د. طه حامد الدليمي
مهداة إلى روح عمي الأسير عبد الرحمن مزعل .. وإلى كل الأسرى خصوصاً أولئك القابعين في زنازين القهر في إيران منذ سنة 1980م/1400هـ، والعراق والدول الأُخرى التابعة لها منذ 2003م/1424هـ .
( 8 )
عند الباب كانت ترابط بضع حافلات تدور محركاتها، يتقاطر على أبوابها أسرى… صعدت إحداها فانطلقت بنا إلى محطة قطار. إنها نقلة إلى سجن آخر. ودسست نفسي بين الجموع وأخذت أتجول في عربات القطار.
– كيف؟!
قهقه الطبيب بمرارة. كان وجهه مزيجاً من الغضب والسخرية والعبوات المتفجرة. رفع وجهه إلى السقف يريد السماء وقال:
– لدي شفرة حلاقة تمكنت من تسريبها!
– افعل ما تشاء.. ليس لديّ خيار.
“عملية جراحية كبرى بشفرة حلاقة! لا، غير معقول (ومسحت كفيّ ببعضهما عدة مرات) أبداً غير معقول”.
وهمس الصوت في أذني: “طيب انتظر وانظر.. لن تخسر شيئاً”.
“ومن أين سيأتي له بالتخدير؟”.
“هاهاها التخدير!”.
ودون توجيه أو تأخير اجتمع خمسة أو ستة أشخاص.
إنهم يعرفون دورهم جيداً.
قيدوا رفيقهم بأيديهم ووضعوه تحت أجسامهم وأمسكوا به كما يمسك بالثور الذي يطرح للذبح. نعم أمسكوا به وكتفوه وأخذ الدكتور ريسان (يذبحه) بـ(المشرط)! وبحلقتُ بعينيّ غير مصدق بهذا الذي يجري أمامي! “يا إلهي! شفرة حلاقة غير معقمة.. بلا تخدير.. وخيوط قذرة وأدوات أُخرى بسيطة! لا اعتراض على حكمك”.
وتمت العملية! ولم يمت المريض، بل تابعته فإذا هو قد تماثل للشفاء، وإن بعد حين!
* *
وصلنا إلى سجن (آراك مخصوص) في مدينة (آراك) جنوب غربي العاصمة طهران. كان أول ما لفح وجهي مشهد أسير على شجرة ممسكاً بجذعها ينادي بصوت مرتفع تغزوه حشرجة مزعجة: “قاق.. قاق.. قاق…”، مقلداً صوت الغراب، وأحد الحراس يصوب نحوه بندقيته، يستمع بارتياح لهذا (اللحن الجميل). وكلما سكت أو توانى حرك بندقيته بانفعال وهدده: ” ادامه شما را بکشند” استمر وإلا قتلتك.
قلت: “كان الله في عونك”. على أن هذا يهون حتى كأنه لا شيء أمام غيره من المشاهد. لم يكن أمامي إلا أن أتركه وأمضي أبحث عن عمي بين العنابر والوجوه.
وكثرت المشاهد. حتى عرض لي شيء صعقت له! لا يمكن أن أتخيله واقعاً في عالم الإنسان ولا الحيوان… ولا الشيطان! مجموعة من الأشخاص واضح أنهم أسرى يقيدون أسيراً بإحكام بحيث انقطعت حركته وكأن أنفاسه كتمت أيضاً، وجندي يدخل سنارة صيد في إحليله، حتى إذا تم له ما أراد تركوه بيد الجندي يسحب السنارة بخيط من النايلون! الأسير مستسلم كلياً، لا يملك من حيلة سوى الإسراع متفاخجاً حتى لا يسبقه الخيط، لكن الجندي الملعون في كل مرة يتلتل الخيط فيصرح الأسير ويقفز. وتذكرت يوم جاءني مريض إلى عيادتي وقد علقت بإبهام يده سنارة، فخدرت إصبعه من جذره ووسعت مدخل السنارة شيئاً فشيئاً وهو يختلج حتى سللتها. ليس ما أرى إصبعاً، إنه إحليل!
وطفقت أتحسس الوجوه.. أين عمي رحيم؟
وأسرعت كي لا أطيل المكث في غمرات هذا الكابوس! وبعد أن استفرغت ما لدي من وسع قررت الخروج وأنا أقول: “لا يوجد هنا رحيم ولا راحم. لماذا يا جدتي لم تسميه ظالماً أو جباراً ؟ لربما كنت عثرت عليه من أول لحظة!”.
في الطريق إلى الباب الخارجي رأيت رجلين بلباس عسكري يمشيان أمامي ويتلفتان! وفجأة صوب الحراس إليهما البنادق مع صيحة قوية: “حرکت نمی کند!” وسرعان ما أمسكوا بهما. أسيران حاولا الهروب متنكرين بتلك الملابس. تلتلوهما خلف سيارة عسكرية تجثم قريباً ثم تناوبوا على اغتصابهما!
وظهر الأسيران!
لأول مرة في حياتي أرى الشعور بالعار مجسماً!!!
الجنود يتضاحكون كالسكارى. وبلمح البصر هجم أحد الضحيتين فتمكن من خطف بندقية نسيها أحد الفعَلة مسندة على عجلة السيارة. صاح الآخر: “اقتلني أولاً”. لكن الجندي أطلق الرصاص فقتل عدداً من الجنود. وبينما كانت عدة بنادق توجه فوهاتها نحوه كان هو قد فرغ من صاحبه، وفي هذه اللحظة رأيته يسقط يضطرب كسعفة وسط ريح عاصف من أثر زخات الرصاص التي نخلت صدره وتوزعت على باقي جسده، وكانت البندقية قد سبقته فهوى إلى جانبها.
قبل أن أبلغ الباب رأيت رجل دين بعمامة بيضاء كبيرة جداً. تقدم نحو أسير كان يقرأ القرآن وإذ وصل إليه رفس المصحف الشريف بقدمه رفسة أطارته في الفضاء! وحين كبّر الأسرى لشناعة الفعل قال لهم المعمم: “الدين الذي أدخلتموه في رؤوسنا بالقوة لنخرجنه من خياشيمكم بالقوة”! وعلق بعض أتباعه: “اذهبوا فاحكوا عما نفعل لن يصدقكم أحد”!
ورددت في سري: “يا رب! اقلبها بهم”.
وغادرت سور السجن مسرعاً. كان رأسي يمور كفوهة بركان، وصداع يتصاعد كاللهب. جسمي كأنه مثقل بجراح.. أو خارج تواً من حفلة ضرب بهراوات توتٍ غليظة. اتجهت إلى أحد الكهوف ونمت. نمت يومين متصلين. انتبهت وأنا أتثاءب.. أتحسس بدني وأفرك عيوني، وأتساءل: “أين أنا؟”. وأحسست بالشوق إلى صديقي (جِنوبشت). لا أدري أهو شوق؟ أم حاجة؟ أم رغبة لتبديد أشباح الغربة؟ أخرجت خوصة السعف من جيبي.. لكنني أرجعتها.. وواصلت المسير باتجاه الشِّمال.
بعد خطوات قليلة أيقنت أنني غير قادر على متابعة هذا المسلسل الكريه. ماذا أفعل ولم أعثر حتى اللحظة على عمي رحيم؟ أأمسح سجون إيران كلها؟ هذا على تحملي أشبه بالمستحيل. وقد أُجنُّ قبل أن أصل خط النهاية. أم أذهب للاستمتاع بزيارة أحد المنتجعات السياحية مثلاً؟ وهل بقي في داخلي، مع كل ما رأيت وعانيت، مساحة تصلح لزرع متعة؟ إنني في حاجة إلى فاصل حقيقي.
انتبذت صخرة تغوص في عشب بري على شفة واد لا أدري في أي منتبذ من الأرض كان (هناك)! تركت رجليّ تتدليان من فوق الصخرة باتجاه الوادي السحيق القرار. وجلست أتأمل جمال المكان.. شجر كثيف ينسل من بينه خيط من ماء يلوح من بعيد وهو يتلوى متحدراً من قمة جبل، ويلتمع على ضوء الشمس، وأفكر.. ماذا أفعل على وجه التحديد؟
نعم أنا في حاجة إلى فاصل حقيقي. أرمم به جميع محتوياتي الجُوانية. أستعيد نفسيتي التي بدأت مكوناتها بالتداعي شيئاً فشيئاً. وأسترجع سلامة عقلي الذي بتُّ أخشى على مِسطرته، وأضبط (نظمية) قلبي الذي أمسى يراوح إلى إيقاع آخر. بالمختصر.. لكي أعاود الرحلة دون خسائر فادحة.. عليّ – ضرورةً – أن أجدد كينونتي وأشحن طاقتي من جديد.
هلي يا مركبِ البـِ اْلْبحرْ ما مالْ
هْديبْ وْ ﮔـلِّطولهْ الحِمِلْ ما مالْ
ﮔِـصاْ بينا الزِّمانِ بْكثُرْ ما مالْ
وْ خَلّانا دَحايسْ بالاجْنابْ