د. طه حامد الدليمي
تسللت العقيدة المحرفة للقادم الموعود بالحث والعدوى وبدافع المنفعة وإغراء السلطة، إلى أوساط المسلمين عبر أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ممن أسلم منهم وممن بقي على دينه القديم، وعبر السعي الحثيث للمجوس المبرقعين الذي انساحوا داخل المجتمع الجديد، ونفثوا فيه سموم أحاديثهم المخترعة، لتظهر تلك العقيدة بأشكال مموهة تتوافق في ظاهرها مع دين الإسلام!
فتح هذا التحريف الباب أمام رؤوس الفرق والطامعين بالسلطة فتلقفوا الفكرة وقاموا بإشاعتها بين الناس، بعد تمليحها بروايات منسوبة إلى النبي . كان من هؤلاء الحسني عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (70-145هـ)، ثم العباسي أبو جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس (95-158هـ).
عبد الله بن الحسن المثنى
قال جمال الدين المزي في (تهذيب الكمال:25/468) وهو يترجم لمحمد بن عبد الله بن حسن بن حسن: (أخو إبراهيم وموسى وإدريس الأكبر: قال داود بن عبد الله الجعفري، عن الدراوردي، عن ابن أخي الزهري: تجالسنا بالمدينة أنا وعبد الله بن حسن فتذاكرنا المهدي، فقال عبد الله بن حسن: المهدي من ولد الحسن بن علي. فقلت: يأبى ذاك علماء أهل بيتك. فقال عبد الله: المهدي والله من ولد الحسن بن علي ثم من ولدي خاصة. وقال يحيى بن الحسن بن جعفر العلوي النسابة: حدثني عبد الله بن محمد، عن حميد بن سعيد، قال: لما ولد محمد بن عبد الله سر به آل محمد، وكانوا يروون عن النبي أن اسم المهدي محمد بن عبد الله. فأملوه ورجوه، وسُروا به، ووقعت عليه المحنة، وجعلوا يتذاكرون في المجالس وتباشرت به الشيعة… وروي عن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن، قال: حملت جدتي هند بنت أبي عبيدة بعمي محمد بن عبد الله بن حسن أربع سنين ثم ولدته على رأس الأربع. وقال غيره: ولد وبين كتفيه خال أسود كهيئة البيضة).
أرأيت كيف تستعمل المخاريق وما يسمى بالكرامات لتكريس عقائدهم الباطلة، ثم يحرصون على نشرها وإذاعتها فترسخ وتنبت وتزهر حتى تكون جزءاً من الدين إذا نكره أحد صاحوا به من كل جانب: لقد هدمت الدين!
تجاوز عبد الله بن الحسن دائرة الفتنة السياسية فاقتحم دائرة الدجل الديني عن سبق إصرار وتخطيط مسبق ، دون مراعاة للدين ولا سمعة بيت الصدق الذي ينتمي إليه! فقد ولد له ولد سماه (محمداً) ولقبه بـ(النفس الزكية). ويبدو أنه وراء إشاعة أكذوبة أن اسم (المهدي) يوافق اسم النبي صلى الله عليه وسلم، واسم أبيه يوافق اسم أبيه؛ ليأتي الاسم على تفصيلة ولده!
بين جيل التضحية وجيل المنفعة يبرز لنا قانون اجتماسياسي
لعبد الله بن الحسن أربعة من الولد: محمد وإبراهيم وموسى وإدريس، كان هو نذير شؤم عليهم. فمحمد – الذي لقبه أبوه بالنفس الزكية ورسخ في نفسه عقيدة المهدوية – خرج على المنصور فقتل، ثم خرج بعده أخوه إبراهيم فقتل. كلاهما في سنة 145هـ. وموسى اختفى بالبصرة، فأخذه المنصور وعفا عنه بعد أن ضربه سبعين سوطاً).
وأما إدريس فاشترك في معركة (فخ) سنة 169هـ بالمدينة، وهي إحدى ثورات الحسنيين الفاشلة، فصار مطلوباً الرأس. أخيراً توجه إلى المغرب بمشورة وتسهيل من بعض الموالي كصاحب بريد مصر (واضح) مولى صالح بن أبي جعفر المنصور، وكان شيعياً. وهذا يدل على العلاقة الحميمة بين رؤوس الفتنة وبين الفرس، ودور الفرس في تهييجهم ضد الدولة. وهناك في المغرب أسس إدريس دولة (الأدارسة) زاعماً أن الخلافة من حقهم دون غيرهم.
يضع فعل عبد الله بن الحسن اليد على أحد قوانين الاجتماع التي تفسر حركة ومسار السياسة والتاريخ. ويبعث الخوف ويدفع إلى الحذر من سرعة تقلب الأجيال. إن التغيير السلبي في أسس كل قضية من قبل طلاب المجد والمنفعة يبدأ في عهد الجيل الثاني ويزدهر بمجيء الجيل الثالث. وعندها تبرز إلى السطح ظاهرة العوائل وطلاب المجد العائلي أو المؤسسي. وهذا يفسر جانباً من الصراع بين البيت الزبيري والأموي والعلوي بفرعيه والعباسي. فينبغي التحوط لذلك وبذل المستطاع في سبيل منعه أو تقليل خطره بتهيئة العناصر القيادية الصالحة وتقديمها لتولي مهام القيادة في اللحظة المناسبة. وقطع الطريق أمام الطامحين والطامعين، وبروز ظاهرة (جناح خاص للعوائل).
إن النظر في حركة التاريخ السياسي يبين لنا أن جيل التضحية أكثر الأجيال حرصاً على نصرة القضية بمبادئها الأولى دون إضافة مقحمة من الخارج، ثم سرعان ما يخرج منه جيل المنفعة، باغياً توظيف النتائج التي حققها الجيل السابق لصالح منافعه في النفوذ والمنزلة الاجتماعية وما تفصح عنه من متاع الحياة الدنيا. وهذا أمر مخيف حقاً! فعبد الله هذا هو حفيد الحسن بن علي رضي الله عنهما، الذي ضحى بأعظم ما تطمح إليه النفوس، أعني السلطة – وقد كانت في يده – لما رأى غيره أقدر عليها، وأصلح لها وأنسب بحكم الظروف المحيطة. ووجد في ذلك اجتماع الأمة وحقن دماء أبنائها. بينما فعل حفيده العكس، فبذل المستحيل في سبيل نيل السلطة، وإن كان في ذلك الفرقة والفتنة الجائحة، وإراقة الدماء المحرمة!
أبو جعفر المنصور
تنازعت الفرق والأحزاب المختلفة (المهدي) فيما بينها فكان لكل فرقة مهديها. حتى إذا ظهر الحزب العباسي على مسرح السياسة كان الجو ممهداً لأن يدَّعوا أن (المهدي) منهم! ولما وُلد لأبي جعفر المنصور ولد سنة 127هـ، أي قبل زوال دولة الأمويين بخمس سنين، “استغل شيوع كلمة المهدي عند الناس واعتقادهم فيها([1])” وحذا حذو عبد الله بن الحسن قبله بـ27 سنة فسماه (محمداً) ولقبه بـ(المهدي)، فكان اسمه ولقبه (محمد بن عبد الله المهدي)، ليوافق الأزعومة التي شاعت بأن المهدي يوافق اسمه اسم النبي واسم أبيه يوافق اسم أبيه. قيل: إن المنصور كان يواجه مشكلة المهدي من آل البيت في الفرع العلوي المنافس؛ فاضطر إلى أن يواجه الحرب بمثلها. وكان يقول في مجالسه الخاصة: والله لا مهدي آل البيت مهدي، ولا ولدي مهدي، لكن نحن نقاوم هذا بهذا. ونحن نستبعد أن المروجين لهذا الدجل لا يعلمون بكذب ما يزعمون. لكن إغراء السلطة شيء عظيم!
ووضع شيعة العباسيين – كما وضع شيعة العلويين – روايات في كون المهدي منهم. ثم سنحت الفرصة للمهدي ابن المنصور فتولى الخلافة بعد أبيه. وإذ لا يصلح أن يسمي الخليفة المهدي ابناً له بالمهدي أيضاً؛ لأن لقبه هو المهدي؛ لجأ إلى أقرب الألقاب إليه لفظاً ومعنى فلقب ابنه موسى بـ(الهادي)، وابنه الثاني، وهو هارون، بـ(الرشيد). والرشيد مساوٍ في المعنى للمهدي. كما أشار إلى ذلك الأستاذ أحمد أمين في كتابه (المهدي والمهدوية)([2]). ولا يبعد أن يكون اختيار الرشيد لولديه لقب الأمين والمأمون على هذا الأساس.
مهديون حسب الطلب
وظهر في بلاد المغرب أكثر من مهدي، منهم عبيد الله الملقب بالمهدي المنتظر. ومن نسل المهدي هذا كان المعز لدين لله، الفاطمي الشيعي الإسماعيلي الذي تغلب على مصر على يد جوهر الصقلي وأسس القاهرة وسماها المعزية. حتى أزال ملكهم صلاح الدين الأيوبي. ومنهم محمد بن تومرت مؤسس دولة الموحدين الشيعية.
وظهر في الاندلس عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر الحاجب فتلقب بالمهدي. ولكن خرج عليه محمد بن هشام الأموي وتلقب بالمهدي أيضًا، فكان مهدي يحارب مهديٍّا([3])!
وهذا كله يكشف للمتأمل الأثر الخطير لعدم الالتزام بضوابط الكتاب، وغياب التأصيل السليم في ضوء النص القرآني، والغوص في الواقع لمعرفة جذور العقائد الوافدة ومنابعها وودوافعها، والغلو في منزلة الحديث حتى صار مساوياً في حجيته لنص الكتاب! هذا بعد التساهل الشديد في تمحيص النص الحديثي والتنازل خطوة بعد خطوة عن الضوابط الأولى – على ما فيها من خلل – لتحقيق الحديث. وبعد أن صارت قواعد الحديث وأصوله التي هي من وضع البشر تساوي النص الحديثي الثابت في قدسيته وحرمة المساس أو التشكيك به.
وسرد هذا الموضوع وأحداثه وآثارها الكارثية على الدين والدنيا يطول. ومن أواخر الذين نبزوا بسبب هلوسات المهدي، وخرجوا على الدولة وارتكبوا لذلك فظائع طالت حرم الله وحرمة النفس.. جهيمان العتيبي وحزبه، فقد احتل في غرة محرم سنة 1400هـ/1979م بيت الله الحرام واستحل حرماته معلناً أن المهدي ظهر وهو حاضر معه واسمه (محمد بن عبد الله القحطاني)، ودعا الناس على بيعته. هذا وكل ما لديه من دليل أحلام تراءاها في منامهم بعض أصحابه!
2021/9/29
______________________________________________________
- – المهدي والمهدوية، ص11، أحمد أمين، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012. ↑
- – المصدر نفسه. ↑
- – المصدر نفسه، ص12،25. ↑