبيئة الجديدة، حتى يكون المتلقي مشدوداً إلى الإبداع الجديد، وإلا فشلت العملية السردية برمتها.
ومن الأمثلة على إعادة خلق الحكايات وتحويرها: أن النص الهندي ينتصر للوزير الشرير الظالم وينسحب الوزير العادل من الحياة السياسية التي لا مكان للشرفاء فيها. بينما نص ابن المقفع ينتصر للوزير العادل، ويعاقب فيه الوزير الشرير وينتهي أمره بأن يقتل في حبسه أشنع قتلة بعد عقد محاكمة سياسية له في فصل كامل هو (فصل أو باب الفحص عن أمر دمنة). وهذا الفصل، أو الباب الجديد الذي عقده ابن المقفع لمحاكمة دمنة، يجمع الدارسون، العرب وغير العرب، وعلى رأسهم نولدكه في كتابه (تاريخ الأدب العربي) على أن واضعه هو ابن المقفع. وهذا صحيح لسبب بسيط هو أن هذا الفصل غير موجود في البنجاتنترا، ولا في نسخ الشاهدة الأخرى الفارسية والسريانية([14]).
4. خرافات/ حكايات إيسوب
لدى اليونانيين كتاب يدعى (خرافات أو حكايات إيسوب). يقول الباحثون: يوجد شبه قوي لحكاياته ببعض حكايات كليلة ودمنة. وإيسوب: حكيم يوناني عاش في القرن السادس قبل الميلاد. كانت حكاياته تروى مشافهة، وبقيت كذلك حتى القرن الرابع الميلادي([15]). وذكر سهيل قاشا عن أثر حكمة أحيقار في آداب الحكمة القديمة ومنها الأدب اليوناني، وأورد القصص والأمثال التي انتقلت إلى مجموعة إيسوب اليوناني من حكمة أحيقار أو (لقمان الحكيم) والكيفية التي انتقلت بها([16]).
5. الأصل العراقي الآشوري ( حكمة أحيقار ) لكتاب ( كليلة ودمنة )
أ. مقدمة تاريخية
يقول الأب سهيل قاشا في مقدمة كتابه (حكمة أحيقار وأثرها في الكتاب المقدس) ما ملخصه: إن ما ورد في كتاب العهد القديم من الكتاب المقدس من أن سفر الحكمة وسفر الأمثال وسفر يشوع بن سيراخ وسفر الجامعة تمثل أقدم نصوص حكمية مدونة في تاريخ البشرية أمر مزور على العهد القديم؛ إذ تبين وبالتحقيق العلمي الأكاديمي الدقيق، أن الحكمة نبتت على ضفاف الرافدين، ونمت وترعرعت حتى امتدت فروعها إلى الشعوب المجاورة وما بعدها، منذ عهد الأكديين والسومريين والبابليين وانتهاءً بالآشوريين، الذين أينعت الحكمة في عهدهم، وأزهرت على لسان “أحيقار”([17]) وزير الملك سنحاريب الآشوري (704-681.م) وكاتبه، حكيم نينوى الذي نجد لحكمته أثراً بيّناً لدى سائر الأمم القديمة كاليونانيين والعبرانيين والمصريين والآراميين والعرب وغيرهم.
وذكر سهيل قاشا أن لديه من الدلائل على أن مدوني العهد القديم كانوا مطلعين على الحكمة العراقية القديمة، ولا سيما حكمة “أحيقار” حكيم البلاط الآشوري وعاصمته نينوى، ومنها اقتبسوا النصوص الحكمية التعليمية والتي جاءت متشابهة في أكثر من سفر. وأن اليهود الذين سباهم الآشوريون والبابليون أدخلوا كثيراً من النصوص العراقية القديمة في الأسفار التوراتية بعد تحويرها.
وكان وادي الرافدين معروفاً بحكمائه، فقد كان لكل مدينة حكماؤها، ومنهم من عرفوا بـ(الحكماء السبعة)، وأحدهم يدعى (أوانيس). ذكرهم المؤرخ والعالم البابلي الشهير (بيروسوس)، الذي كتب تاريخ بابل في ثلاثة مجلدات باللغة اليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد. ولا يسمى حكيماً إلا من كان حائزاً على معارف بعينها، أهمها، كما وردت على لسان بيروسوس: (الإجادة التامة للكتابة والعلوم والقوانين الاجتماعية المنظمة للحياة اليومية، وفقه القوانين، والهندسة، وفنون تشييد المعابد، وتعليم الزراعة، وما يخص البذور، والحصاد، وكل ما يتعلق بالثقافة).
اكتشفت الآداب الحِكَمية العراقية القديمة تحت أنقاض نينوى بين رُقُم خزائن مكتبة (آشور بانيبال)، وهي أقدم مكتبة تم اكتشافها في تاريخ البشرية. وكانت مكتوبة باللغة الأكدية والآشورية. ونشرت بتحقيق الآثاريين العلماء (رولنصون، ولنغدون، وميك، وميسز). وكذلك الرُّقم التي وجدت بين أنقاض (باكزكوي) عاصمة (الحيثيين) القديمة، وغيرها من المناطق الآثارية. وكانت تحتوي على الأمثال الواردة على ألسنة الحيوانات([18]).
وفي معرض تفنيده أقوال معظم مؤرخي الأدب السرياني، لا سيما المستشرقين منهم على اعتبار كتاب أحيقار ترجمة آرامية لنص غريب. ولهم في ذلك مبرر، يقينهم أن الآداب السريانية نبعت من الفكر المسيحي، قال سهيل قاشا: لقد فاتهم أن الآرامية كانت اللغة السائدة في الشرق في تلك الفترة بالذات، منتشرة من المتوسط إلى الهند، وحتى في قلب آشور ونينوى وبابل، وفي الأوساط الشعبية كما في الدوائر الرسمية. وأن ملوك آشور اتخذوا دوماً وزراءهم وكتابهم من الآراميين. أليس أحيقار نفسه آرامياً؟ أو – على الأقل – من المتضلعين من الآرامية. وأنهم أردفوا إلى نصوص رقمهم الآشورية نصاً آرامياً في سبيل نقل مضمونها إلى جميع الشعوب كافة، وهي على علم بهذه اللغة([19]).
وهذا يعني أن تحليلات المؤرخين وأقوال الآثاريين ليست نصاً منزلاً، ولا صكاً مقفلاً. فقولٌ يكاد يجمع عليه مؤرخو الأدب السرياني، يتبين للعيان، بعد ذكر دلائل واقعية لا يمكن إنكارها، أنه بعيد عن الحقيقة! كما أن تخصيص المستشرقين بمزيد اعتقادهم بهذا القول، يشير إلى أن ثمت تحيزاً يميزهم عن غيرهم. ومع أن ذلك القول اجتمع عليه الصنفان: المؤرخون والمستشرقون، كانت النتيجة أنه بعيد عن الواقع!
ب. الأصل العراقي للكتاب
تحكي قصة (كليلة ودمنة) في أول الكتاب أن الأصل الهندي له قد تم تأليفه بعد غزو الإسكندر المقدوني الهند. وهذا حصل سنة 326 ق.م. لكن الآثار كشفت عن شيئين:
1. فقدان الأصل الهندي الذي جاء ذكره في كتاب ابن المقفع. وإنما عثر له على نسخة مكتوبة باللغة السريانية على أنها مترجمة عن النسخة الفهلوية التي يفترض أنها كتبت في النصف الثاني من القرن السادس بعد الميلاد.
2. للكتاب أصل عراقي آشوري أقدم من كل النسخ التي ذكرت للكتاب، كاتبه هو الحكيم الآشوري (أحيقار)، عاش في أوائل القرن السابع قبل الميلاد، أي قبل غزو الإسكندر الهند بأكثر من ثلاثة قرون. وعثر لهذا الأصل على أكثر من مخطوط، أقدمها مكتوب في القرن الخامس قبل الميلاد. أي قبل مجيء الإسكندر إلى الوجود بما يقرب من مئة عام.
يقول الأب سهيل قاشا: اكتشف أقدم نص لقصة أحيقار على أوراق بردي ترجع إلى القرن الخامس قبل الميلاد. وهذا لا يعني طبعاً أنه لم يكن ثمة نص أقدم لم يسلم من الضياع، كما هو مصير كثير من النتاج الفكري والآثار الأخرى([20]). ثم قال: وهو قسمان:
الأول: ويضم النصائح والحكم.
والثاني: وقد أقحم فيه الروايات والحكايات الغريبة المدهشة من طابع القصص الهندي الذي نجد له صدى في كتاب “كليلة ودمنة” من وضع الفيلسوف الهندي بيدبا، وكتاب “ألف ليلة وليلة” وقد تكون ألحقت فيما بعد بها([21]).
وينقل (أنيس فريحة)، خبير اللغة الآرامية عدة صور لمخطوط كتاب (أحيقار)، الذي عثر عليه في جزيرة فيلة جنوبي مصر في كتابه (أحيقار.. حكيم من الشرق الأدنى القديم)، في الصفحات (14-17) منه. صورت لكم هنا إحداها.
كما حدد فريحة زمن كتابتها فقال: أما زمن كتابة هذه القصة على أوراق البردي في جزيرة الفيلة فيعود إلى عهد المملكة الإيرانية في حكم داريوس وإحشويرش، أي في القرن الخامس قبل الميلاد. يقدر ساخو زمن كتابتها يقع ما بين 550 – 450 ق م([22]).
ويؤكد فريحة على شيوع أقوال أحيقار في أمثالنا وحكمنا العامية. ووجود ما يشبهها شبهاً شديداً في أسفار التوراة، مثل سِفر الأمثال والجامعة، وبعض كتب الأبوكريفيا ويخص منها سفر طوبيا ويشوع بن سيراخ. وحاول في كتابه أن يجد مقابلاً لكل قول من أقوال أحيقار في أسفار التوراة وأسفار الأبوكريفيا، وكذلك في بعض أمثال الإنجيل والرسائل. وأنه تحصل له من ذلك عدد كبير([23]).
جـ. قد يكون كتاب ( حكمة أحيقار ) الآشوري هو أصل كل الأصول المزعومة
بعد هذه الجولة يصفو لنا أربع أصول تتنازع كتاب (كليلة ودمنة) لابن المقفع، وهي:
الأصل | التاريخ | المخطوط | الملاحظات |
1. الهندي | بعد 326 ق.م. | لا يوجد | |
2. الفهلوي | عهد أنوشروان (ت: 579 م) | لا يوجد | |
3. السرياني | 570 م | يوجد | مترجم عن الفهلوية |
4. الآشوري | عهد سنحاريب (ت 681. ق. م) | يوجد | زمن المخطوط بين 550 – 450 ق.م |
يلاحظ على بيانات الجدول ما يلي:
1. أن الأصل الهندي والفهلوي لا مخطوط لهما يثبت وجودهما.
2. الأصل العراقي (الآشوري) يمتاز عن بقية النسخ بشيئين:
أ. هو الكتاب الأصلي الوحيد من بين الأصول.
ب. سابق في وجوده لجميع الأصول بمدد طويلة، تتراوح بين (100) سنة: نسبةً إلى أقدم أصل، وهو الهندي المفقود. وقرابة (1000) سنة عن الأصل السرياني الذي ترجمه الكاهن (بود) النسطوري عن الأصل الفهلوي المعاصر له، المفقود أيضاً.
3. الخلاصة: الأصل العراقي الآشوري هو الأصل الوحيد الذي يمتلك أثراً تاريخياً مادياً يخلو من أسباب الشك، وهو أقدم الأصول طراً. ومع قدمه عليها هو الوحيد الذي يحتفظ بدليل إثباته المادي من بينها.
لماذا يترك ابن المقفع حكايات التراث العراقي إلى الهندي ؟
نلاحظ بعد هذا الاستعراض المختصر عن الأصل العراقي (حكمة أحيقار) ما يلي:
1. أن الحكايات التي تتضمن الحِكَم الموضوعة على ألسنة الحيوانات كانت شائعة معروفة في العراق ومنه انتقلت إلى الشرق كله. وقد وصلت آثارها إلى التوراة والإنجيل وتسرب إليهما كثير من حكاياتها. وجدت مخطوطاتها تحت أنقاض نينوى بين رُقُم خزائن مكتبة (آشور بانيبال)، أقدم مكتبة تم اكتشافها في تاريخ البشرية، وبين أوراق البردي في مصر.
2. أن مخطوطات العراق هي أقدم المخطوطات لتلك الحكايات وأوثقها.
ولنا أن نسأل هنا عن السبب الذي جعل ابن المقفع يترك كل هذا التراث، وهو وافر ومنه قريب، ليقفز إلى حكايات مستوردة من الهند؟
سيقال: إن هذا هو واقع الحال؛ فالرجل وجد نسخة باللغة الفارسية، فقام بترجمتها.
لا بأس؛ ما دام يسبق إلى الظن بعد كل ما سبق أنكم أصبحتم مهيأين لتلقي هذا السؤال الصادم: هل مفردات اللغة الفارسية القديمة ( الفهلوية ) قادرة على استيعاب كتاب مثل (كليلة ودمنة)؟ لنتوقف قليلاً ها هنا، ونضع السؤال عنواناً ننطلق منه.
العجز الذاتي للغة الفارسية
قبل كل شيء إليكم هذه الصدمة شهادةً صادرة من عند أهلها:
يقول المؤرخ الإيراني ناصر بوربيرار: إن أول نماذج للغة الفارسية الجديدة ظهرت في القرن الرابع الهجري. أما اللغة البهلوية السائدة في عهد الساسانيين قبل الإسلام في ايران فكل ما وجدناه لها نقوش على بعض الصخور والأسوار تكشف عن أن اللغة البهلوية لغة ناقصة للغاية. لا توجد في جميع هذه النقوش الصخرية (200) كلمة بهلوية. ولا يمكن أن نستخدم كلمتين منها للتعبير عن قضايا ثقافية وفنية ودينية جدية. إنها كلمات يومية بسيطة لا توجد فيها حكمة ولا أدب. وإن جميع الألواح التي وجدت في برسيبوليس (وتسمى أيضاً تخت جمشيد) كانت مكتوبة باللغة العيلامية([24]). أي السريانية (الآرامية).
ثم إليكم هذه الحقائق، ذكرنا براهينها سابقاً، وسنذكر لاحقاً عليها مزيداً من البراهين:
- لم يعثر الباحثون للفرس طوال تاريخهم على مخطوط لكتاب واحد، ولا أثر لاسم عالم واحد في أي فن من فنون العلم والأدب وغيرهما من الفنون.
ومن صعب عليه تصديق هذا فليبحث ليرى ويجد بنفسه، فإذا وجد فليخبرنا حتى نصحح معلوماتنا. حتى إن المؤرخ الإيراني ناصر بوربيرار ذكر ذلك صراحة فقال، وهو يسطر الإنجازات الحضارية لشعوب بلاد ما بين النهرين، ومن ذلك أنهم (صاغوا أولى القوانين حيث نجد كتاب القانون منذ 5200 عام. فقد كانت هذه البلاد مقتدرة تعلمت منها الحضارة العالمية الكثير… واستمر الوضع على هذه الوتيرة حتى نشأ قورش ليحل عقب ذلك صمت يسود ما بين النهرين وإيران امتد (12) قرناً حتى نشوء الإسلام؛ اذ لا نرى في هذه الفترة لا كتاباً ولا إنساناً حكيماً على مستوى عالمي)([25]).
- ولا غرابة في هذه الحقيقة عند من علم أن لغة الفرس عاجزة عجزاً ذاتياً عن أن تصلح لتأليف أي كتاب؛ وذلك لشحة مفرداتها، وكونها لغة يومية بعيدة عن العلم والأدب والفن. وقد أعرب المختصون عن أن (70%) من تلك المفردات عربية الأصل. وأوصلها خبير اللغات القديمة د. أحمد داود إلى (90%). وفي مناسبة أخرى جعلها (80%) من الكلام العربي القديم أو الحديث([26]). وأنا أميل إلى رأي د. داود لأنني لم أجد مثله في براعته بمعرفة اللغات العربية القديمة: السريانية والفينيقية/الآرامية، وقدرته على إرجاع مفردات اللغات اللاتينية والإنجليزية والروسية وغيرها إلى أصولها القديمة.
ومن شواهد ذلك العجز الذاتي أن لغة الفرس لم تتمكن من تقديم نص أدبي واحد طوال عصورها إلى ما بعد (180) سنة من مجيء الإسلام. أي حتى تمكنت من سد ذلك العجز عن طريق استيراد كم هائل من المفردات من معين اللغة العربية. وبهذا ولدت اللغة الفارسية الحديثة المعروفة بـ(اللغة الدرية)، التي نتجت عن تفاعل اللغة الفهلوية مع اللغة العربية.
بل هناك ما هو أغرب!
لقد أجمع المؤرخون في الغرب والشرق أنه لم يكن للفرس من لغة إلا العربية بلهجتها السريانية، التي يذكرون أنها الآرامية! وهذا ما يقوله المؤرخ واللغوي السوري د. أحمد داود.
وبسبب هذا العجز الذاتي للغة الفارسية اضطر الهمجي كورش عندما احتل بابل سنة (539 ق.م) أن يتعامل مع أهلها المتحضرين باللغة الآرامية وليس بلغته الأصلية. واتخذ الملك دارا الأول (521 – 486 ق.م) من الآرامية لغة رسمية للمملكة، حتى إن كلمة ديوان عندهم إنما هي مأخوذة من الجذر الآرامي: (دون). واستمر الأمر على ما هو عليه فكانت الآرامية لغة دواوين الساسانيين إلى مجيء الإسلام.
الشك يلتهم مخطوطة ( بود ) السريانية
- وهنا نصل إلى حكاية النسخة المنسوبة إلى (بود) على أنه ترجمها من الفهلوية إلى السريانية سنة 570 م، وذلك قبل تأليف ابن المقفع كتاب (كليلة ودمنة) بـ(180) سنة. ويقول الباحثون عنها: إن ترجمتها تكاد تكون معاصرة للنسخة البهلوية التي ترجمها برزويه عن الأصل الهندي (البنجاتنترا/الأسفار الخمسة). فكيف حفظت الآثار نسخة الكاهن (بود) ولم تحفظ نسخة ملك الفرس الذي يملك تحت يده كل الوسائل لحفظ هذا الكتاب الذي بذل في سبيل الوصول والحصول عليه ما بذل، والنسختان متعاصرتان!؟
أتحفظ نسخة كاهن وتضيع نسخة ملك، ثم تعود أمة الملك إلى نسخة الكاهن لتتخذ منها مصدراً تعتمد عليه في دعواها؟! لا يمكن القبول بهذه المفارقة الهائلة ما لم نبحث وننقر ونجمع الشواهد لنرى إلى أي الاحتمالين تميل أكثر.
إن من عرف الفرس وخبرَ حيلهم وألاعيبهم ومكرهم وكونهم سادة الأرض في السرقة والشعوذة والتزوير والتمويه، وقد بحثت فوجدت أن كلمة السحر والشعوذة والفتنة (Magic) في اللغة الإنجليزية أُخذت من اسم ديانتهم المجوسية (مجوس = Magi). وكذلك الفرنسية (Magie) والإسبانية والبرتغالية (Magia)، وربما في لغات أخرى أيضاً.. من خبرَ ذلك لا يستغرب أن تكون نسخة (بود) من صنع الفرس أنفسهم، لكن على يد شخص سرياني دفعوه إلى ذلك بوسيلة ما من وسائلهم المعروفة.
إن لغة الفرس – في تركيبتها الفهلوية القديمة – عاجزة عن التعبير لتؤلف كتاباً أدبياً بمستوى (كليلة ودمنة). وإن كتابة نسخة، بلغة مقتدرة مثل العربية الآرامية (أي السريانية)، والتنويه بأنها فرع مترجم عن (أصل) فارسي يعزز الزعم بوجوده، ويجعل المتلقي يعتقد أنه لولا وجود ذلك (الأصل) ما كانت تلك النسخة الفرعية.
فإذا أضفت إلى ذلك أن (بود)، كاتب النسخة السريانية، كان على صلة وثيقة بالفرس والهند معاً؛ فقد كانت له آنذاك رياسة على نصارى الهند وفارس.. توضحت الصورة أكثر وصارت اللعبة الفارسية أقرب إلى الوقوع. فقد أسفر البحث عن أن عبد يشوع أسقف نصيبين، ذكر في قائمة كتبه السريانية، رجلاً اسمه (بود) قال: إنه كان من أهل العلم، وألف كتباً ضد المانية والمارقونية، كانت له رياسة على نصارى الهند وفارس نحو سنة 570 م. إلى أن قال: وهو الذي ترجم كتاب كليلة ودمنة إلى السريانية، وهو الذي سماه (كليلج ودمنج)([27]). وجاء عبد الله بن المقفع بعد (180) سنة فاستثمر ما بين يديه وكتب كتابه وجعل له عنواناً قريباً في لفظه ومعناه من عنوان (بود). وذلك واضح من مقارنة العنوانين أحدهما مع الآخر: (كيلج ودمنج ، كليلة ودمنة).
إن الحقيقة المحورية، التي ينبغي تسليط الضوء عليها وتكون هي مركز الانطلاق، تجتمع في ملاحظتين فقط، هما:
1. أن أصل الكتاب هندي لا فارسي؛ طبقاً لقصته التي رواها عبد الله بن المقفع.
2. وترجم إلى اللغة العربية لا إلى اللغة الفارسية. وهو الواقع.
ما علاقة الفرس بالكتاب إذن؟
وكأنك يا برزويه ما غزيت !
إن الصفحات السابقة تشير بقوة إلى أن كتاب كليلة ودمنة لا أساس له يُوْثَق به، على الصورة التي قصها ابن المقفع. وأنه هو مؤلفه، وقد وضعه معتمداً على ما شاع من الحكايات بين الشعوب على ألسنة الحيوانات، خصوصاً في العراق الذي هو مهدها وأصلها، ثم نسج على منوالها ووضع ذلك الكتاب مختلقاً تلك القصة الغريبة في الحصول على الكتاب. وهذا يؤكد – في الوقت نفسه – نفينا لوجود طبيب فارسي اسمه (برزويه)؛ كما سيأتي بيانه في حديثنا عنه في كتاب (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) لابن أبي أصيبعة.
وحين تلجأ الأمم إلى الكذب في مثل هذا فذلك مؤشر على فقر تراثهم من شواهد العلم والفكر والحضارة والثقافة والمؤلفات الدالة عليها. وهذا أحد أبرز أنشطة الشعوبيين الفرس الذين وجدوا قومهم قليلي المآثر الحضارية والفكرية، ويفتقرون إلى المدونات العلمية والأدبية فذهبوا يضعون الكتب ويسرقون المآثر وينسبونها لأنفسهم؛ من أجل سد ذلك الفراغ والعجز الحضاري، وتغطية النقص الذي يشعرون به أمام الأمم وأولها أمة العرب، النديد النوعي لهم. وسرقة الفرس لتراث الأمم معروف لدى علماء كثيرين من الغرب والشرق. بل اعترف به الفرس أنفسهم، كما جاء ذلك صريحاً على لسان المؤرخ الإيراني ناصر بوربيرار. وسيأتي ذكره لاحقاً إن شاء الله.
إذا أردت أن تعرف تاريخ أمة اقرأ واقعها .. والعكس صحيح
أخيراً أقول: إذا أردت أن تعرف تاريخ أمة فاقرأه في واقعها، وإذا أردت أن تعرف واقع أمة وتتوقع ما سيصدر عنها فاطلبه في تاريخها؛ فالثمرة تخبرك عن جنس الشجرة، والشجرة تنبئك أي ثمرة ستجني من ورائها. ما فعله الفرس أثناء وبعد الاحتلال الأمريكي الفارسي سنة 2003 من سرقة وحرق وتخريب لشواهد العلم والثقافة العراقية مثل المتحف العراقي والمكتبة الوطنية، شاهد لما أقول، لقد كنت أرى في وجوه الإيرانيين وشيعتهم الوجوه نفسها التي كانت تتراءى لي من خلال التاريخ.
لقد دمر الفرس جميع حضارات العراق عبر التاريخ:
أكد: في 1162 ق. م
سومر: في 2006 ق. م
آشور: في 612 ق. م
بابل: في 559 ق. م
الحضر: في 200 ب. م
بغداد/ الاحتلال المغولي: في 1258 ب. م
بغداد/ الاحتلال الأمريكي: 2003 ب. م.
للأسف نذكر نحن العراقيين بأسى أن ممن شارك في هذه المذبحة الفكرية كويتيين. وأنا أبرئ سنة الكويت من ذلك، والمتهم هو الكويتي الشيعي. كما أتهم العراقي الشيعي باستباحة ممتلكات الكويتيين سنة 1990. على أنني لا أقول بتبرئة كل السنة مما حصل هنا وهناك، إنما أبرئ عامة جمهورهم.
3 شباط (2) 2021
…………………………………………………………………………………………………………………..
- – تاريخ الإسلام ، 3/910، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي، تحقيق الدكتور بشار عوّاد معروف، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 2003م. ↑
- – التعويض (Compensation) هو كل محاولة لإخفاء نقص أو التغلب عليه. أو كل محاولة للتحرر من الشعور بالنقص. أما التعويض الزائد (Overcompensation) فهو مهاجمة النقص بعنف بما يؤدي إلى تضخم مظاهر التعويض، كالشخص الضعيف البنية الذي يمارس الألعاب الرياضية ولا يقنع بأن يصير جسمه عادياً بل يجهد نفسه ليكون من الأقوياء. ويتخذ التعويض الزائد صوراً كثيرة منحرفة؛ طمعاً في جلب انتباه الآخرين. مثل الخروج على الناس بأفكار مغربة، أو اللباس غير المحتشم. بل قد يتخذ شكل عدوان وإجرام كي يثبت الفرد لنفسه وللناس أنه غير ضعيف. (انظر: أصول علم النفس، ص462، دكتور أحمد عزت راجح، المكتب المصري الحديث للطباعة والنشر، الإسكندرية). ↑
- – كفَّر (بتشديد الفاء وفتحها): وضع يمينه على شماله على صدره. وهو معروف عند الفرس حين يدخلون على ملوكهم؛ يفعلون ذلك تعظيماً لهم. ذكر ذلك ابن منظور في (لسان العرب) فقال: (والكُفْرُ: تعظيم الفارسي لِمَلكه. والتَّكْفِيرُ لأَهل الكتاب: أَن يُطَأْطئ أَحدُهم رأْسَه لصاحبه كالتسليم عندنا، وقد كَفَّر له. والتكفير: أَن يضع يده أَو يديه على صدره.). كما وجدته في كتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) لأبي الحسن الندوي. فقد قال (ص42): (وكانت الأكاسرة ملوك فارس يدَّعون أنه يجري في عروقهم دم إلهي، وكان الفرس ينظرون إليهم كآلهة ويعتقدون أن في طبيعتهم شيئاً علوياً مقدساً فكانوا يُكفِّرون لهم). وهو ما نفعله نحن المسلمين عند الوقوف أمام ربنا في صلاتنا. لكن ما يلفت النظر أن الشيعة لا يفعلونه في صلاتهم؛ وبعدونه من مبطلاتها. وإذا عرفت أن الفرس هم من قام بتحريف صلاة الإسلام إلى شكلها المعروف عند الشيعة، أدركت أن ترك التكفير في صلاتهم إنما هو في الأصل إشارة خفية إلى عدم اعترافهم بصلاتنا! ↑
- – كليلة ودمنة، ص42-57، عبد الله بن المقفع (ترجمة لكتاب الفيلسوف الهندي بيدبا)، المطبعة الأميرية ببولاق – القاهرة، 1937، الطبعة السابعة عشرة، 1355هــ – 1936م. ↑
- – البيان والتبيين، 3/21، عمرو بن بحر الجاحظ، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1423هــ. ↑
- – كليلة ودمنة صناعة عربية لا هندية، شبكة الفصيح، في 24/10/2004، على الرابط:
http://www.alfaseeh.com/vb/showthread.php?t=4434&s=403f61d896e5746643a0704334d08f0c.
وابن عمر اليمني (كما في: الأعلام، 6/98، للزركلي)، هو أبو عبد الله محمد بن حسين (ت 400هـ/ 1010م) أديب كان مقيماً بمصر، له: “مضاهاة أمثال كتاب كليلة ودمنة بما أشبهها من أشعار العرب”. ↑
- – وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، 2/152، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم ابن خلكان البرمكي الإربلي، تحقيق إحسان عباس، دار صادر – بيروت، 1900م. ↑
- – اللغة السريانية، لغة عربية تناسلت عن اللغة العرباء الأصلية، تكلم بها عرب شرق البحر المتوسط حتى الهند وما جاورها بعد هجرتهم من جزيرة العرب، وتسمى الأكدية أيضاً، والآشورية والبابلية والكلدانية والكنعانية وغيرها من التسميات المنتسبة إلى القبائل العربية التي سكنت تلك المنطقة كلها. وتنسب هذه اللغات زوراً إلى ما سمي بالعائلة السامية. وهي أزعومة استشراقية لا أصل لها. وكلما توغلت إلى الغرب تغيرت اللهجة فتولد عنها اللغة الفينيقية التي تكلم بها عرب ما بعد شرق المتوسط حتى غرب أوربا وأجزاء كبيرة من غرب الأمريكيتين. ↑
- – كليلة ودمنة: مسألة أصله الهندي، د/ ن. شمناد، أستاذ مساعد ورئيس قسم اللغة العربية، كلية الجامعة، تروننتبرام، كيرلا، الهند، المجلة الثقافية الجزائرية، 03/10/2013، على الرابط:
- – إطلالة على تأريخ ترجمة كتاب كليلة ودمنة او الفصول الخمسة، د. انور غني الموسوي، في 13/8/2015، موقع شموس نيوز، على الرابط التالي: http://www.shomosnews.com/ 8
وأحال في الهامش إلى المصدر التالي:
Tarquin Hall[dead link] “Review 36: Colin Thubron, Shadow of the Silk Road, London: Chatto & Windus, 2006, New Statesman, 25 September 2011, Review includes description of how some of the monks likely traveled in ancient times. ↑
- – الأسفار الخمسة أو البنجاتنترا، ص5، فرانكلين أدجرتون، ترجمة الدكتور عبد الحميد يونس، مكتبة شيخ المترجمين عبد العزيز توفيق جاويد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1980. ↑
- – مجلة الفيصل، العدد 11، ص80. ↑
- – جريدة الرياض، مقال بعنوان (لماذا قتل ابن المقفع ؟)، جهاد فاضل، الأربعاء 2 شوال 1432هـ، 31 أغسطس 2011م – العدد 15773. ↑
- – كليلة ودمنة صناعة عربية لا هندية، شبكة الفصيح، في 24/10/2004، على الرابط:
http://www.alfaseeh.com/vb/showthread.php?t=4434&s=403f61d896e5746643a0704334d08f0c ↑
- – قصص الحيوان بين “كليلة ودمنة” و”حكايات إيسوب”، ص5، رسالة دكتوراه في الأدب، الطالبة وفاء بنت إبراهيم السبيل، إشراف أ.د. محمد بن عبد العظيم بنعزوز، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1427-1428هـ. ↑
- – حكمة أحيقار وأثرها في الكتاب المقدس، ص10 بتصرف، الأب سهيل قاشا، دار المشرق، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1996. ↑
- – اسمه (أبو – نينو – داري)، وأحيقار لقبه ومعناه: أخو الوقار أو الكرم. كما جاء في ص7 من كتاب سهيل قاشا المشار إليه في المتن. ↑
- – حكمة أحيقار وأثرها في الكتاب المقدس، ص6-9 بتصرف. مصدر سابق. ↑
- – المصدر نفسه، ص12. علماً أن الآرامية والأكادية والآشورية والسريانية والفينيقية ليست أكثر من لهجات متقاربة للغة واحدة هي العربية الأصلية في الجزيرة العربية. ↑
- – المصدر السابق، ص10،9. وفي الهامش: اكتشف النص الآرامي هذا على أوراق البردي بين وثائق آرامية كثيرة مشابهة بيد البعثة الألمانية في جزيرة الفيلة بمصر سنة 1906… والنص خالٍ من التاريخ، ولكن بعض الدلائل الماثلة استنتج العلماء أنها من النصف الأخير من القرن الخامس قبل الميلاد، كما هي الحالة في بقية الوثائق المكتشفة في المكان والزمان نفسيهما. (راجع هذا التفصيل لدى المطران بولص بهنام، أحيقار الحكيم، بغداد، 1976، ص29-30). ↑
- – المصدر السابق، ص12. ↑
- – أحيقار.. حكيم من الشرق الأدنى القديم، ص19، أنيس فريحة. مصدر سابق. ↑
- – المصدر السابق، ص9-10. ↑
- – حوار مرئي أجراه الباحث الأحوازي يوسف عزيزي الطرفي، على الرابط:
- – حوار مكتوب ترجمه يوسف عزيزي على مدونته الإلكترونية بتاريخ 22/9/2010، على الرابط:
http://arabic-naria.blogspot.com/2010/09/blog-post_22.html ↑
- – تاريخ سوريا الحضاري القديم (1- المركز)، ص668. مصدر سابق. ↑
- – مقال: الفلكلور لغة تواصل الحضارات، ص17، أ.د. سوزان يوسف (كاتبة من مصر)، مجلة الثقافة الشعبية (بحرينية)، العدد 40- السنة الحادية عشرة – شتاء 2018. ↑
بارك الله في شيخنا الفاضل..والله إن المرء ليدهش للكم الزاخر من المعلومات التي يمتلكها والقدرة التحليلية الفريدة والمنطق المتماسك المنظم المقنع
والقدرة الفائقة على توظيف هذه المواهب في خدمة الحقيقة..ألا فليحفظه الله سيفا صارما وأسدا هصورا ينافح عن الدين بكل كفاءة وإخلاص وفعالية..وجزاه الله عن المسلمين والإسلام كل الخير..وتبا لمنتقديه من السذج والجهلة والخائنين والحاسدين..وإني ومن متابعاتي له منذ أكثر من عقدين لأراه قائد الفكر و مجدد العصر دون منازع..وفقه الله لتحقيق غاياته العظيمة النبيلة..آمين.