أ. عبد الغني شيت الموصلي
منظومة الفقيه القائد/ التَّيَّار السُّني في العراق
فحيهلا…
في أُمسية أوَّل أمس وعند قراءتي لسورة النِّساء يسَّر الله لي منهنَّ صالحةً قانتةً حافظةً للغيب، قولوا: آمين. التقطت مفهومين عند تلاوتي لقولي الله –تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} النساء: 59، و: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} النساء: 83.
أنهما مذكوران في: {أولي الأمر} وتجاذبت أقوال المفسرين في تفسيرها بين الحاكم والعالم، لكنَّ الذي شدَّني أنَّ فريق القائلين بأنَّه العالم هم الموالي[1]!
بينما فهم الآية متعيِّن من سبب النزول إن صحَّ وهذا لا يختلف عليه اثنان، وهنا قد صحَّ سبب نزول الآيتين، فسبب نزول الأولى كما أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عباس –رضي الله عنهما-: “نزلت في عبد الله بن حُذافة بن قيس بن عَديٍّ، إذ بعثه النبيُّ -صلى الله عليه وسلَّم- في سريَّة.
ومعلوم أنَّ طاعة أمير الجُند هي من طاعة الحاكم، بل تُعدُّ ولاية صغرى كما هو مصطلح عليه عند الفقهاء عموماً وفقهاء السِّياسة الشَّرعية خصوصًا.
فماذا بعد النص الصحيح الصريح إلا هوى الموالي!
مشكلة سعيد بن جبير والحجاج
عادت بي الذاكرة بعد أن فكَّرتُ في سبب جنوح الموالي للقول بأن أُولي الأمر هم العلماء إلى قصة الخلاف بين سعيد المستعدي على الأمير الحجَّاج بن يوسف الثقفي -رحمة الله عليه-
ألم يكن وليَّ أمر، ألم يكن مطاعاً معقودة له الولاية الصغرى من أمير المؤمنين؟!
إنَّها مسألة تدافع الشرخ النفسي الذي يريد أن يلتئم وينسد بإيجاد مكان له من خلال النص!
فتفهَّمت مداخل الخوارج والموالي وحمراء الكوفة من هذه الحيثية ومن هذا التفسير النفسي.
فخوارج الأمس وخوارج اليوم، وحمراء الكوفة وذراريهم المعاصرين، والموالي وأتباعهم في الفكر والتقليد لم ينفكُّوا وما برحوا يتمسَّكون ويتمسَّحون بهذه الآية يلوون ذراعها لأجل الإذعان والانقياد لقولهم بأنَّ أولي الأمر هم العلماء!
وماذا بقي للحاكم؟!
وليت شعري من يدري ما أُضمر لتاريخنا من غير هذي الفكرة التي قامت على أثافي الخوارج والموالي والمقلدين العُمي.
ذكرى
وصدق تحليل دكتور طه الدليمي إذ وجد نصًا للدكتور القرضاوي يحكي فيه سبب كتابة المسرحية!
وهذه والله طامة ورَّثها الموالي لهؤلاء وورَّثها هؤلاء لمواليهم!
العلماء هم الحكَّام والحكَّام هم العلماء
هذه هي الحقيقة من أوَّلها فلم يكن لحاكم أو لوالٍ أن يتعيَّن أو يُنصَّب حتى يكون مستعدَّاً في العلوم ومتكِّناً منها، وليقرأ كل أحدٍ منَّا فتاوى الحُكَّام في الدولة الأموية وقليلٍ منهم في الدولة العباسيَّة ستجدهم لم يفترق وصف العلم عنهم حتى أتى القرن الثالث الهجري ليدخِل المعتزلة علوماً طارئة وفيها تفاصيل معقَّدة ومباحث متفرِّقة ليست من متن العلم ولا من مُلحه كل ذلك مدروسٌ له لخلط أوراق العلم النقي الذي كان يُنهل من المورد الصافي.
ووالله إني لأقرأ في أصول الفقه وكما قيل: وإنَّما العلم الأصول وإنَّما الأصول القياس وإنَّما القياس العلة.
فلم أجد من روح الرسالة التي كتبها الشَّافعي إلا نزراً يسيراً مؤوَّلاً محرَّفًا عما كتبه الذين جاؤوا بعده وكتبوا فيه.
لمَ هذا؟
لجعل العلم في صوامع وعند خواص ويُذاد عنه الحاكم الذي لا أبرئِّه ها هنا، وليس موضوعي الدفاع عن الحُكَّام بقدر ما أريد أن أُؤصِل لفكرة التحريف في مفهوم الحاكم والعالم، فهناك تزاحم فكري بينهما ارتبط بعد ذلك بالفقه ليكوَّن فيما بعد اختلاطاً في المفهوم وتنافرًا في المقصود من الحكم والعلم.
الآية الثانية
هنا أجد نفسي عند التفسير السياقي لمفهوم القرآن، فسياق الكلام هو من يُحدِّد التفسير والمراد من النص.
وقبل ذلك فإن الاستيعاب مهم لاحتواء المفهوم النصي لكتاب الله –تعالى- الذي كان مرنًا في كلماته حسب كل موضع.
إنَّ الآية تتكلم عن ظاهرة مجتمعيَّة في تقييد الإشاعة الضَّارة في المجتمع، وقطع لسان متقوِّلها، وهذه تحتاج لأهل الاختصاص الذين هم ولاة أمر فيما نُصِّبوا فيه، إنَّ الإشاعة -وهي نازلة أخلاقية وأمنية في الوقت نفسه- تحتاج العلاج من الحاكم ومن هم معه من أهل الولاية الصغرى، وهذا يدفعنا لتتهيَّأ الذوات والشخوص أصحاب الاختصاص لقوادم الأيام في العلوم الأمنية وفروعها بقدر ما نحتاج إليهم، كي تُردَّ الأمور إليهم ويُحصِّنوا المجتمع والدولة التي ننشدها للحفاظ على الهوية السُّنية المقصودة في جهودنا، وعودتها هويةً لنا ولبلدنا الذي حُرمناه حقباً.
{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ}. ولا أُخفيكم أنَّ شيخنا الدكتور طه الدليمي كان له الحظ الوافر في تسديد الفكر والقلم، لذا عدتُ لسبب النزول فيها[2]، وعندها توضَّحت لي دلالة {أولي الأمر} في الآية الثانية وأنَّ سيدنا عمر –رضي الله عنه- الذي كان ثاني الوزراء للنبي –صلى الله عليه وسلَّم- كان من البطانة الصالحة وكان وزير صدق وعنصرًا استخباراتياً ناجحاً في إبلاغٍ عن كل إشاعة مغرضة ضارة بالمجتمع، ولنقرأ: عن سيدنا عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نساءه قال: دخلت المسجد فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون طلق رسول الله نساءه، وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب. قال عمر: فقلت لأعلمن ذلك اليوم فذكر الحديث، وفيه بعد استئذانه على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقلت: أطلقتهن يا رسول الله، قال: “لا” قلت: يا رسول الله إني دخلت المسجد والناس ينكتون بالحصى يقولون طلق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نساءه، فأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن، قال: “نعم إن شئت”. فذكر الحديث وفيه فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله نساءه، ونزلت الآية {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} وكنت أنا استنبطت ذلك وأنزل الله آية التخيير”[3].
فها هنا تنبيهات:
- {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ}، ورود كلمة العلم، وهذا يعمُّ كل ذي اختصاص من العلوم، ويخصُّ أهل الحكم لوقاية الدولة والمؤسسة.
- {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ}، ورود كلمة الاستنباط، ولا بد من وجود ملكة الاستنباط التي لها ضوابطها وعلومها ومنهاجها كي يستطيع أولو الأمر الحفاظ على وجودهم ووجود دولتهم.
- {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ}، وهنا يتحقَّق: “عالمٌ واحد أشد على الشَّيطان من ألف عابد”[4]، ورجال الأمن وأهل الحكم هم من يضربون على يد شياطين الأنس من الفاسدين والماكرين والعملاء والمتخابرين مع القوى المناوئة والدول المعادية في الخارج ومن المرجفين في الداخل.
إنني ها هنا أدعو كل ذي غيرة من السُّنة أن يعمل على نفسه فيصنعها وينتج منها شخصية حاكمة قيادية إدارية، وأن يثق بأنَّ هذا من ضمن التغيير المشروط: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم} الرعد: 11، وهذا الذي يُعجِّل بالقدر للتغيير المرجو، وقد رأينا استحواذ الشيعة على الحكم ممَّا يقرب على عشرين سنة، وتمرَّسوا على السِّياسة والإدارة والحكم، ومقابل هذا لن يأتيَ السُّنة ولن يكونوا ما لم يصنعوا شخوصاً عندهم مُكنة التخصص في تولي الحكم.
هنا تحرَّر القول في بيان المعنى بل وفيما ننشده من كلِّ سُنيٍ يعمل للتمكين.
وبعد هذه المسامرة الرمضانية أرجو أن يكون الاشتباك قد انحل، وأن تكون هناك ملامح لوضع المصطلحات والمفاهيم في سياقها وإعطاء كلٍ منها نصابها.
تقبل الله منَّا ومنكم الصيام والقيام.
وكل رمضان قادسية…
2021/4/19
_______________________________________
[1]. انظر نقولات الطبري في جامع البيان في تأويل القرآن، 8/ 495، محمد بن جرير بن يزيد، أبو جعفر الطبري 310هـ، المحقق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1420هـ -2000م.
[2]. انظر تفسير الطبري 8/573
[3]. الصحيح المسند من أسباب النزول، 1/72، مُقْبلُ بنُ هَادِي بنِ مُقْبِلِ بنِ قَائِدَةَ الهَمْدَاني الوادعِيُّ (المتوفى: 1422هـ)
مكتبة ابن تيمية – القاهرة، الطبعة: الرابعة مزيدة ومنقحة، 1408هـ-1987م.
[4]. أخرجه ابن ماجة، وفي الحديث ضعف، ومعناه صحيح.