سياسةمقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

الحاضنة الخارجية من مفاهيم الأمة في إقامة الدولة

د. طه حامد الدليمي

قلنا: إن الإسلام دولة، لكن بمفاهيم أمة..

وإذا كانت “الحاضنة الشعبية أو الاجتماعية ” من مفاهيم الأمة لإقامة الدولة، فإن لهذه الحاضنة الداخلية حاضنة أُخرى هي امتداد لها يكملها ويتكامل معها من الخارج، يمكن أن نطلق عليها اسم “الحاضنة الدولية” أو “الحاضنة الخارجية”. فكون الدولة مسلمة لا ينفي تكوين علاقات مع دول كافرة أو – سمِّها إن شئت – غير مسلمة، كما أن ذلك لا يتناقض مع بناء علاقة داخلية مع رعايا الدولة من غير المسلمين. فبالحاضنة الداخلية المكينة والحاضنة الخارجية الرصينة يتحقق الاستقرار والأمن الداخلي والخارجي لدولة الإسلام.

التعاون على الخير مع الخارج

يقول تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة:2).

إن هذا القول الرباني الكريم من الأسس التي يقوم عليها مفهوم (العلاقات الدولية)، من حيث التعامل بالسلم مع المسالم، والتعاون معه على البر والتقوى (قيل: البر: فعل الخير، والتقوى: تجنب الشر). ويؤيده ما رواه البيهقي [(السنن الكبرى) وصححه بشواهده جمع من العلماء منهم الألباني] عَنْ  طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ أَن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيَ بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الإِسْلامِ لأَجَبْتُ). وَكَانَ سَبَبُ الْحِلْفِ أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَتَظَالَمُ بِالْحَرَمِ، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ وَالزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَدَعَواهُمْ إِلَى التَّحَالُفِ عَلَى التَّنَاصُرِ، وَالأَخْذِ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ، فَأَجَابَهُمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَعْضُ الْقَبَائِلِ مِنْ قُرَيْشٍ.

الحفاظ على سمعة الداخل والحرص على عدم تنفير الخارج

وتترك لنا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم معلماً من معالم جذب الحاضنة الخارجية والحرص على عدم تنفيرها من الإسلام. فلما بلغه صلى الله عليه وسلم – فيما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله – قول عبد الله بن أبي بن سلول في إحدى المناسبات: “أقد تداعوا علينا، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل”. فقال عمر: “ألا نقتل يا رسول الله هذا الخبيث”؟ لعبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه).

وقد اشتهر بين الأمم العدل عند المسلمين وإنصافهم الآخرين من أنفسهم؛ فكان ذلك من أسباب استبشار المظلومين وضعف مناصرتهم للدول الطاغية التي كانت تحكمهم. فشعب مصر تقاعس عن نصرة الرومان لما علم من العدل والرحمة التي عامل بها المسلمون أهل الشام. وكانت تلك السمعة سبباً في تيسير فتح الأندلس.

سياسة تفريق الأعداء

كان من سنة النبي صلى الله عليه وسلم في السياسة الحرص على تفريق الأعداء، والسعي في عدم اجتماعهم عليه. فكان يقسمهم أصنافاً فلا يعامل الأصناف جميعاً معاملة واحدة. كما قال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:8،9). فإن اجتمع الأعداء مرة حاول بكل سبيل تفرقتهم، ولو بدفع المال لهم! كما روي في سيرة ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة (الخندق) فاوض غطفان على إعطائهم ثلث ثمار المدينة مقابل انسحابهم من المعركة. فلما استشار السعدين (سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة)… قالا: يا رسول الله أمرًا تحبه فنصنعه؟ أم شيئًا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به؟ أم شيئا تصنعه لنا؟ فقال: (بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة, وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما). والشاهد في القصة – إن صحت؛ ففي سندها شيء – أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد كسر الحلف المجتمع عليه وتفرقة صف العدو.

ومن الأدلة على هذه السنة العظيمة في السياسة النبوية ما صنعه النبي صلى الله عليه وسلم مع نعيم بن مسعود الغطفاني حين ساقه الله عز وجل إلى رسول الله ليعلن إسلامه، فقال له: (إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة) ([1]). فقام نعيم بزرع الشك بين الأطراف المتحالفة، وقد وفق في سعايته أيما توفيق؛ فنجح في عزل اليهود في الداخل عن المشركين في الخارج.

وكان صلى الله عليه وسلم يقتنص كل سانحة لتوهين صف العدو بعدم اجتماع الكفار ضده صفاً واحداً، وتقوية صفه بعقد الأحلاف مع الأقرب إليهم منهم. فلما عقد (صلح الحديبية) مع قريش أدخل في الحلف معه قبيلة خزاعة، وكانت مشركة. وكانوا سبباً في فتح مكة بعد سنتين.

كما كان صلى الله عليه وسلم يعقد معاهدات الموادعة والمصالحة مع القبائل المشركة في الجزيرة العربية من حوله، لينصرف إلى العدو الأكبر الذي تمثل هزيمته رمز انتصار الإسلام، والفتح المنتظر، وهو قريش.

أحكام الجهاد لا نسخ فيها

قد يقال: إن هذه الأحكام منسوخة بقوله تعالى: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة:5). والصواب المتحصل من مقابلة الأدلة مع بعضها، والتبحر في أقوال العلماء، والنظر في حكمة الشريعة ومقاصدها، ومراعاة الشرع لقوانين النفس والاجتماع البشري.. أن أحكام الجهاد راعت حال المسلمين من قوة وضعف، وما في الحكم من ضر أو نفع، وما تحصل للمسلمين من مصلحة أو مفسدة؛ فنزلت حسب الأحوال واختلافها من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان. فالآيات كلها محكمة ولا نسخ فيها، وإنما تحمل كل آية على ما ناسبها من حال أو مرحلة. وقد كان المسلمون في المدينة يقاتلون الكفار، بينما لم يفعل ذلك مهاجرو الحبشة.

لذا نفى كثير من العلماء نسخ الآية المذكورة لما تقدم قبلها من أحكام الموادعة والمصالحة والبر بالمسالمين من المشركين والقسط إليهم. قال الطبري: “وأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله من أن هذه الآية منسوخة، فقول لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا فطرة عقل”. ومنهم ابن العربي وابن تيمية وابن كثير. ونصر هذا القول من المتأخرين ابن باز وقال: “هذا القول أظهر وأبين”. ويلخص الزركشي (البرهان:2/173) أقوال العلماء بقوله: “وبهذا التحقيق تبين ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف: أنها منسوخة بآية السيف. وليست كذلك بل هي من المنسأ: بمعنى أن لكل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر وليس بنسخ. إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبداً. لهذا روت كتب التاريخ أن سيدنا معاوية رضي الله عنه دفع للروم مالاً وخيلاً ليأمن جهتهم. وكذلك فعل الخليفة عبد الملك بن مروان رحمه الله. وفعل غيره طبقاً لما تمليه الظروف من صروف.

فتهييج الأعداء كلهم وجمعهم على دولة الإسلام ليس من سياسة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا هو من صنيع العقلاء. ودولة الإسلام لا يمكن أن تكون كياناً منبَتّاً عن العالم من خارجها، نابتاً على غير تربة صالحة من داخلها.

وهذه من معالم ورطة (داعش)، والكيانات المماثلة، التي قامت على الطفرة في تكوين الدولة بعيداً عن مفاهيم الأمة.

24 رمضان 1443

25 نيسان 2022

________________________________________

[1] – هذا الحديث – والذي قبله – ورد في السيرة، والعلماء مختلفون في صحته والأخذ بظاهر حكمه، سوى (الحرب خدعة) فهو في الصحيحين. لكنه يتسق ومقاصد الشريعة. والحديث في حاجة إلى مزيد تحقيق.

اظهر المزيد

‫14 تعليقات

  1. حي الله د. فقيه النوازل على توضيح وبيان هذا المفهوم الغامض علينا،
    إذاً علينا أن نتعامل مع الكفار في زمن أوحالة الضعف أو الانكسار لدى الصف المسلم حسب الحال الواقع،
    وهذا مانحتاجه في زمن التفكك الفكري والعسكري والسياسي، كي ننظم الصف السني

  2. جزاك الله خيرا شيخنا الفاضل على هذه المقاله الرائعه التي تتكلم عن الحاضنه الخارجيه من مفاهيم لامه في اقامه الدوله هذه الحاضنه تعتبر من مفاهيم لامه ومن غيرها لايمكن تكوين الدوله جزاك الله ع توضيح كل هذه المفاهيم وبيان الغموض فيه اطال الله في عمرك وجعله كل هذه لأفكار الواعيه التي توضحها لنا في ميزان حسناتك تحياتي لك ولاهل التيار السني ❤️❤️

  3. جزيت د. على توضيح هذا المفهوم الذي يجهل عنه الكثير من المسلمين.
    لا يصح ادخال الحروب وويلاتها في كل حادثه خصوصا في هذا الزمن واذا اردنا تحقيق مطالبنا والحصول على حقوقنا علينا ايصال هذه المطاليب والحقوق الى الشخص المقابل بطريقه فكريه سليمه وان نتناقش في هذا الموضوع الى ان نجد الحلول المرضيه لكلا الطرفين وبهذا ننهي الامر من دون اي خسائر جسيمه.
    وهذا مايسعى ويعمل عليه مشروعنا السني المتكامل وقضيتنا الفكريه.

  4. جزاك الله خيرا على هذا المقاله الجميله المليئة بالكلام الجميل والأفكار الكبيره وشكرا لك على توضيح هذه المفاهيم الأساسية التي من خلالها تكون الدوله عظيمه تحياتي لك ولأهل التيار السني 👍❤

  5. بارك الله أفكاركم الراقية..
    لايختلف العقلاء وذوي الحجى والوعي بترصين العلاقات مع الخارج بعد ترسيخ الفكرة في الحاضنة الداخلية وهذا يجعل تفرقة الأعداء خطوة واعية لتمكن قيام دولة تتمتع بدهاء ونظرة بعيدة تؤسس لحماية الدولة ووحدة الصف الداخلي.

  6. جزاكم الله خيرا
    والله يفتح عليكم
    وانا أقرأ المقال وافكر في داخلي كيف نقود العراق ان شاء الله
    ولو بعد حين !

  7. جزاك الله خير الجزاء على هذا التأصيل والتفصيل، فقد أجدت وأفدت، وبينت ووضحت.

  8. أنظار الدولة الناشئة على قاعدة فريق الأعداء وكسب الاصدقاء للوصول الى الهدف المطلوب ،
    مقال ينظم الثقافة السُنية على مفهوم السياسة الشرعية ،
    وهذا مانحتاجة في وسط المجتمع السني يجب أن نحذر من الخطر الذي يؤثر على ثقافتنا السنية والتعامل مع العقلاء (فرق تسد) .

  9. أن الدولة بطبيعتها تحتاج الى الكثير من المنافذ لسد حاجتها التي لا تتوفر داخلها وإن توفرت عند دول أخرى كانو قومها غير مسلمين وإن كان يجب التحالف في هذه الظروف معه هذه الدول هذا لا يعني هذا اننا تركنا ديننا وخضعنا لدينهم كما يضن البعض و هنالك مثال حي على هذا وهوه تحالف رسول الله مع الروم وقريش و إلى آخره من التحالفات التي كآنت من صالح المسلمين و أيضا تحالف السعودية معه أمريكا ما نراه انها لم تتاثر بديانه او تفكير أمريكا وما حصل فقط تبادل منفعه بين الطرفين

    – وفي النهايه جزاك الله خيرا يا خير المجددين .

  10. طرح مهم وقيم لأهل السُنة يبين لهم
    خطوات التعامل مع الآخرين وكيف
    تتم المصالح العالمية المشتركة بين
    الدول الإسلامية والغربية في تكوين مصالحهم
    محليا وعالميا… وما نراه اليوم في واقعنا كيف
    يتعامل إقليم كرودستان مع الدول الخارجية
    بسياسة ذكية فهم يعملون محليا وعالميا
    وهذا ما ذكرته سابقا شيخنا المجدد

  11. مجدد ورجل بأمة في افكارك وتفسيرك يادكتور لما دار ويدور من حولنا
    ياليت هذه المفاهيم كانت حاضرة عندما دخلنا الى الكويت وواجهنا 33 دولة نوحد اعداءنا ونحن نتفوق
    وياليتنا تحالفنا مع الامريكان لنواجه العدو الازلي الحاقد الفرس وشيعتهم بثينة صقر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى