مقالات

التحزب السياسي والايديولوجي لدى المؤرخين

أ. العنود الهلالي

أثارت انتباهي عبارة ذكرها الدكتور طه الدليمي في معرض حديثه عن الحجّاج – رحمه الله – خلال احدى حلقات سلسلة فتى ثقيف التي قدمها مؤخرا حين قال: تاريخ الأمويين كتبه أعداؤهم. وهذه من الحقائق التي تشهد عليها المصادر التاريخية التي بين ايدينا، ولا عجب؛ فالمصادر التاريخية إنما هي كتابات تأثرت بالسياقات السياسية والثقافية للعصور التي كتبت فيها. والمؤرخ لا يسعه بأي حال التجرد من انتمائه السياسي أو القومي ومنطلقاته الفكرية وتأثير هذه الخلفيات على ما يكتبه أمر أكيد ولا سبيل لتجاهله.

وقد أورد ابن خلدون في مقدمته عدد من الأسباب التي توقع المؤرخين في المغالط والكذب، خمسة من هذه الأسباب ترجع إما إلى التحزب والانتماء السياسي أو الميول الفكرية وهي:

– التشيع للآراء والمذاهب، فإن النفس إذا خامرها تشيّع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقه من الأخبار لأول وهلة. وكان ذلك التشيع غطاءً على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص فيقع الكذب.

– الثقة بالناقلين.

– الذهول عن المقاصد ، فكثير من الناقلين لا يعرف القصد مما عاين أو سمع وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب.

– الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع.

– تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلّة والمراتب بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك فيستفيض الاخبار بها على غير حقيقة.

تاريخنا بين الحياد والتحيّز

هل حقا يجب على المؤرخ أن يكون حيادياً ؟ أم إن التحيز من صميم المعطى الإنساني، ومرتبط بإنسانية الإنسان فكل ما هو إنساني يحوي قدرا من التفرد والذاتية ومن ثم التحيّز كما يقول المسيري؟

إن الحياد الكامل في كتابة التاريخ أمر مستحيل، فكل مؤرخ وراصد للتاريخ تجده يكتب أحداثه من زاويته؛ فيفسرها ويحللها ويضفي عليها الأوصاف السلبية أو الإيجابية تبعا للزاوية التي ينظر منها إلى الوقائع التاريخية.

ولو نظرنا في تاريخ الطبري الذي يعد من أبرز المصادر التاريخية التي وسمت التاريخ اللاحق بطابعها، وكان لها نفوذ واسع على المؤرخين، ثم – بالتبع – على وعي الأمة وثقافتها. فقد شيّد الطبري بتاريخه صرحاً ضخما من الأخبار والروايات اكتسبت الوثوق لدى كثير من المؤرخين المتأخرين! لو نظرنا في هذا التاريخ سنجد أن الطبري رغم حرصه على ايراد روايات متعددة للحدث الواحد بل واثبات روايات متناقضة أحيانا. إلا أنه لجأ عند إيراد الأحداث الكبرى في تاريخ الأمة إلى الانتقاء وهذا الانتقاء ما هو إلا نتاج لانحيازه الفكري أو السياسي، وإلا كيف نفسّر اتخاذه ابا مخنف مصدرا وحيدا للأحداث التي جرت في العراق؛ مع أن الأولى بتاريخ كتاريخ الطبري الذي سعى صاحبه لأن يكون تاريخا جامعا للأمة ألا يقتصر على مصدر وحيد عند ذكر الأحداث الحاسمة في تاريخ الأمة.

لقد كان ابو مخنف مصدر الطبري في: نزاع العلويين ضد الأمويين، وحرب علي ضد معاوية، واستدعاء أهل الكوفة للحسين، ومعركة كربلاء ومقتل الحسين وغيرها من الاحداث التي تتعلق بالأمويين والعلويين. ولهذا الأمر دلالته في أثر انحيازية المؤرخ وتأثره السياسي والايديولوجي على الكتابة التاريخية. هذا ان سلمنا جدلاً بأن يد التحريف لم تمتد إليه. وقد امتدت، وهذا – من وجهة نظري – لا شك فيه.

وعند النظر في التاريخ الذي كُتب عن الدولة الاموية نجد أن أغلبه قد دوّن في عهد العباسيين، أي في عهد أعداء الدولة الأموية وهذا له أثره الكبير على مؤرخي ذلك العصر . ولا ننسى دور المؤرخين الشيعة والموالي الناقمين على بني أمية، وقد أشار محب الدين الخطيب إلى هذا الأمر الخطير، من تدخل للسان الشيعي والشعوبي  في الكتابة التاريخية في ذلك العصر؛ حيث قال في حاشية العواصم: إن التدوين التاريخي إنما بدأ بعد الدولة الأموية، وكان للأصابع الباطنية والشعوبية المتلفعة برداء التشيع دور في طمس معالم الخير فيه وتسويد صفحاته الناصعة[1].

وقد شخّص الدكتور طه الدليمي هذه المشكلة بدقة حين قال: ( تاريخنا كتب ببنان سني لكن بلسان شعوبي) .

لذا ومن أجل تصحيح هذا الخطأ التاريخي الذي شوّه تاريخنا وسوّد صفحاته البيضاء، على مؤرخي الأمة إن كانوا يغارون على تاريخها أن يعيدوا النظر في التاريخ المكتوب حول الدولة الأموية لكن وفق رؤية سنية شاملة ومنهجية تاريخية صحيحة، فالبحث في تاريخ الأمويين يتطلب مزيدا من التأني والتروي لا في الاستنتاجات فحسب، ولكن في المقابلة بين الروايات التي امتلأت بها دواوين الادب والتاريخ، وتفعيل دور المصادر الأخرى للتاريخ من وثائق تاريخية ومصادر اركيولوجية[2] فهي معطيات محايدة وأقل تأثرا بذاتية المؤرخين.

نحن لم نعرف بعدُ تاريخ الأمويين كما هو، وإنما عرفنا الجزء المشوّه منه الذي سطّره أعداؤهم فنجحوا عن طريق الإشاعة والتهويل إلى حد كبير في إسدال الحجب السميكة على مناقب دولة بني أمية ودورها العظيم في دفع حركة التاريخ والحضارة نحو التقدم والرقي، ودور المئات من أصحاب المواهب الفذة، والقادة الفاتحين الذين قدمهم ذلك العهد. ومنهم الفاتح العظيم الحجاج بن يوسف الثقفي رحمه الله، وجعل الفردوس مثواه.

______________________________________

[1] العواصم من القواصم (الحاشية) ص:177

[2] اركيولوجيا: علم الآثار.

اظهر المزيد

‫7 تعليقات

  1. التاريخ الاموي تاريخ ناصع شوهته اقلام مدسوسة لكنهم لم يتمكنوا من محو انجازات الامويين التي لازالت ماثلة امام الانظار فالشمس لا يمكن حجبها بغربال .

  2. المشكله التحزب لمن
    عجباً ماذا فعل الفرس في علماء الأمة بحيث جعلو من الكاتب لايرانفسه ولا أمته ولاحضارته كي ينصفها، ؟
    العله والسبب
    (تاريخنا كتب ببنان سني لكن بلسان شعوبي) .

    اللهم إفتح علينا وأنت خير الفاتحين،
    عنوان والتفاته في مفهوم سرقت جهود رموز ألأمة وتشويه سيرتها، نهاراً جهاراً عيانا ًً، وسبب ذلك تحزب العلماء قاصري النظر على المفهوم الفقهي،
    دون النظر إلى عظمة وأمجاد الأمة،
    يفسرون الاحداث هكذا………،
    تسلم العنود الهلالي وكل من أستوعب المفاهيم والابداع التجديدي 🌹🌹🌹🌹🌹🇮🇶🇸🇦

  3. الحقيقة ان ابن خلدون علامة فارقة في النقد والتدوين التاريخي
    هذا العَلم ومقدمته البديعة ينبغي النظر فيها والافادة منها كثيرا، ونقده للمؤرخين صحيح جدا فقد وضع يده على عللهم وادرك كيف سيطرت الرواية على عقول المؤرخين وانستهم ان هناك عوامل وتفاصيل اهم منها .
    بارك الله فيك على هذا الطرح

  4. كلام سليم وتفكير في الاتجاه الصحيح ..
    المؤرخون جنوا على الدولة الاعظم في تاريخنا بسبب روايات مخاريق

  5. وأنا أوافقك الرأي بان يد التحريف امتدت إلى
    مؤلفات الطبري…لأن موالي الفرس عرفوا أين
    يضعون دسائسهم وكيف يرسخون هذه الثقافة الشعوبية لدا أهل السُنة امتدت أيديهم إلى كثير من مصادر أهل السُنة وتاريخهم….لم يسلم من مكرهم وفكرهم الخبيث
    إلا القرآن الكريم….لأن الأمة السُنية وتاريخها بلا حراس
    وفق الله شيخنا المجدد طه الدليمي سعيه وجهده لما قدمه لكشف هذه الحقائق وبوركت جهودك أستاذة العنود
    لهذا التفصيل والتحليل الرائع.

  6. بارك الله علمكم وعملكم ونفع بمداد كلماتكم.
    كتابة التاريخ من العلوم التي أسهم أخواننا الموالي المدلسين بمهامها شر قيام ونحن نزخرف مكتباتنا ونثقف مجالسنا وجلاسنا بتراب خرافتها حتى صغنا تراثنا عليها فلما ظهر زيفها ونتن زورها التي شخ على الأنوف و بلغ شخه الزبى ونحن نطبخ الحصى..!فاقت الأمة من رقادها وهي لاتدري باي واد تندب غفلتها وتأخر وعيها.
    الأمة التي فقدت الوعي الفكري والأمن الثقافي والتخطيط المستقبلي ولم تسفد من خبرة الماضي وغفلت طعناة خناجر إيران وشيعتها لهي أمة تزحف لهلاك ماتبقى وتتوكأ على جراح لم تندمل..
    الحث وفضح وعلاج الأمة من خلايا إيران النائمة والناعمة في مفاصل الأمة أول النجاح لكتابة التاريخ وتصحيح المسار… فالذي أخطأ به الأوائل هو جعل هؤلاء الإخوة الموالي يتغللون بمفاصلنا حتى صرنا نحن الموالي وهم أهل المنزل …!

  7. حرقة القلب على غفلة الأمة وتجاهلها للحقائق التي شوهت من خلال التدليس للنيل من رموز وارث المسلمين الحضاري، تحتم على المسلم أن تكون هذه القضية قضيته الشخصية وان يستغل كل مناسبة لتفنيد ادعاءات المغرضين من الفرس والشيعة ونشر الحقائق التاريخية الناصعة والثقافة الحقيقية التي ستحل محلها .. ولنا في نتاج الدكتور طه الدليمي المادة الخام التي نستخرج منها بضاعتها والخط العريض الذي نسير بموجبه لنصل إلى مرضاة الله وارجاع الأمور إلى نصابها الصحيح..
    بارك الله بك اختنا الفاضلة على اختيارك للموضوع وعلى المعلومات الموجودة فيه

اترك رداً على ابو عمر إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى