التمكين بين مفاهيم الدولة ومفاهيم الأمة
د.طه حامد الدليمي
الإسلام دين ودولة .. لكن بمفاهيم أمة
مفهوم الدولة مفهوم سياسي عسكري، بينما مفهوم الأمة مفهوم ثقافي إنساني. أرض وشعب وحكومة. والحكومة سياسة واقتصاد وقوة.. هذه هي مكونات الدولة.
أما مكونات الأمة فكل ما يقوم عليه بناء الدولة – إضافةً إلى ما سبق – من مفاهيم إنسانية تشكل ثقافة الشعب وأخلاقه وسلوكه داخل الدولة. ولا تماسك ولا استقرار ولا نماء ولا استمرار لدولة لا تقوم على مفاهيم أمة. والإسلام دين ودولة، لكن بمفاهيم أمة.
لقد كانت مفاهيم الأمة حاضرة في دين الإسلام منذ لحظة نزوله، وذلك قبل قيام الدولة واكتمال نزول مفاهيمها. ففي سورة (العلق) كان العلم والنظر في آفاق الكون ودلائله، والنفس وما فيها من علل، والمجتمع وما فيه من طواغيت. كل ذلك موشحاً بالإيمان باليوم الآخر، ومختوماً بالسجود والقربى. وفي سورة (القلم) التي تلت (العلق) في النزول دخل الخُلُــق بشقيه: الإيجابي حثاً والسلبي منعاً ميدان التأسيس. وفيها النظر في تاريخ الماضين؛ ليأخذ المتلقي: نبياً وأتباعاً درساً في الثبات؛ فعاقبة الخروج عن السبيل، ولو قليلاً، مخيفة. ولم ينزل الأمر بدعوة الخَـلق وإنذارهم في السورة الرابعة (المدثر) قبل استكمال عدة العلم والخُلُــق ثم العبادة في السورة التي سبقتها، أعني سورة (المزمل). ولم يكتب إلا محفوفاً بجملة من الشروط والمؤهلات ابتدأت بتعظيم الرب وانتهت بالأمر بالصبر؛ فمن كان عاجزاً عن دعوة نفسه وتربيتها فهو عن غيره في ذلك أعجز.
البناء على أساس العلم بالحقائق لا القهر بالخوارق
وتواتر التنزيل المكي يربي في نفوس الرعيل الأول مفاهيم بناء الأمة وتهيئة المجتمع. تأمل سورة (الإسراء) وما فيها من مفاهيم ربانيةٍ بانيةٍ للمجتمع. منها تأسيس الدعوة على العلم بالحقائق لا على قهر العقل بالمعجزات أو الخوارق. وهو مفهوم يكاد يغيب عن ذهن المسلم اليوم. وتتابعت المفاهيم فكان منها أسباب هلاك الأمم، والتوحيد، وذم الشرك، وبر الوالدين، وصلة الأقارب، والإحسان إلى المحتاج موصولاً بذم الإسراف والتبذير علاجاً لطغيان حالة الكرم عند العربي عن حدها. وكان منها النهي عن قتل النفس والزنا وأكل مال اليتيم. وتطرقت إلى السوق لتعالج الجشع: إجرائياً فأمرت بإيفاء الكيل والميزان، وإيمانياً فذكرت أن هذا خير وأبرك عاقبة. وعالجت العقل فأرشدت إلى تفعيل مداخل علمه: السمع والبصر والفؤاد. كما عالجت النفس فنهت عن الخيلاء والكبرياء. وفي ذلك ما فيه من التواضع للخَـلق وترك التعالي عليهم، فتتقارب النفوس وينبعث الحب وتزيد الروابط بين المجتمع. ودون ذلك لا يمكن إقامة دولة قوية متماسكة.
وتربية المسلم على أنه صاحب رسالة عالمية: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (ص:88،87)، والتواصل الروحي مع الأنبياء عليهم السلام والرسالات والأمم المسلمة السابقة.. جزء من مفاهيم الأمة: (… وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ * إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:47-92). وفي سورة (المؤمنون) نسق مشابه. وهكذا؛ فكانت الفترة المكية محضِناً لتربية المسلمين على مفاهيم الأمة.
قيام الدولة على مفاهيم الأمة
ثم تأسست الدولة في المدينة وقام بناؤها، وتنزلت مفاهيمها من العدل والشورى وإعداد القوة وبسط الأمن الداخلي والخارجي وتنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وتوفير الخبز وفرص العمل وتشغيل الأيدي العاطلة وغيرها. ولكن كانت مفاهيم الأمة هي الأساس الذي قام عليه بناء الدولة. يشهد لذلك سورة (البقرة)؛ ففيها بيان تفصيلي للترابط الوثيق بين تلك المفاهيم بشطريها. ومن أمثلتها تأسيس الجهاد – الذي هو، في أصله، مفهوم دَوْلي – على الرسالة، ملخصةً بـ(الهدى) تأصيلاً وتفريعاً، وعلى الترابط الاجتماعي مشاراً إليه بالزواج من الأيامى وكفالة اليتامى، وما تبع ذلك من بيان للعلاقة الأسرية الناجحة. عدا الأمر بالزكاة والصدقة والدَّين والإنفاق في وجوه الخير. وغير ذلك من أسس الترابط الاجتماعي. مع النهي الشديد عما كل ما يقابله مما يؤدي إلى التفكك المجتمعي وعلى رأسه الربا.
وبقيت هذه المفاهيم الأممية تتنزل حتى آخر سورة (النصر) مع أن موضوعها وهو النصر على الأعداء يتعلق أكثر ما يتعلق بالدولة. لكن الله تعالى أراد من عبده المنتصر أن ينظر إليه نظرة ثانية. فالنصر الذي تحقق هو (نصر الله) لا نصره هو؛ لذا عليه أن يسبح الله تعظيماً له على إنجاز ما وعد. فالله هو الذي يُعظَّم في هذه الحال، فيلهج بذكره. وأما الفاتح المنتصر فليس له – وهو في أوْج النصر – سوى الاستغفار والتوبة مما اعترى فعله من نقص وتقصير، ولا غير. وغياب هذا المعنى هو الذي يفسح المجال لدى الفاتحين لبروز الغرور وظهور معالم الطغيان التي تبلغ مداها في استباحة البلاد المفتوحة وظلم أهلها.
عندما تطغى مفاهيم الدولة على مفاهيم الأمة
إقامة الدولة أمر ممكن متى ما ابتغيت إليه أسبابه. لكنها – إذا كانت خاوية من مفاهيم الأمة – إما أن تزول سريعاً، أو تقوم على الاستبداد؛ لأن هذه المفاهيم هي التي تصنع الدِّعامة الساندة والحاضنة الصالحة، وبفقدانها ستختل العلاقة بين الدولة والشعب فيجد الحاكم نفسه مجبراً على استعمال القوة للحفاظ على كيان الدولة. وسيجد مئة عذر وعذر (مشروع) يسوغ له حكم الناس بالقوة. وهذا هو الاستبداد، وفاعله المستبد. وليس شرطاً أن يكون المستبد شاعراً بأنه مستبد. بل قد يكون منسجماً مع نفسه وإرادته وفعله مهما كان؛ أليس ما يفعل لأجل دولة الإسلام؟ وفي نهاية المطاف ينفصل الشعار عن الواقع، فتكون الدولة إسلامية وحقيقتها استبدادية؛ فالأمر ليس بالتمني ولا بالتحلي. ولكل شيء لغته ومفتاحه.
لقد ثار الكوبي فيدل كاسترو على الطغيان في بلده، ومعه الأرجنتيني تشي جيفارا الذي شارك في الثورة على الاستعمار في عدة بلدان، حتى إذا تمكنوا من الحكم مارسوا الظلم والقتل الارتجالي، ولكي يشرعنوا ما يفعلون ويقنعوا أنفسهم بما يصنعون وضعوا له اسماً من عند أنفسهم: (الإعدام الثوري)!
عندما لا تقوم الدولة على مفاهيم الأمة يكون الجيش حامياً للدولة لا للشعب، وتتحول الدولة إلى كيان بوليسي مخابراتي، ليس لأجهزته الأمنية مهمة تتعدى التجسس على الناس ومتابعتهم ومطاردتهم حفاظاً على سلامة الحاكم وأعوانه، وعلى هيكل الدولة ومؤسساتها؛ لأن العلاقة بين الدولة والأمة أو بين الحاكم والشعب استحالت إلى كراهية وشك وتوجس وخوف. على العكس مما لو قامت الدولة على مفاهيم الأمة فإن الجيش يكون حامياً للشعب، والحاكم جزء من هذا الشعب فحمايته تحصيل حاصل؛ وعندذاك يستميت الشعب في الحفاظ على سلامة هذا الحاكم.. هذه الدولة.. هذه الأمة.
هل أدركت الآن أين ورطة (داعش)، والكيانات المماثلة؟ ولمَ لمْ يسلك النبي صلى الله عليه وسلم طريق الطفرة في إقامة الدولة؟ إن إقامة دولة على العامل العسكري مع إهمال مفاهيم البناء المدني الأممي سيؤدي بهذه الدولة إلى الاضطراب فالزوال. وإن أسمت نفسها دولة أو خلافة إسلامية؛ فالعبرة بالحقائق والمعاني لا بالأسماء والأسمال والأماني.
2022/4/13
إذن كان الجزء الاول من الرسالة تنضير وتنظيم مفاهيم الدولةالحديثه قبله التمكين من أول لِبنه إلى آخر ما سيكون من ملموس على الواقع الجغرافي بدون أي عجلة تحرق مراحل التأسيس،!؟
وهذا أساس مانفذه الحبيب المصطفى على ضوء الوحي بخارطة ربانية تقوم على ثلاث أصول للبناء الرباني،
إقرء بسم ربك…. عِلم رباني،
ٱلَّذِي خَلَقَ ﴿١﴾ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ، ألأطوار والتطوير
ممثلة بالحضارة الأخلاقية الربانية،
وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينٗا وَيَتِيمٗا وَأَسِيرًا ﴿٨﴾ إِنَّمَا نُطۡعِمُكُمۡ لِوَجۡهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمۡ جَزَآءٗ وَلَا شُكُورًا.
وعلينا أن نكون ونتكون كذالك،
وجزى الله خيراً الدكتور على هذه المقاله والتنضير العملي الواقعي في مفهوم التكوين
الدولة المدنية التي تقوم على مفاهيم اسلامية هي الدولة التي اقامها النبي محمد(ص)دولة متكاملةبجناحيها السياسي والعسكري لا يطغى بعضها على بعض ،فالاستقرار الداخلي مهم لنهضة هذه الدولة التي يجب ان تمتلك المرونة للعلاقات الخارجية .
بورك قلمك دكتور وجزاك الله خيرا
ماشاءالله تفصيل رائع وواضح في مفهوم الدولة
وتكوينها وبما أمر ألله وذكره في قرانه العظيم
لجعل هذه المفاهيم الاممية راسخة وقوية
بمفهوم الربانية والقضية الاجتماعية ومن سار
على هذه الخطوات نجح وبثبات في مفهوم الدولة الربانية المدنية…وهذا ما فعله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسار على نهجه الصحابة رضي الله عنهم
وعملت به الدولة الأموية وكيف ازهرت حضارتها وعلا شأنها بحكمها مشارق الأرض ومغاربها
وبمسارها ومفاهيمها الربانية المدنية
وفقكم الله وبارك جهودكم لطرح مفهوم الدولة الربانية
والسبيل للعمل بهذه الخطوات الإيجابية
جزاك ربي كل خير قرأت المقالة وانا بكل سرور ممتن لحضرتك على هذه المفاهيم التي هية مفتاح لكل عقدة ملوثة بغطاء ثقافة التشيع الخبيث ، ونحن باذن الله نكن داعمين لهذا الفكر الرباني الذي هو لبُ الحكمة وكما قال جل جلاله (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب).
الدولة التي تقوم على أساس الربانية بين سنن الله الشرعية وسنن الله الكونية تكون بمفاهيم أمة ولهذا عندما تلقوا الصحابة الدين من رسول الله صلى الله عن طريق الوحي أصبحوا بمثابة أمه في بداية صدر الاسلام بين التحصين والتكوين والتمكين ثم أبلاغ الرسالة ربهم للعالمين
( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ )