سياسةمقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

فكِّر عراقياً .. وتصرَّف سُنياً

د.طه حامد الدليمي 

في أواخر عام 1986، كنت طبيباً في  مستشفى الفلوجة العام، وأستلم راتباً مقداره (130) ديناراً في الشهر. كنت أجلس في غرفة الفحص عندما دخل الأخ الفرّاش (وهو من مصر الشقيقة) ليمسح بَلاط الغرفة وينظفها. كان الفصل شتاءً، فكنت أرتدي تحت الصدرية البيضاء سترة نيلية من مخلفات الكلية الطبية.. اشتريتها وأنا طالب، وقد مرت عليها لحد تلك اللحظة ثلاث سنين بالتمام والكمال، وها هي تدخل سنتها الرابعة من عمرها المديد.. لا أدري لم سألت الفراش، والسماعة الفضية تتدلى من رقبتي: كم راتبك الشهري؟ فأجاب: (260) ديناراً (!). أي ضعف راتبي بالضبط! نعم.. بالضبط([1]). وأرخت هذه الواقعة بقصيدة أسميتها (الطبيب الزاهد) تقول أبياتها:

قالوا : طبيبٌ ؟!

قلتُ : تلكَ وظيفتي

قالوا : بخيلٌ ؟!

قلتُ : ما منْ شاني

قالوا : فما بالُ الملابسِ رثةً

متغيراتِ الشَّكلِ والألوانِ ؟

فأجبتُهم ..

سبحانَ من أوصافُهُ

عزَّتْ على التغييرِ والأزمانِ

والناسُ  في هذي البلادِ

ألم تروا ..

رفعوا شعارَ العدلِ في الأوطانِ

وإذا تساوى الصخرُ والإنسانُ

في بلدٍ ..

وصارَ الكلُّ في الميزانِ

ساوَوا ..

بمنْ مسحُ البَلاطِ نصيبُهُ

من يمسحُ الأحزانَ عنْ إنسانِ

فلْتحْيَ في بلدي العدالةُ

ولْتَعِشْ أفكارُ من نادى بها ..

وسباني

مستشفى الفلوجة/ أواخر عام 1986

الشخصية العراقية

أحدى إشكاليات العقل العراقي انشغاله بقضايا الأمة أكثر من قضايا البلد.

وهذه طبيعة في العراقيين ربما تعود جذورها إلى الانحدار البدوي لغالب سكان العراق، الذي يحمل في طياته أخلاق العروبة الأولى وسجاياها. تلك الأخلاق السامية التي جاء الإسلام ليتممها ويهذبها، ويقول بكل وضوح: (وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنفال:75]. لسنا أعلم من الله جل وعلا، ولا أخبر بشؤون عباده ومصالحهم وما يصلحهم. وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: «دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ في سبيلِ اللَّه، وَدِينَارٌ أَنْفَقتَهُ في رقَبَةٍ، ودِينَارٌ تصدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفقْتَهُ علَى أَهْلِكَ، أَعْظمُهَا أَجْراً الَّذي أَنْفَقْتَهُ علَى أَهْلِكَ » رواه مسلم. وهذا حين لا يكون الرجل يملك غير ذلك الدينار وأهله في حاجته.

بين المواطن العراقي والزائر العربي

في العراق كانت حقوق العرب الوافدين في الدراسة والعمل والتوظيف والخدمات هي نفسها حقوق أهل البلد سواء بسواء. هذا إن لم تزد عليها أحياناً. وكنت أتصور أن هذا هو الحال في جميع البلاد العربية. وحين سافرت إلى بعض تلك البلدان وجدت الأمر مختلفاً تمام الاختلاف؛ فابن البلد صاحب الامتياز الأول في كل شيء!

جدلية الفكرة والواقع

يعود هذا إلى الخلل في معادلة التوفيق بين الفكرة والواقع، فيكون التفكير بناءً على الفكرة والمبدأ والقيمة بعيداً عن استحقاق الواقع. القوميون عندنا في العراق أنظارهم مشدودة إلى بلاد العرب أكثر من الوطن، والإسلاميون يفكرون في بلدان المسلمين أكثر من العرب. وهكذا خسرنا الواقع.

انسحبت طبيعة التفكير هذه آلياً إلى أهل السنة. فإن أحد أسباب ضعف السنة في العراق أنهم يفكرون في قضايا الأُمة والبلد أكثر مما يفكرون في قضيتهم كسنة، مع أنهم اليوم مستهدفون من قبل شركاء لهم في الوطن لا يسلمون لهم عملياً بحق العيش فيه إلا ضعفاء مهمشين. إنهم ينوءون بحمل أكبر من حجمهم، وذهنهم منصرف للتفكير خارج نطاق كيانهم.

وهذا خطأ في ترتيب الأولويات على مستوى التصرف والعمل. والسبب أن معالي الأمور والمبادئ السامية تغلب عليهم. أي إن تفكيرهم يتم بناء على (الفكرة/الآيدلوجيا) لا بناءً على الواقع. فيحدث الخلط عندهم بين ما هو أول في القيمة، وبين ما هو أول في العمل. والصواب أن يفرق بين الأمرين: فما كل أول في القيمة يكون أولاً ومقدماً في العمل. بر الوالدين أعلى في قيمته من الكسب للعيش. لكنك قد تقدم السفر وترك الأهل إذا كان من أجل تحسين وضعك المادي، فتبتعد قليلاً لتعود أقوى وأقدر على برهم مما لو مكثت عندهم فقيراً ضعيفاً.

هكذا يفعل الحكماء

انظروا إلى شعارات إخواننا المتظاهرين في تونس ومصر وغيرهما من دول العرب. لقد كانت كلها تركز على الوضع الداخلي للبلد. فلم يرفعوا شعاراً لتحرير فلسطين، ولا هتافاً يخص العراق، ولا لافتة عن هموم اليمن، ولا كلمة واحدة عن أي بلد آخر. وهذا صحيح كل الصحة إذا نظرنا إليه نظرة تأخذ بالحسبان مبدأ الواقعية والمرحلية. فالضعيف لا يمكنه إنجاد غيره من الضعفاء ما لم يتخلص هو أولاً من ضعفه، وإذا دفعته حماقته (الفكرية) لمثل ذلك فلن يزيد الضعفاء إلا ضعفاً على ضعفهم.

هذا إن كانوا معه. أما إن كانوا ينوون به الشر فيكون العمل للمجموع ونسيان الذات ليس حماقة، وإنما هو الهلاك عينه.

العراق في عيوننا .. والأمة في قلوبنا

العراق في عيوننا، والأمة في قلوبنا نحن السنة في العراق. وهذه القيم هي المقدمة في سلّم الأولويات العليا لدينا. ولكننا حتى نعيد العراق قوياً موحداً لا بد – نعم لا بد – أن نلتفت مرحلياً إلى كياننا كسنة فنقويه وندعمه، ونقفه على قدميه شامخاً عزيزاً، عندها ننتقل إلى المرحلة الأُخرى. وهكذا. وليكن شعارنا في هذه المرحلة (فكر عراقياً.. وتصرف سنياً). وذلك ترجمة عملية للحكمة الرائعة التي تقول: (فكر عالمياً وتصرف محلياً).

وإلا فوالله لن نجني إلا الضياع؛ فشركاؤنا في الوطن لا يريدون بنا غير ذلك.

وتجربة ثماني سنين تكفي….. فـ……….. كفى.

ملاحظة لا بد منها/

كتبت هذا المقال قبل عشر سنين، تحديداً في 28/2/2011 .

2 حزيران (6) 2021

_______________________________

[1]- هذا إذا حسبتها طبقاً لظاهر الأمر. أما في الحقيقة فإن قوة راتب الأخ الفراش تعادل راتبـي أنا الطبيب (18) مرة! كيف؟! كان القانون العراقي يسمح للمصري بتصريف الدينار بالسعر الرسمي وهو (3) دولارات للدينار الواحد. بينما سعر الصرف بالنسبة للعراقي معكوس تماماً كما انعكس راتبي وأنا طبيب فصار نصف راتب المصري وهو فراش! فالعراقي يدفع (3) دنانير مقابل دولار واحد! وبحسبة رياضية بسيطة [يضرب فيها راتب الفراش المصري في (3) ويقسم راتب الطبيب العراقي على (3)، ثم يضرب راتب المصري مرة أخرى في (2) لأنه ضعف راتب الطبيب، أو يقسم راتب الطبيب على (2) لأنه نصف راتب الفراش] تظهر الحقيقة الصاعقة ذات الرقم (28) التي ذكرتها في بداية الهامش جلية واضحة!

اظهر المزيد

‫7 تعليقات

  1. جزاكم الله خيرا شيخنا الفاضل …. الاولوية دائما ترجع الى المشكلة الجذرية مثال شخص مصاب بسرطان لكن هو لا ينظر لهذا المرض الذي فيه ولا يبدي اي اهتمام بل هو مهتم بغيره من المصابين بنفس المرض وهذه هي المشكلة التي يعاني منها الاغلبية يريد شفاء غيره وهو يحتضر كما العراق في غابر الازمان والى الان كل من حكمة نظر الى غيره دون النظر الى السرطان الفارسي المجوسي الايراني الشيعي هذا الداء الذي اصاب العراق
    وهذه العبارة فكِّر عراقياً .. وتصرَّف سُنياً يجب ان يحملها كل صاحب قضية ويعمل بها .

    الاموية

  2. الله الله يا د. فكر عراقياً وتصرف سنياً،
    التجديد إحياء ألأُمة فرداً وجمعاً،الغاية من ذالك تعديل المسار في زمن الضياع؟
    الشيخ د. حفضه الله، جاء بمصطلحات تجديدية حينما يسمعها صاحب العقل الحر السليم يجد نفسه يتقرب من ألواقع إلى القرآن ويتصور، أن كل من يسمعها يأخذها بنفس القبول أوبعين ألإعتبار ــ كلا والله يهدي من يشاء
    ولقد جربنا ذالك في الميدان وعرضنا هذه المفاهيم على بعض الأحبة المقولبون لم يعي مانقول إلى حد النفرزه……فلك الحمد يارب على نعمة الهدى؟!
    خطب أحدهم على فلس؟ وطين بكا بكاء الثكلا على تحريرها من قبضة الصهاينة قائلاً أين العرب أين العروبة أين أمة الإسلام أين….. ولما انتها ونزل الأرضِ لم يجد إلآ فلساً وطيناً سلبته إيران من جيبه ومن تحتي قدميه وامصيبتاه ، شكراً للمجددين على مدى العصور شكراً للمجدد، د. طه الدليمي 🌷🌷🌷

  3. جزاك الله خير الجزاء على هذا المقال شيخي نسأل الله أن يثبتنا وإياكم على الإيمان

  4. الأفكار التي يطرحها
    الدكتور طه الدليمي حفظه الله تنطلق من الربانية لتصحيح مفاهيم
    واقيعة؟
    ومن هذه المفاهيم المفهوم المحلي
    يعني فكر عراقياً وتصرف سنياً
    التشخيص الداخلي من أولويات العمل في زمن التغيير وهذا
    سر نجاح المشروع السني،
    وذالك المفهوم لم يكن عند المؤسسات والمشاريع الأخرى،
    ونحن ننظر إلى المشكلة الداخلية قبل أن نفكر وننشغل بالأقطار الأخرى
    قضيتنا السُنية ، أمام المشكلة الشيعية ،فعلينا تحصين وتكوين الصف السُني من خطر الشيعي، الذي يحارب الدين -ويقفل العقل-
    ويخرب الحياة

  5. طرح رائع لسُنة العراق في تكوين أنفسهم
    وحمل قضيتهم في مواجهة مشكلتهم داخل العراق
    لينهضوا من سباتهم ويعيشوا واقعهم الحقيقي
    لأنهُ واجب ديني وقانوني وإنساني
    {{فكِّر عراقياً .. وتصرَّف سُنياً}}

  6. اعجبتني انطلاقة الفكرة بذلك الموقف الذي حصل معكم دكتور، هو يلخّص تلك التركيبة النفسية للعراقي.
    نعم نحن اهل العراق نُقدّم قضايا الامة على قضايانا، وآن الاوان أن نصحح تلك العُقدة ان صح التعبير، وليكن قضيتي اولاً وانا اول.

اترك رداً على عائشه عبد الرحمن إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى