مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

فكر أممياً .. لكن تصرف محلياً

من أدب الفكر السني

د. طه حامد الدليمي

C:\Users\taha\Desktop\هذه.jpg أحدى إشكاليات الفكر العراقي انشغاله بقضايا الأمة أكثر من قضايا البلد.

وهذه طبيعة في العراقيين ربما تعود جذورها إلى الانحدار البدوي لغالب سكان العراق، الذي يحمل في طياته أخلاق العروبة الأولى وسجاياها. تلك الأخلاق السامية التي جاء الإسلام ليتممها ويهذبها، ويقول بكل وضوح: (وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنفال:75]. لسنا أعلم من الله جل وعلا، ولا أخبر بشؤون عباده ومصالحهم وما يصلحهم. وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: «دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ في سبيلِ اللَّه، وَدِينَارٌ أَنْفَقتَهُ في رقَبَةٍ، ودِينَارٌ تصدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفقْتَهُ علَى أَهْلِكَ، أَعْظمُهَا أَجْراً الَّذي أَنْفَقْتَهُ علَى أَهْلِكَ» رواه مسلم. وهذا حين لا يكون الرجل يملك غير ذلك الدينار وأهله في حاجته.

بين المواطن العراقي والزائر العربي

في العراق كانت حقوق العرب الوافدين في الدراسة والعمل والتوظيف والخدمات هي نفسها حقوق أهل البلد سواء بسواء. هذا إن لم تزد عليها أحياناً. وكنت أتصور أن هذا هو الحال في جميع البلاد العربية. وحين سافرت إلى بعض تلك البلدان وجدت الأمر مختلفاً تمام الاختلاف؛ فابن البلد صاحب الامتياز الأول في كل شيء!

في أواخر عام 1986، يومها كنت طبيباً في مستشفى الفلوجة العام، وأستلم راتباً مقداره (130) ديناراً في الشهر. كنت أجلس في غرفة الفحص عندما دخل الفرّاش المصري ليمسح بَلاط الغرفة وينظفها. ولا أكتمكم أنني كنت أرتدي تحت الصدرية البيضاء سترة نيلية من مخلفات الكلية الطبية.. اشتريتها وأنا طالب، وقد مرت عليها لحد تلك اللحظة ثلاث سنين بالتمام والكمال، وها هي تدخل سنتها الرابعة من عمرها المديد.. لا أدري لم سألت الفراش، والسماعة الفضية اللون تتدلى من رقبتي: كم راتبك الشهري؟ فأجاب: (260) ديناراً.

(260) ديناراً!!! هذا ضعف راتبي بالضبط! نعم بالضبط([1]). وأرخت هذه الواقعة بقصيدة أسميتها (الطبيب الزاهد)([2]).

حين تكون الفكرة هي التي تحكم بعيداً عن الواقع

نوع من الهروب عن الواقع إلى فضاء حلم جميل لن يجيء.

أرأيت من يريد لمس القمر على درَج من خشب لا يبلغ بمرتقيه إلى سطح داره!

C:\Users\taha\Desktop\وا.jpg الغريب أن هذا الصنف كثير، بل هو الأكثر عدداً بين الناس! ألم تسمع بمجانين العقلاء؟ هؤلاء هم. (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) (44).

وتسألني: كيف. وأجيب: إن هذا يعود إلى الخلل في معادلة التوفيق بين الفكرة والواقع، حين يبنى وجود الثاني على فراغ الأولى؛ فنخسر الاثنين. القوميون اهتموا بالعرب على حساب الوطن، والإسلاميون اهتموا بالمسلمين على حساب العرب؛ فضاع الوطن وضاعت العروبة. أما الوطنيون فاهتموا بالوطن على حساب السنة؛ فضاع الوطن وضيعوا السنة! هكذا خسرنا الواقع. والرابح الوحيد هم الكرد، إن سلمهم الله من كيد صفيون وشيعون. لماذا؟ لأنهم كانوا واقعيين، ينظرون بعين إلى الفكرة وعين إلى الواقع.

انسحبت طبيعة التفكير هذه آلياً إلى أهل السنة. فإن أحد أسباب ضعف السنة في العراق أنهم يفكرون في قضايا الأُمة والبلد أكثر مما يفكرون في قضيتهم كسنة، مع أنهم اليوم مستهدفون من قبل شركاء لهم في الوطن لا يسلمون لهم عملياً بحق العيش فيه إلا ضعفاء مهمشين.

إنهم ينوءون بحمل أكبر من حجمهم، وذهنهم منصرف للتفكير خارج كيانهم. وهذا خطأ، بل خطيئة، في ترتيب الأولويات على مستوى التصرف والعمل. والسبب أن معالي الأمور والمبادئ السامية تغلب عليهم. أي إن تفكيرهم يتم بناء على الفكرة لا الواقع. فيحدث الخلط عندهم بين ما هو أول في القيمة، وبين ما هو أول في العمل. والصحيح أن نفرق بين الأمرين: فما كل أول في القيمة هو أول في العمل. بر الوالدين أعلى في القيمة من الكسب للعيش. لكنك قد تقدم السفر وتترك الأهل إن كان من أجل تحسين الوضع المادي، فتبتعد قليلاً لتعود أقوى وأقدر على برهم مما لو مكثت عندهم بائساً فقيراً.

العراق في عيوننا .. والأمة في قلوبنا

العراق في عيوننا، والأمة في قلوبنا نحن السنة في العراق. وهذه القيم هي المقدمة في سلّم الأولويات العليا لدينا. ولكننا حتى نعيد العراق قوياً موحداً لا بد – نعم لا بد – أن نلتفت مرحلياً إلى كياننا كسنة فنقويه وندعمه، ونقفه على قدميه شامخاً عزيزاً، عندها ننتقل إلى المرحلة الأُخرى. وهكذا. وليكن شعارنا في هذه المرحلة (فكر عراقياً.. وتصرف سنياً). وذلك ترجمة عملية للحكمة الرائعة التي تقول: (فكر عالمياً وتصرف محلياً).

هكذا بفعل الحكماء. وإلا فوالله لن نجني إلا الضياع؛ فشريك الوطن الذي خطف الوطن، لا يريد بنا غير ذلك.

وتجربة عشرين سنة تكفي….. فكفى([3]).

2022/3/28

………………………………………………………………………………………………………………………

  1. – هذا إذا حسبتها طبقاً لظاهر الأمر. أما في الحقيقة فإن قوة راتب الأخ الفراش العربي تعادل راتب الطبيب العراقي (18) مرة! كيف؟! القانون العراقي يسمح للمصري بتصريف الدينار بالسعر الرسمي وهو (3) دولارات للدينار الواحد. بينما سعر الصرف بالنسبة للعراقي معكوس تماماً كما انعكس راتبي وأنا طبيب فصار نصف راتب المصري وهو فراش! فالعراقي يدفع (3) دنانير مقابل دولار واحد! وبحسبة رياضية بسيطة (يضرب بها راتب المصري في (3) ويقسم راتبي على (3)، ثم يضرب راتب المصري مرة أخرى في (2) لأنه ضعف راتبي، أو يقسم راتبي على (2) لأنه نصف راتبه) تظهر الحقيقة الصاعقة التي ذكرتها في بداية الهامش جلية واضحة!
  2. – قالوا : طبيبٌ ؟! قلتُ : تلكَ وظيفتيقالوا : بخيلٌ ؟! قلتُ : ما منْ شانيقالوا : فما بالُ الملابسِ رثةً

    متغيراتِ الشَّكلِ والألوانِ ؟

    فأجبتُهم .. سبحانَ من أوصافُهُ

    عزَّتْ على التغييرِ والأزمانِ

    والناسُ في هذي البلادِ ألم تروا

    رفعوا شعارَ العدلِ في الأوطانِ

    وإذا تساوى الصخرُ والإنسانُ في

    بلدٍ وصارَ الكلُّ في الميزانِ

    ساوَوا بمَنْ مسحُ البَلاطِ نصيبُهُ

    من يمسحُ الأحزانَ عنْ إنسانِ

    فلْتحْيَ في بلدي العدالةُ ولْتَعِشْ

    أفكارُ من نادى بها .. وسباني

    قال صديقي د. سلمان الجبوري وقد افتر ثغره عن ابتسامة عريضة: لو وضعت (الصخل) مكان (الصخر) كان أحلى!

  3. – بتصرف من مقال كتبته في 2011/2/28.

 

اظهر المزيد

‫14 تعليقات

  1. فكر اممياً.. لكن تصرف محليا
    اغلب العراقيين اصحاب روح وطنية وعاطفية مبالغ بها لدرجة تعطيلها لعقولهم ودليل ذالك اغلب الثورات العراقيه خصوصا الثوره الاخيره 1219 لم تأتي بنتائج كثيره سوى بعض الحلول المؤقته لأسكاتهم، صحيح ان شعارهم كان “السلمية” اي بمعنى عدم التعدي على اي شيء سواء كان اشخاص او ممتلكات دوليه لكن لم تكن لديهم خطه لم يكن لديهم “مشروع” خرجوا الى الميدان بدون اي مخطط ولهذا لم تأتي ثورتهم بثمار جيده.

    بارك الله بجهودك وجزاك خير دكتور ✨

  2. الحمدلله على هذه الثقافة والتوعية دكتور،
    مقال يجعل من الحاكم ولمحكوم ينضر إلى محله ويبني نفسه قبل غيره،
    وهذا مانحن فيه إن شاءلله
    وماقاله الدكتور، يصدقه النص والواقع

  3. جزاك الله خيرا شيخنا العزيز على هذه المقاله ولجهودك المبذولة على المقال وحتى العديد او بالأحرى الكثير من المقالات التي لطالما كانت على الصواب واليوم اشكرك على هذه المقاله الرائعه التي ملئه بالجهد والجهاد. اليوم هذه المقالة الرائعه تتحدث عن ((فكر أميماََ…. لكن تصرف محليا))
    والمقصود منها هوه: أن المواطن مشغول بأموره الخاصه ويترك البلد كأنه يعيش لوحده وليس ورائه أحد يعنيه أو يخصه ..
    وهذا لأمر شبيه بالأنانيه وكما ذكرت آيات كثيره منها هي التي كانت مذكوره في المقاله .. قال تعالى ((وأولوا لارحام بعضهم أولي ببعض في كتاب الله أن الله بكل شيء عليم))..
    والمقصود من هذه الايه الكريمه هو: أن ذوي لارحام اي لأخوه بعضهم مسؤل عن بعض..

    لكنهم وكما نرى انهم لا يتبعون هذه الايه بتاتاً …
    مع تحياتي لشيخي العزيز على هذه المقاله الجميله ولاهل التيار السني وكل التقدير لجهودهم المبذولة …❤️❤️❤️👍

  4. بوركت أناملك الذهبية وأفكارك االرائدة.
    عندما تذوب الاحلام بالاوهام ويضيق أفق التفكير وينسف الواقع تنقلب الحقيقة سرابا يحسبها فاقدي الوعي هدى.
    القوميون والإسلاميون والوطنيون أسسوا على رمال متحركة وآمال متهرئة فضيعوا وضاعوا .

  5. قول يختصر لك مسافة الطريق إذا تاهت بك السبل فعليك بأول الطريق ،
    وهذا ما فعله النبي صلى اللّه عليه وسلم
    في مكة والمدينة ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) ثم توسع عالمياً (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ). جزاك الله خيرا شيخنا الفاضل مقال يبني الفكر الجديد للسني

  6.  (فكر عراقياً.. وتصرف سنياً)
    بتفعيل هذا الشعار والعمل به
    يرسى سُنة العراق إلى جادة الصواب
    ويزدهر العراق وننعم بخيراته وثرواته
    بورك قلمك وبارك جهدك شيخنا المجدد الراشد

  7. عراق، واقعة اصبح (عراء ،عراك)
    عراء : تعراى فية الشيعة عن إنسانيتهم فقتلوا كل شيء بإسم(سُني) وكشفوا عن انيابهم اللعينة والحقد الفارسي،
    عراك : الوطنيون ممن يدعي أنه سُني على وطن عصفت به رياح التشيع المجوسي وهذه هو الذي جناه “عراق”
    الذي يملك عينان لايعني انه يبصر فالبصيرة مفهوم والنظر مفهوم .
    (فكر عراقياً…وتصرف سنياً) .

  8. أحد أسباب ضعف السنة في العراق أنهم يفكرون في قضايا الأُمة والبلد أكثر مما يفكرون في قضيتهم كسنة، مع أنهم اليوم مستهدفون من قبل شركاء لهم في الوطن لا يسلمون لهم عملياً بحق العيش فيه إلا ضعفاء مهمشين.

  9. كنا نشعر بهذا التفضيل ورغم كل ذلك نقول اخوتنا عرب ولكن عندما تم تهجرينا عرفنا قيمتنا عند من كنا نعزهم ونكرمهم. من اقسى الدروس التي تعلمناها في الغربة دكتورنا الغالي ( نعم فكر عالميا وتصرف محليا ) وان مكننا الله ستكون المعاملة بالمثل.

  10. من اجمل الافكار الواقعية (ان تتصرف محليا وتفكر امميا )التي يجب ع الانسان السني ان يتخذها كقاعدة في حياتة
    وبهذا يحصل التوازن بين ان يجعل انقاذ نفسة والحصول ع حقوقة اول ثم الاخرين
    بوركت جهودك دكتور طة 🌺🌺🌺

  11. هذا تقعيد مهم فنحن قد تشتت طاقاتنا وتبددت امكانياتنا بسب مفهوم الامة، الذي لا يتعدى ان يكون في الخيال فقط، نعم نحن نفكر بالامة؛ لكن انطلق كما انطلق النبي (ص) ثم اصبح امّة.

  12. أود أن اشكرك جزيل الشكر على ارسالك لي الكتاب أطال الله في عمرك اتمنى ولي الشرف لو التقي بك ولكن يا دكتور ابشر فالملتقى قريب بأذن الله تعالى بعد تحرير العراق من دنس الاحتلال الإيراني فالمسألة مجرد وقت لا أكثر وتعود بغداد كما كانت وتعود ايام الزمن الجميل ايام العز و الكرامة لاهل السنة و الجماعة اتمنى دكتور ان ترسل لي كتب : فقه الهوية، شقائق النعمان، ثورة العشرين خفايا و أسرار لا تسر الكثيرين، غراب من لبنان، عروبة علماء إسلام وازيوفة الحضارة الفارسية، هكذا نقرأ التاريخ وهكذا نكتبه، محطات على طريق التجديد، نظرات في القيادة، نظرات في السياسة، جرائم الابادة الجماعية لاهل السنة في العراق، شيعة على بابا. على وقت فراغك دكتور طه وأنا متأسف جدا جدا على الإطالة اشهد انك أسد السنة وأنا اتابعك لحظة بلحظة وأنا متشوق لكي اقرأ كتبك الثمينة النفيسة قرأت كتابك الرائع الفيدرالية و أعجبت شديد الإعجاب بالكتاب و تسلسل أفكاره و ترتيبه وكذلك بموضوع الأقاليم، وأنا من اشد المؤيدين لاقامة إقليم سني نحفظ به ارواحنا و اعراضنا، أود أن اشكرك جزيل الشكر للمرة الثانية على ارسالك لي هذا الكتاب القيم و اتمنى ان ترسل لي بقية كتبك دكتور وآلله يحفظك و يحميك ينصرك و ينصر اهل السنة المؤمنين الصادقين في كل مكان مع السلامه ♥️♥️♥️♥️🎈💓💓💓🌹🌹🌹💕💕💕💕🌷🌷🌷🌷🌷

  13. (فكر عراقيًا ..وتصرف سنيًا )بناء نواة صلبة ننطلق منها للقطرية ثم الاممية الى العالمية..
    هذا مافعله رسول الله (ص) وما امره الله تعالى به

    واليوم هذه المقالة تترجم الحدث وتنزله على واقعنا المرير
    جزاك الله خيرا يا دكتور على كل ما تقوم به من اجل نصرة اهل السنة

اترك رداً على نهاوند محمد إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى